نحمد لله على نعمة الإيمان، والأمن في الأوطان، وبعد:
فإن أنفس ما يملك المرء بعد الدَّين وطنُ يعيش على أرضه، ويحيا من خيراته، ويَرْتوي من مائه، ويتنفس من هوائه، بأرضه وُلد، وعلى تربته درج، وبخيراته نَعِم، وفي محاضنه نشأ، وطن هو منبعُ ذكرياته، ودارُ إِقَامَتِهِ وَأَمَانِهِ، ومصدرُ راحتِهِ وانتمائِهِ، وموطنُ آبائه وأجدادِه، ومأوى أبنائِه وأحفاده.
والمملكة العربية السعودية – حرسها اللهُ- غُرّةُ جبين البلدان، وعلامة فارقة بين الأوطان، أرضها مَهَوى أفئدةِ قلوبِ المسلمين عامّة، وقلوبِ أهلِهَا خاصَّة، بها نَزل الوحي، ومنها شعَّ نورالإسلام، وبها وُلد أعظم إنسانِ، وفي ترابها وُورِيَ أَطْهَرُ جُثْمَانٍ، وهي مأرِز الإيمان، مَنَّ اللهُ عليهَا بتوحيد اللهِ، وإخلاصِ العبادةِ له، فشعائر الإسلام فيها مُعلَنة ظاهرة، فلا قبورَ فيها ولا أضرِحَة، ولا كنائس فيها يُنسَب فيها الولد لله الواحد الأحد، تفضلَّ الله عليها باجتماعِ الكلمةِ، ووَحْدَةِ الصفِّ، أئمها ولاةَ أمرٍ موحّدين مٌخْلِصين، أَبْدَلَ أهلَهَا من بعد خوفِهِمْ أمنًا، وأخْرَجَ لهم من الأرض كنزًا، وجعلها لبيتِهِ العتيقِ مكانًا ومَوْطِنًا، فأضحت قبلةً للمسلمين ومنارةً للعلم والدّين، وإذا أردت معرفةَ قدرِ هذا الوطن فانظر إلى ما حولك من بلدان وديار، قال تعالى: (أوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ) (سورة العنكبوت الآية 67).
وحب الأوطان والحنين إليها والانعطاف نحوها، أمرٌ مركوز في الفطَر جُبلت عليه النفوس، أمر به الإسلام فقد وقف النبي -صلى الله عليه وسلم- يُخاطب مكة المكرمة قائلًا: “ما أطيبكِ من بلد، وأحبَّكِ إليَّ، ولولا أن قومي أخرجوني منكِ ما سكنتُ غيركِ” رواه الترمذي.
وعندما هاجر إلى المدينة، واستوطنها أَلِفَها وكان يدعو الله أن يَرزقَه حبَها بقوله: (اللهم حبَّب إلينا المدينة كحبِنا مكة أو أشد). رواه البخاري
وجاء في “أخبار مكة” أنه لما قدم أصيلٌ الغفاري من مكة قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: يا أصيل: كيف عهدت مكة؟ قال: والله عهدتها قد أَخْصَب جَنَابُها، وابَيضَّت بطحاؤُها، وأَغدَق إذْخرُها، وأسِلت ثُمَامُها، فقال: “حسبك -يا أصيل- لا تحزنا، وفي رواية: ويَّها يا أصيل! دع القلوبَ تَقرُ قرارَها.
لقد منَّ الله على هذه البلاد بالإمامَ المُؤسِّسَ الملك عبد العزيز -طيب الله ثراه- ورجالَه -رحمهم الله-، فوفَّقهم الله وأعانَهم فوحَّدوا البلاد، وبسَطوا الأمن، وأقامُوا الشرع، فكان عهدُهم عهدَ تحوُّلٍ في تاريخ الوطن، انتقلَت به من حالٍ إلى حالٍ، تحولت من مجتمع يُعانِي من الحياة البائسة، والفوضَى العامة، والجهل المظلم، والمرض المُفْنِي، والجوع المُهلِك، وسَطوَة السُّرَّاق والنُّهَّاب إلى أجواء الأمنِ والاطمئنان، والاستقرار الأمان، والوحدةِ والانتظام، والتوحيدِ والوئام، والعلم والصحة والسلام، وحياة الرخاء والازدهار، فلله الحمدُ والشكر أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا.
كانت بلادُنا غابةً بشريَّةً تعاني جهلًا دينيًا، وتمزقًا سياسيًّا، وخلالًا أمنيًّا، وفسادًا اجتماعيًا، بلدًا مُتناحِرًا يعيشُ على هامِش التاريخ، ثم أصبحت مضربَ الأمثال بين الدول في هذا العصر في الأمن والاستقرار، والتطور والازدهار، في ربوعها ينتشر الخير وتُحقَن الدماء، وتُصان الأعراض وتُحفَظ الأموال، وتتحقق السعادة المنشودة وتتقدَّم المجتمعات، وتتطوَّر الصناعات؛ وما ذاك إلا لأن دستورَها كتابُ الله وهديَها سنة ُرسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ارتفعَت مكانتها، وعلى شأنها حتى غدَت شريكًا مع دول الصف الأول في صُنع القرار.
محبتنا لهذا الكيان العظيم ليس كلمات تُردَّد، ولا شعارات تُرفَع، بل حبُّه دم يجري في العُروق، ونفس تخفق به القلوب، يتمثل بتحقيق توحيد الله، وإخلاصه بالعبادة، والتزام أوامره، واجتناب نواهيه، وبالتزام منهج الله على ترابه وخارج حدوده، وبالدفاع عن أرضه والمحافظة على مكتسباته، وممتلكاته ومنجزاته، وعدم الإضرار بها، أو التعدّي عليها، وبالانضباط بقوانينه وأنظمته، والمساهمة الفاعلة في مسيرة بنائه وتنميته، والبذل في سبيل نهضته وتطوره وتقدّمه، كلٌّ في موقعه، وحسب وسعه وطاقته، وأن يسعى كل فرد من أفراده لتنميته وازدهاره، والرفع من شأنه، محبة الوطن تظهر في المحافظة على نظافته وجماله، محبة الوطن تظهر في إخلاص العامل في مصنعه، والموظف في إدارته، والمعلم في مدرسته، محبة الوطن تظهر في إخلاص أصحاب المناصب والمسؤولين فيما تحت أيديهم من مسؤوليات وأمانات، محبة الوطن تظهر في المحافظة على أمواله وثرواته، محبة الوطن تظهر في نشر الخير وتحقيق العدل والقيام بمصالح العباد كلًا حسب مسؤوليته وموقعه، محبة الوطن تظهر في المحافظة على أمنه واستقراره والدفاع عنه، محبة الوطن تظهر ببثَّ القيم والأخلاق الفاضلة، ونشر روح التسامح والمحبة والأخوة بين الجميع، وأن نحقق مبدأ الأخوة الإيمانية في نفوسنا، وأن نقيم شرع الله في واقع حياتنا وسلوكنا ومعاملاتنا، ففيه الضمان لحياة سعيدة وآخرة طيبة؛ (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(سورة النحل الآية 97).
محبة الوطن تظهر في المحافظة على اللحمةِ الوطنية واجتماعِ الكلمة ووحدة ِالصف، وعدم ِ التفرُّق والاختلاف، والتفاف الرعية حول الراعي، والأُلفة بين أبنائِه تحت قيادةِ قادة هذه البلاد المباركة قال -تعالى-: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) (سورة آل عمران الآية 103).
حب الوطن يظهر في تعزيزِ قيمِ المواطنة لدى الناشئة ليكونوا شركاء في التقدم الذي تعيشه بلادُنا في كافةِ المجلات، وتحصينِهم من الأفكار المتطرفة وتربيتِهم على الوسطية والاعتدال.
وجملة القول إن محبة الوطن الصادقة، والمواطَنَة الصالحة، هي توحيد خالص لله، وعبادة صحيحة، ومنهج مستقيم، وإخلاصٌ وعمل، ونصحٌ صادق للوطن رُعاةً ورعية.
وللأوطان في دمِ كلِ حُرٍ * يدٌ سَلَفت ودينٌ مستحقُ
أسأل الله -عز وجل- أن يديم على وطننا الأمن والاستقرار، وأن يحفظه من مكر الماكرين، وعدوان المعتدين، إنه جواد كريم.
• عميد كلية الشريعة والأنظمة سابقًا بجامعة الطائف