كثيرًا ما يمر بنا في وسائل الإعلام مصطلح “الابتزاز”، وغالبًا ما يكون في المعاملات المالية أو الأخلاقية. إلا أن ما أعنيه في هذا المقال هو الابتزاز النفسي والذي أعرفه إجرائيًّا بأنه تهديد نفسي مستمر لشخص تجمعنا به علاقة حميمية كالأب والابن والزوجة، ومن في حكمهم باحتمالية استمرارية العلاقة من عدمها أو التهديد بأحد مستلزماتها من عطاء وحب وتفانٍ وغيره؛ وذلك بهدف إخضاع الطرف الآخر والحصول منه على فوائد شخصية، ومن الطبيعي أن تمر العلاقات الإنسانية بأطوار من الانتعاش والخفوت، وكمختصين نفسيين فإننا نقرأ الشخصيات التي تعتمد على الابتزاز كوسيلة في التواصل مع الآخرين بأنها شخصيات تُعاني من اضطرابات ومشاكل نفسية، إما أن تعود إلى مرحلة النشأة الأولى، والتي تشكّلت من خلال تعامل الطفل مع والديه، وإما أن تكون سمة ثقافية عميقة تكرسها المفاهيم الدينية أو الاجتماعية، وتذكر الأدبيات النفسية أن هناك مجموعة من الأنماط الوالدية في التواصل مع الأبناء وأشهرها هو النمط الآمن والنمط القلق والنمط المتذبذب. ولعلي هنا أفترض أن من يعتمد على أسلوب الابتزاز النفسي قد مر بتجربة المعاملة الأبوية المتذبذبة، وأحد الأمثلة البارزة للابتزاز النفسي هو مفهوم (بر الوالدين)، وبقليل من التفكير نلاحظ أن هذا المفهوم يتكوّن بالتجربة الشخصية، وله جذور عميقة في المفهوم الثقافي الديني. وأنا هنا لا أحاول أن أشخص الأسباب فالظاهرة النفسية معقدة ولا يمكن إرجاعها لسبب واحد، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جُله، ولعله أبرز ميدان تجد فيه مشكلة الابتزاز النفسي واضحة وجلية، فتجد كثيرًا من الإسقاطات على هذا المعنى تأثر بشكل سلبي على نشأة الأطفال، وأزعم أن هذا المفهوم تم إساءة استخدامه من الآباء والأمهات حتى أضحى سكينًا مسلطًا على رقبة الابن يهدده دومًا في أمنه النفسي وبناء ثقته وبناء ما يُسمى بالذات الصلبة. ويمر بنا في العيادات النفسية كثير من الآثار السلبية لمثل هذا المفهوم وما يخلفه على البعض من أثر سيئ على بنائهم النفسي والاجتماعي وعلى قراراتهم الحياتية والوظيفية، والآية الكريمة (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) (سورة الإسراء الآية 23) لم تشرع الابتزاز النفسي كما يفهمه البعض، ولكنها موجهة للأبناء في نصيحة وتوجيه لأهمية العلاقة الجيدة مع والديهم، وليست كما نفهمها كآباء بأنه حق لنا نُطالب فيه أبناءنا ليلًا ونهارًا، ونقيدهم بشخصياتنا وخياراتنا في فهم قاصر واستغلال مؤذي للآية القرآنية. وحاشا لله أن يجعل مصير إنسان في يد شخص آخر مهما كانت العلاقة قريبة ووطيدة؛ لأنه خرق أساسي لمبدأ الحرية التي قامت عليها دعوى الإسلام. فنحن نحتاج كثيرًا من المراجعة وإعادة القراءة للنصوص الدينية والمفاهيم الثقافية لفض الاشتباك وتعريف مفهوم (البر) وتنقيته من شبهة الابتزاز؛ ليساهم في بناء علاقة نفسية صحية بين الآباء والأمهات من جهة وأبنائهم من جهة أخرى.
0