المقالات

الدموع الطيارة

الأحزان كالضغط الجوي تُحرك الساكن وتقلب المتوازن، ولو كانت الحياة بلا ألم ولا نصب لما عرفنا معنى الراحة والوناسة، ولكنها الحياة لا تخلو من تصادمات ولا تدير ظهرها للخلف؛ فإما أن تخرج منها بعبر ودروس أو بمآسٍ وجروح .
إن حب الحياة شيء فطري جُبل عليه الإنسان على الرغم من قصرها؛ إذ لا تحتمل القطيعة كما يصفها السلف وإلا فمن منا لم يتجرَّع قسوة الفراق ومرارة الجراح، ومن منّا لم تمر عليه سحائب الأحزان؛ فذرف دموع الحسرات وأنين الآهات؛ ففراق من تحبه له في القلب حُرقة وفي الحلق غصّة لعلمنا بأن ذكر الموت في حد ذاته يقض مضاجع المسالمين طالما هو مغروس في ضمير العادات والتقاليد.

قبل أيام من فقد أخي الحبيب، كنت وإياه نتجاذب الحديث بين ضفتين متشابهتين لكنهما بعيدتان هو في مستشفى في مكة وأنا في مستشفى في الرياض، نتلمّس الذكريات تارة وندعو الله أن رمضان يجمعنا ووسائل التواصل الحديثة المستمرة بيننا عندما أذكرها هي التي نكأت ذكريات تلك الجراح القاسية، وكلنا نعلم أن الموت أمر محتوم وحقيقة واقعة طال العمر أو قصر والفراق موجع جدًّا، ولم أصدق حواسي بأنني لن أراه ولن أسمع صوته ثانية؛ فكيف لمثلي أن يصف تلك المشاعر، واعذرني أخي القارئ عندما أصف لك تلك العواطف التي هي في منظوري أقسى وأمر من الفقد والفراق .
وليس بغريب على الإنسان حقيقة أن يفقد صوابه ويغيب عنه القرار، ولا يملك التفكير وقد يدخل في نفق الصمت والذهول، وحينها لا يشعر بوجود أحد معه؛ فيبقى وحده ويحزن وحده ويبكي وحده؛ فالبكاء نعمة وفيه راحة؛ وكأنك ترى خوارق من خلف ستر رقيق .
رحمك الله يا أبا طلعت رحمة الأبرار، وأسكنك مساكن الأخيار في جنات تجري من تحتها الأنهار، رحم الله شبيه أخيه أول من أهداني ساعة، ورحم الله من أهداني أغلى قلم حبر باركر عيار 21.. رحم الله أخي المُعلم والمُربي والقدوة والإنسان..
(خـاطـرة):
كان بالبصرة عابد حضرته الوفاة فجلس أهله يبكون حوله؛ فقال أجلسوني ثم أقبل عليهم وقال لأبيه يا أبت ما الذي يبكيك؟ قال يا بُني ذكرت فقدك وانفرادي بعدك والتفت إلى أمه، وقال ما الذي يبكيك يا أماه؟ قالت لتجرعي مرارة ثكلك وبعدها التفت إلى أبنائه وقال ما الذي يُبكيكم؟ قالوا اليتم والذل والهوان من بعدك ونظر إليهم جميعًا وبكى فقالوا له وأنت ما يبكيك؟ قال أبكي لأني رأيت كلًا منكم يبكي لنفسه لا لي ! أما فيكم من بكى لضعف قوتي وقلة حيلتي، أما فيكم من بكى لم ألقه عندما أقف بين يدي رب الأرباب ..ثم شهق شهقة وسقط على وجهه ومات !!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى