محمد بربر
تبدأ رواية “المحارم” بفعلٍ سرديّ مكثف ومثير، يضع القارئ فورًا في صميم الحدث. العتبة النصية الأولى في الرواية تتمثل في رحلة البطل عبد البديع إلى الخليج، مستخدمًا ضمير المخاطب الذي يخاطب به الراوي نفسه. هذا الأسلوب يمنح السرد عمقًا داخليًا وتأملًا في الذات، مما يعكس اغترابًا داخليًا يتجاوز الاغتراب الجغرافي.
يُعد هذا الأسلوب إحدى الآليات التي تدفع الرواية نحو تفاعل القارئ مع البطل، حيث تضعه مباشرة في مواجهة الحدث والشخصيات، دون مقدمات ثقيلة أو تعريفات مطوّلة. هنا، يستحضر الكاتب تيار الوعي كأداة فنية لدمج الحاضر بالماضي، حيث تبدأ الرحلة الجغرافية بالتوازي مع رحلة داخلية.
تمكن فكري داود ببراعة من استخدام تقنية “تيار الوعي” في بناء شخصية عبد البديع، ليكشف من خلاله عن تداخلات الحاضر والماضي والخيال. الشخصيات التي تحيط بالبطل مثل صابر وسهير تقدم كـ”محارم”، ليس بالمعنى الحرفي فقط بل أيضًا كتجسيد للقيود النفسية والاجتماعية التي تحيط بالبطل. تتعاظم هذه القيود مع توالي الأحداث، مما يعكس تحليلاً نفسياً عميقاً للشخصيات التي تبدو مقيدة بقيودها الاجتماعية والوجودية. يبرز هذا الأسلوب البنية النفسية المعقدة للشخصيات، ويتيح للقارئ الدخول في عوالمهم الداخلية بشكل تدريجي ومتعمق.
تتسم اللغة في “المحارم” بالبساطة والسلاسة، لكنها تحمل عمقًا رمزيًا ودلاليًا. استخدام الكاتب للتشبيهات والعبارات المبتكرة يكشف عن براعة في صياغة صور فنية مؤثرة، يعكس مهارة الكاتب في مزج السرد الواقعي بالتعبير المجازي، مما يضفي على العمل بعدًا أدبيًا وفنيًا يجذب القارئ إلى عوالم جديدة. كما أن بساطة التراكيب اللغوية تخدم السرد من حيث سرعة التلقي والانغماس في النص، دون تعقيد غير مبرر.
تتسم الرواية بمرونة لغوية ملحوظة، حيث يجمع فكري داود بين الفصحى والعامية بطريقة ذكية، تبرز اللهجات المحلية ضمن الحوار كجزء من الهوية الثقافية للشخصيات، مما يضفي على النص واقعية أكبر. هذا التضفير بين الفصحى والعامية يزيّن السرد ويمنحه طابعًا إنسانيًا عميقًا. هذه التقنية تؤكد على عمق التفاعل الثقافي بين الشخصيات والمجتمع المحيط بها.
تُعد “حاضرة تثليث” في السعودية المكان الرئيسي الذي تدور فيه أحداث الرواية، وهو ليس مجرد إطار جغرافي، بل يتحول إلى عنصر فعّال في تطور الشخصيات والأحداث.
الكاتب يوظف المكان بشكل ذكي ليعكس تضاد الاغتراب المكاني مع الاغتراب النفسي، مما يضيف طبقة جديدة من العمق للنص. المكان هنا ليس محايدًا، بل يتفاعل مع الشخصيات ويؤثر في مصائرها. هذا التوظيف يذكرنا بأعمال مثل “مائة عام من العزلة” لماركيز، حيث يصبح المكان جزءًا لا يتجزأ من الرواية ككيان حيّ.
تناقش الرواية مجموعة من القضايا الشائكة مثل نظام الكفيل وكذا نظام المحارم، بأسلوب واقعي ونقدي. شخصية عبد البديع تتفاعل مع هذه القضايا بوعي وسخرية مريرة، مما يجعل الرواية ليست مجرد سرد لأحداث شخصية، بل مرآة تعكس التحولات الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع الخليجي.
يتيح هذا التفاعل مع القضايا الاجتماعية للقارئ فهمًا أعمق للأزمات الإنسانية التي تواجهها الشخصيات، ويثير التساؤلات حول حدود الحرية والاغتراب في ظل أنظمة اجتماعية قمعية.
التوظيف الفني للرمز والتأويل
الرواية إذن مليئة بالرموز والتأويلات التي تضيف بعدًا فلسفيًا وأدبيًا للنص، الشخصيات، والأماكن، والأحداث ليست مجرد عناصر سردية، بل تحمل دلالات رمزية ترتبط بمفاهيم أعمق مثل الاغتراب، الهوية، والانتماء.
فكري داود يترك القارئ يتأمل في دلالات الأحداث والشخصيات، مما يعزز من القيمة التأويلية للرواية.
تقود الرواية الشخصيات نحو مصائرها المحتومة، حيث لا يوجد مفر من المواجهة مع الواقع المرير، والمصائر السيئة التي تصل إليها الشخصيات، سواء بالتصادم أو الخضوع المهين، تأتي كنتيجة طبيعية للتفاعل مع الظروف القاسية التي تحيط بها.
هذا البناء الدرامي يعزز من المأساة الإنسانية التي تحملها الرواية، ويجعل منها نصًا أدبيًا يحاكي الواقع بصدق، دون تزييف أو مبالغة.
أخيرًا، إن “المحارم” لفكري داود رواية تجمع بين السرد الواقعي والتأمل الفلسفي، مما يجعلها نصًا غنيًا بالدلالات والمعاني، واستخدام تيار الوعي، اللغة البسيطة والعميقة، توظيف المكان كعنصر فني، ومناقشة القضايا الاجتماعية بأسلوب ناقد، كل هذه العناصر تجعل من الرواية إضافة أدبية مهمة في مسيرة الإبداع العربي.
فكري داود يثبت مرة أخرى قدرته على تجسيد الواقع الإنساني المعقد بأسلوب فني رفيع، مما يضعه جنبًا إلى جنب مع كبار الأدباء العرب المعاصرين.