عندما كنت صغيرًا في سني لا أتجاوز الثامنة من عمري، كنت أستمتع بمجالسة والدي ذاك الشيخ الكبير، والذي كان مؤذنًا لمسجد القرية، مسجد حجري صغير ساهم كل سكان القرية في بنائه، وأذكر تفاصيل المسجد وأماكن جلوس كل شخص من كبار القرية.
وفي يوم كنت مُتجهًا مع والدي ليرفع أذان صلاة الفجر، كان مميزًا في صوته، كان يمثل الصوت الجبلي القوي، كان يصوم أهل القرية على أذانه ويفطرون على أذانه لدقته في التوقيت، رغم أنه لا يقرأ ولا يكتب فكانوا يقولون: (أذّن عوضة أفطروا) أيام جميلة وذكرى جميلة، بكل صراحة أعتذر عن خروجي كثيرًا عن الموضوع لكن هذا طبع فيني عند سرد القصص ارجو أن لا تملوني.
بعد أن أذّن ذاك الشيخ لصلاة الفجر وبعد السنة الراتبة، رفع يديه يدعو ربه كعادته فلفت انتباهي دعوته: (الله يعز ابن سعود) ثلاثًا، فسألته سريعًا بفضولية طفل (تحب الدولة) فلم يجاوبني حتى أكمل دعواته (علمني درسًا في عدم المقاطعة) ثم التفت وقال بلهجتنا العامية: (وش تقول وأنا أبوك ؟) قلت: (أنت تحب الدولة ؟) فتبسم -رحمه الله- وقال ذكرني بعدين أقلك قصة.
كم كنت متشوقًا لسماع تلك القصة، كم دارت خيالات في ذهني عنها، وبعد أن أصبحت في التعليم، عرفت أن هذا نوع من التشويق لترسيخ المعلومة، رحم الله كبار السن وحفظ من بقي منهم لم يدرسوا كتب الفلسفة في التربية ولا نظريات الإرشاد التربوي، ومع ذلك خرّجوا جيلًا مليئًا بالتربية الحقيقية، اعذروني للمرة الثانية خرجت عن الموضوع كما قلت طبع فيني.
كان والدي مشغولًا ذاك اليوم، ولم أستطع سماع جوابه على سؤالي، في صباح اليوم التالي انتهزت الفرصة فقد وجدته مع والدتي -رحمها الله- يتناول قهوته السعودية مع حبات التمر، ويسمع لإذاعة لندن (هنا لندن) أحببنا تلك الإذاعة من حب آبائنا لها، وبعد أن خَلُصَ من سماع الأخبار قلت له يا أبوي أنت بتقلي قصة ليش تحب الدولة، فضحك وقال: ما نسيت يا فهد، كيف أستطيع أن أنسى وكل هذا الشوق يسابقني.
بدأ في سرد القصة، وقال: يا فهد تعرف بيتنا القديم المبني من الحجارة وسقفه من خشب العرعر والطين، قلت: نعم أعرفه، قال: في أسفله غرفة للمواشي (أكرمكم الله)، وكانت هي رأس مالهم في الماضي مع مزارعهم التي يعملون فيها من الصباح حتى مغيب الشمس، كانت تلك الغرفة تُسمى (السافلة)، قال يا فهد إذا جاءنا المطر الشديد كان سقف الدور العلوي يخر المطر منه علينا، ولا نستطيع البقاء فيه فننزل في السافلة (حياة تعب وشقاء وقوة، صبر وإيمان بالله وبكرمه) كل ذلك اتقاء المطر، فمن أخرجنا من بيوت الحجر والطين إلى البيوت المسلحة (كلامه هو) ذات الأنوار والكهرباء يستحق منّا الدعاء في كل صلاة.
(اللهم أعز ابن سعود)، وارحم المؤسس الملك عبد العزيز وأبناءه البررة، واحفظ لنا ملكنا سلمان بن عبد العزيز وولي عهد الأمين، حُق لنا أن نفخر ببلدٍ أعز مواطنيه ورفع شأنهم بين الأمم.
0