الثقافية

كتابة السيرة الذاتية من التأصيل إلى التوجيه .. قراءة تعريفية ومقاربة نقدية

د. يوسف حسن العارف

قراءة تعريفية ومقاربة نقدية

(1) والسيرة الذاتية ” يمكن اختزال تعريفها بعبارة موجزة أنها ” قصة حياة “، نعم فالسيرة الذاتية في حقيقتها هي قصة حياة إنسان فرداً كان أم جماعة، كتبها بنفسه أو كتبت عنه، مسجلاً فيها ومصوراً مجريات حياته بكل تفاصيلها ومآثره وآثاره وأفراحه وأتراحه، من باب الحديث عن نفسه إما تقديراً لذاته أو نقلاً لخبراته، وإثبات الوجود أو غير ذلك من الدوافع والمبررات “.
بهذا المدخل التعريفي الذي شدنا لقراءة الكتاب والتواصل معه مثاقفة واستفادة ثم تعريفاً ونقداً، يلج القارئ إلى (174 صفحة بين دفتي هذا الكتاب، وعبر (15 خمسة عشر) فصلاً يناقش فيها المؤلف الصديق والزميل التربوي الأستاذ صلاح الحارثي مسألة في غاية الأهمية، وهي كتابة (السيرة الذاتية) أو (السيرة الغيرية) من منظور تأصيلي/ ديني/ إسلامي. انطلاقاً من علاقة ثقافية متميزة بين المؤلف وجنس السيرة الذاتية/ كمنجز أدبي غمر المدونة الأدبية والثقافلية في العصور الأخيرة حتى أصبحت هي المنافس للرواية والشعر على الأحقية بمصطلح (ديوان العرب).
لقد تعلق المؤلف – الأستاذ صلاح الحارثي – بفن كتابة السيرة (وشغف به حباً وتاه عشقاً ووداً) وسعى للمساهمة (بالجهد القليل والنزر اليسير مما فتح الله به من العلم في بناء هيكل (السيرة الذاتية ورسم خارطة طريق لمن ابتغى السير عليه، من منظور تربوي وفكري إسلامي الهوى والمنطلق والأساس، بغية الإصلاح والاستصلاح.
ومن هذا المنطلق كان عنوان الكتاب عتبة حاثة، ولافتة ترميزية: (السيرة الذاتية/ محاولة في التأصيل والتوجيه لرسم خارطة طريق)، وكل هذه المفردات العنوانية دالة على الهدف والغاية للمؤلف الكريم وفقه الله.
* * *
(2) ومنذ البدء، يضعك المؤلف أمام منهجية أكاديمية/ تربوية في بحث الموضوع وسبر أغواره مبتدئاً بما يسميه المتخصصون في البحوث والدراسات التربوية: إجراءات الدراسة وأهدافها ومبرراتها وأهميتها وحدودها والتعريف بمصطلحاتها.
وإن كان هذا المنهج حتمياً وضرورياً في الدراسة الأكاديمية والرسائل العالية/ التربوية تحديداً، فإنه يمكن التجاوز عنه في المؤلفات والكتب المعرفية وإدراج ذلك – بشكل مختصر ومفيد – في مقدمة المؤلف/ الكاتب.
ويمكن لنا – نقدياً – أن نعتبر بداية الكتاب من الفصل الذي لم يتم ترقيمه وهو عندي/ الثاني ص ص 23-42 حيث يقف المؤلف عند مصطلحات الدراسة ويتناولها بالتعريف والتمحيص وتحديد المفهوم منها إجرائياً وهي: السيرة، والذات، والتأصيل، والتوجيه، والتحدث بنعمة الله، والتزكية، والاعترافات.. وبعد مناقشة جادة، وتعاريف وافية من اللغة إلى الإصلاح، وتتبع التطورات التدوينية والتاريخية لمصطلح السيرة الذاتية في مجالها الأدبي عبر التراث العربي الإسلامي وعبر الطروحات الغربية، يصل إلى تحديد هدفه من هذه الدراسة/ هذا الكتاب بقوله في نهاية الفصل:
” هذه الدراسة تحاول أن تبحث عن أصل السيرة الذاتية في التراث العربي الإسلامي لغة وتعاملاً وعملاً، والبناء عليها لتكون هناك خارطة طريق لكاتب السيرة الذاتية المسلم، حماية له من تيارات الاختطاف أو الانبهار بالمفاهيم الغربية عند كتابة السيرة الذاتية وبيان المحاذير التي ينبغي له الحذر من الوقوع في براثنها في كتابة سيرته الذاتية ككاتب سيري مسلم “.
وهنا تتبدى الرسالة الضمنية والصريحة لما يحمله المؤلف من تخوفات على كتابة وكُتَّاب السيرة الذاتية (المسلمين) أن يتأثروا بالمفاهيم والكتابات السيرية (الغربية)، ولهذا يسعى بـ(كتابه هذا) للحماية من الاختطاف والانبهار بالمفاهيم الغربية وبيان المحاذير من تلك المفاهيم لأنه كاتب سيري مسلم!!
ولعل هذا الهدف والغاية والرسالة هي التي أوحت بالجزء الثاني من عنوان الكتاب: محاولة في التأصيل والتوجيه، ورسم خارطة طريق!!
ثم تتوالى فصول الكتاب – دون ترقيم – حتى تبلغ (الخمسة عشرة) ينبئ عنها مسرد المحتويات ص ص 169-174، وفي كل فصل يقدم لنا كبسولة معرفية موثقة بمرجعياتها من الكتاب والسنَّة، وبعض الأطروحات المتماسة مع هذا الجنس الأدبي/ الكتابي.
* * *
(3) ولعلِّي أقف – نقدياً – مع مجموعة من الطروحات التي يتبناها الكاتب والكتاب والمثاقفة معها والتعقيب النقدي عليها.
ففي فصل: أغراض السيرة الذاتية (ص ص 43-53) بيَّن المؤلف أنها لا تخرج عن أربعة أغراض: تقدير الذات، التحدث بنعم الله، التبرير والتنفيس عن الذات، طلب الشهرة، وبعد مداولات ومناقشات لهذه الأغراض يصل في النهاية إلى ربط كل ذلك بالقيم الدينية، والمؤثرات الشرعية والقوانين الأخلاقية ” ديناً وفكراً وخلقاً وغاية وأسلوباً وتربية “. حتى يكون للسيرة الذاتية تأصيلها الديني طمعاً في (خيري الدنيا والآخرة ويعم بنفعه القراء) وبذلك تبتعد هذه السيرة عن كونها (استهلاك كلامي واجترار لاطائل من ورائه).
ويختم هذه المداولات بقوله التأصيلي والتوجيهي: ” فحري بكاتب السيرة أو الذي عقد العزم على ذلك استحضار هذه المواقف ومحاسبة نفسه، ولا يسرقه بريق الشهرة ولمعان الذات، ويغفل عن محاسبة نفسه والوقوف معها، فليس كل موقف يروى، ولا كل ما يعرف يقال….”.
وهنا أجد أنه من المناسب أن يكون عنوان الفصل هو (دوافع ومبررات السيرة الذاتية). لأني أجد فرقاً بين الغرض الذي يعني الغاية والمقصد أو الموضوع والهدف وبين الدافع والمبرر الذي يعني الباعث والمثير والمحفز. وكل ما قاله المؤلف يندرح تحت الدوافع والمبررات التي أكد عليها نصاً في مجمل هذه الطروحات.
أما الأغراض فهي عندي كما يلي:
أولاً: غرض الشهرة والتعريف بالذات.
ثانياً غرض البوح والتنفيس.
ثالثاً: غرض الإصلاح والتعليم ونقل الخبرات.
كما أجد أنه من المناسب أن لا نهمل الجانب الأدبي والفني كغاية وموضوع ومقصد من كتابة جنس السيرة الذاتية، ولهذا فتأطيرها بالجانب الديني والقيمي والأخلاقي يخرجها من فنياتها الأدبية والإبداعية – على اعتبار أنها من أبرز الأشكال الكتابية الذاتية وتحقيق فرادتها الأجناسية، والعمق الداخلي لعوالم الفرد المخفية – كما يقول محمد ميشال في كتابه: بلاغة السيرة الذاتية ص18.
وفي الفصل الموسوم بـ(أنواع السير الذاتية ومسمياتها) يبحر بنا المؤلف في أطروحات مهمة جداً عن أنواع السير ومسمياتها في تراثنا المقروء بدءاً من كتب التراجم والطبقات، والمذكرات وذات الصنف الإخباري، وذات الصنف التعليمي أو التبريري، وذات الصنف الروحي/ العقدي. ويصل أخيراً إلى الصنفين/ النوعين المعروفين في جنس الكتابة السيرية وهما: السيرة الذاتية/ الشخصية والسيرة الغيرية!!

وفي الفصول المتبقية، يستعرض المؤلف حيثياته وتوجهاته التأصيلية لكتابة السيرة الذاتية، مبيناً الآراء الفقهية المتباينة حول مشروعية الكتابة السيرية للذات، وما توجب – فقهياً وشرعياً – على الكاتب السيري.
ثم يبين الأخلاقيات والقيم التي يتوجب على كاتب السيرة الذاتية أو الغيرية أن يتحلى بها من صدق، وجزالة اللفظ وأناقته، والأمانة الموضوعية، والقيم المجتمعية. وفي هذا السياق يستعرض المؤلف مفهوم تزكية النفس والعلاقة بينها وبين التحدث بنعمة الله وما يتوجب على الكاتب السيري أن يراعيه في هذين المجالين/ الركيزتين الأساستين في كتابة السيرة الذاتية أو الغيرية.
ولعل من أفضل الفصول التي أنشأها المؤلف في هذا الكتاب هو الفصل الموسوم بـ/ مصادر ومراجع السيرة الذاتية وأهمها الذاكرة التي يسترجع من خلالها الكاتب المواقف والأحداث والشخصيات والخبرات التي يريد أن يوصلها للقارئ. فالذاكرة هي مستودع الأسرار وصندوق التجارب والخبرات، ومن المصادر والمرجعيات (أيضاً) الرؤى والأحلام بوظائفها المعتبرة والكرامات والخوارق والمعجزات بصورها وفضاءاتها المتحققة. ولتأكيد هذين المصدرين يلجأ المؤلف إلى رصد الآراء الفقهية والقيم الشرعية التي تضبط وتحدد الاستفادة من هذين المصدرين.
ولعلِّي أضيف هنا مجموعة معرفية لتكون ضمن المصادر الأولية لكتابة السير الذاتية وهي:
– التقارير والمنجزات الشخصية.
– التاريخ المعاصر وأحداثه التي عايشها وعاصرها.
– الجغرافيا (مكاناً وإنساناً).
وفي كل ذلك يبين المؤلف – ضمناً ودلالة – التوجيهات والقوانين الشرعية والدينية المجتمعية والقيمية والأخلاقية لكاتب السيرة، ويعتبرها (خارطة طريق) إيمانية/ إسلاموية متسلحة بالضوابط الشرعية ومؤطرة بالقيم المجتمعية والأخلاقية.
ثم ينشئ المؤلف مبحثاً آخر أو فصلاً جديداً عن علاقة السيرة الذاتية بالعلوم الأدنى كالأدب والتاريخ والتربية وعلم النفس (ص ص 112-121) ويؤكد فيه التعالق الوثيق بين هذه العلوم والمعارف وفن السيرة الذاتية. ففي الجانب الأدبي هي سليلة الأدب بفرعيه النثري والشعري ومن ذلك جاءت الرواية السيرية، والقصة الذاتية كما ولدت السيرة الشعرية. وفي الجانب التاريخي هي توأم التاريخ، ونشأت في أحضانه، وتعالقت مع أحداثه ويومياته، وانصهرت في دائرة المجتمع وفعالياته التاريخية، وبذلك فالسيرة الذاتية ” تحقق غاية تاريخية “. وفي جانب التربية وعلم النفس يؤكد المؤلف تأثر هذا الجنس الأدبي/ السيرة الذاتية بالأطروحات التربوية والفضاءات العلم نفسية التي تتجلى في كثير من السير الذاتية.
ومع إن هذا الفصل ماتع ومفيد في أطروحاته ومداولاته المعرفية، إلا أن المؤلف لا يخرج عن هدفه العام من هذا الكتاب وهو (التأصيل والتوجيه ورسم خارطة الطريق)، ووضع المحاذير القيمية والشرعية أمام كُتَّاب السيرة الذاتية والمطالبة بعدم تجاوز الحدود واقتراف المناهي الكتابية التي فصلها المؤلف في مباحثه السابقة.
ومنذ الفصل الثاني عشر – حسب تقسيماتي النقدية/ التعريفية – يدخل المؤلف إلى موضوع (الاعترافات وعلاقتها بالسيرة الذاتية)، ويناقشه من أوجه متعددة وفي أطر مختلفة ليصل بالقارئ/ الناقد إلى جملة من الاستنتاجات ومنها ما يلي:
(1) الاعترافات فن أدبي لحق بالسيرة الذاتية كأحد مكوناتها.
(2) لها علاقة بالعقائد الكنسية والحصول على صكوك الغفران.
(3) أنها لمسات غربية وافدة على أدبنا السيري العربي الإسلامي.
(4) أن الشرع الإسلامي والمعتقد الديني يؤطر هذه الاعترافات بسياج من الأخلاق والفقه والشريعة.
(5) أنها ذات أبعاد دينية وتربوية واجتماعية وأمنية وشخصية.
ومن كل ذلك يؤكد – في ختام هذه الفصول – أن على كاتب السيرة الذاتية أن يتسلح ويتماشى مع الضوابط الشرعية عندما يسمح لنفسه بالاعتراف والمكاشفة عن أخطائه وممارساته ومواقفه مستحضراً قيم الاعتذار والتوبة والندم والعفة والتواضع والتذلل.
* * *
(4) وهكذا كنا في مثاقفة معرفية ومقاربة نقدية/ تعريفية مع هذا الكتاب الماتع حقاً والدَّال على فكر وثقافة المؤلف ومرجعياته الشرعية وتوجهاته الإصلاحية المتدثرة بكنوز من الآداب والتربية فهو قد نشأ وعاش في محاضنها منذ كان طالباً في معهد المعلمين بالطايف وتخرج من كلية المعلمين بجدة، والتحق بالتعليم والتربية معلماً ومشرفاً ومسؤولاً عن الصفوف الأولية، ونال الماجستير من كلية التربية بمكة المكرمة في أطروحة بعنوان: دور التربية الإصلاحية في مواجهة التحديات الثقافية للعولمة عام 1421هـ. وهاهو اليوم يتحفنا بهذه الإضمامة التأصيلية لفن السيرة الذاتية والممهورة بالتوجيهات والضوابط الشرعية المستمدة من إرثنا وعقيدتنا لرسم خارطة طريق لكتاب السير الذاتية وقرائها والمستفيدين منها.
ولإنجاز هذا السفر الماتع حقاً نجده يعتمد على دراسات ومؤلفات سابقة عن فن وجنس السيرة الذاتية مثل كتاب الأستاذ الدكتور صالح معيض الغامدي: كتابة الذات/ دراسات في السيرة الذاتية، 2023م.
والأستاذ الدكتور أحمد آل مريع: السيرة الذاتية مقاربة الحد والمفهوم، 2010م.
والأستاذ الدكتور عبدالله الحيدري: جسر من التعب/ بحوث ومقالات عن الدكتور عبدالمحسن القحطاني، 1444هـ.
والأستاذ حسين بافقيه: عبروا النهر مرتين/ قراءات في السيرة الذاتية، 1440هـ.
والأستاذ محمد بن سعود الحمد: معجم كتاب السيرة الذاتية في العصر الحديث، 1422هـ.
والأستاذ محمد عبدالعزيز الهجين: الأنس بالراحلين/ أمسيات مع السير الذاتية، 1443هـ.
والأستاذ علي عبده بركات: اعترافات أدبائنا في سيرهم الذاتية، (د.ت).
وهؤلاء كلهم من مثقفي المملكة العربية السعودية والمختصين في السيرة الذاتية.
كما يرجع المؤلف إلى العديد من المختصين في السيرة الذاتية من البلاد العربية ومنهم:
الدكتور عبدالعزيز شرف: أدب السيرة الذاتية، 1992م.
الدكتور محمد مشبال وآخرون: بلاغة السيرة الذاتية، 1439هـ.
الدكتور إحسان عباس: فن السيرة، 1996هـ.
وفي هذا دلالة على التثاقف الواعي، والاهتمام المرجعي لبناء هيكلة كتابه هذا وفق منهجية متماسكة، ومناقشة واعية، وأطروحات فكرية ناضجة.
وهذا يدعونا للتفاعل القرائي معه، والمثاقفة عليه، والتواصل المعرفي والحواري، والتبشير به في مشهدنا الثقافي ومعرض الرياض الدولي للكتاب في دورته الجديدة على مقربة منَّا وليس ببعيد، وكما حدد له في الفترة ما بين 26 سبتمبر إلى 5 أكتوبر 2024م. ولعل دار تكوين/ الدار الناشرة توفره في المعرض لعموم القراء والمهتمين.
والحمد لله رب العالمين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى