المملكة العربية السعودية منذ بزوغ فجرها كدولة فاعلة في النظام العالمي، ولها دستور يتحاكم الناس إليه فيما شجر بينهم بالوجه الشرعي. بزغ ذلك النور في السابع عشر من جمادى الأولى عام 1351هـ الموافق للثالث والعشرين من سبتمبر عام 1932م بإعلان المؤسس الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود -غفر الله له- توحيد البلاد، ولازالت منذ ذلك التاريخ تشهد نهضةً كبرى في جميع شؤونها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والعدلية والثقافية، وفي كل عام نلحظ اتساعًا في رقعة هذه النهضة عن العام الذي قبله ونموًا طال اتجاهات أفقية وعامودية، ما لفت إليها انتباه العالم واشرأبت إليها أعناقهم حتى غدو يتخذون منها نموذجًا تحوليًا محطًا للأنظار. وإذا ما عدنا بالتاريخ إلى مرحلة النشأة والتأسيس للبحث في أسباب هذا التفوق والرفعة والاستقرار والرسوخ في المنهج وفي السياسات، لنضع أيدينا على تفسيرات منطقية وعلمية تفسر بروز هذا الدور الفاعل والحيوي على هذا النحو الذي يظل يفاجئ العالم بنجاحه وتفوقه وتأثيره في محيطه الإقليمي والدولي؛ فأرجع عددًا من المؤرخين أسباب ذلك إلى العامل الديني والاجتماعي، فقد كان لهما أكبر الأثر في قيام هذه الدولة وبروزها بهذا الحجم من التأثير ولفت الانتباه والمكانة، فالمنهج الشرعي الذي اتخذته دستورًا لها ما أبقاها متماسكة على مدى أطوارها الثلاثة فكان أحد أهم الأسباب؛ وذلك لأصالة هذه الدعوة المباركة وقيامها على بنيان متين بدءًا من الاعتقاد الصحيح ومصادر التلقي وفهم النصوص من منبعها الأول؛ مرورًا بالتطبيق العملي وفق منهج السلف الصالح مقتدين بسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين مع استهداف مقاصد التشريع وغاياته؛ لذلك كان شغل العلماء الشاغل في تلك العهود تلقي العلم والدعوة إليه وتعليم الناس أمور دينهم، فلم يكن يرمون من دعوتهم -كما أكد المؤرخون- إلى تحقيق مآرب سياسية أو أطماع سلطوية، على الرغم من تهيئة الفرصة المواتية لهم بسبب الأزمات العصيبة والظروف القاسية التي عصفت بالكيان في الطورين الأول والثاني؛ إلا أن العلماء بقوا بمنأى عن أية تطلعات للسلطة أو أطماع سياسية أو الارتماء تحت جنح الكيانات الإقليمية المناهضة في تلك الفترة من الزمن، بل على الضد من ذلك بذل العلماء تجنيب الناس من أن يصبحوا طرفًا في الصراعات بل عملوا على تثبيت الناس بالاعتصام بدينهم والتمسك بما أخذوه على أنفسهم من عهود وبيعة لأولي أمرهم، فجنبوا بلادهم الدخول في الخراب والفوضى.
مع مرور تلك الأحداث استمرت حياة الدولة بالعودة والنهوض مرة تلو مرة، حتى بُعث للأمة السعودية في طورها الحديث الإمام الموحد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن -طيب الله ثراه- الذي أرسى دعائم الدولة الحديثة ووثق صلاتها بمحيطها الإقليمي والدولي، وبوأ العلماء والدعاة مكانة رفيعة بما رأى فيهم التمسك بمنهج سلفهم -رحمهم الله-، وبقيت هذه الصفة الفريدة في سلالة الإمام المغفور له -بإذن الله- تتوارث إلى يومنا هذا تحت ولاية الملك الصالح سلمان بن عبد العزيز وولي عهده رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز– حفظهما الله- فالعلماء هم ورثة الأنبياء وصمام أمان الأمة في كل زمان ومكان.
باحث في الشريعة والقانون