التحجُّر الثقافي والتكرار الأبدي هو الأصل في كل الأنساق الثقافية المتوارثة لذلك ظلت الأمم جامدةً أزمانًا سرمدية في عُقْمِها وطولها وثُقْل حركتها فما الذي جعل الأوربيين يتغيرون بعد كل ذلك الجمود والعُقْم ….؟؟!!
الأوروبيون لا يتميزون عرقيًّا ولا ثقافيًّا عن بقية الأمم فقد خضعوا أكثر من عشرة قرون لتحَكُّم الكنيسة وكانوا مستسلمين لهذا التحكم ثم فجأة هبوا من سباتهم الذليل الطويل وراحوا يجوبون العالم ويتحكمون بالأمم ويستعمرون الشعوب ويواصلون حركة التغيير ….
لقد تضافرت مجموعة من الأحداث المزلزلة والعوامل الضاغطة جعلتهم يتحررون نسبيًّا من أطواق ورواسب وقيود التاريخ: أول هذه العوامل المستفزة أن الجيوش التركية طرقت أبواب عاصمة الامبراطورية المقدسة فينا فشعر الأوروبيون بالتهديد الحقيقي في وجودهم ليس هذا فقط بل لقد أُوصِدَتْ أمامهم أبواب التواصل مع العالم إن هذا الحصار الخانق قد فجَّر الطاقات الإنسانية الكامنة ….
لقد تضافرت أحداثٌ مزلزلة صنعتْ تغييرًا لم يُخطِّط له أحدٌ فالتهديد التركي ومحاصرة أوروبا دفع كولومبس إلى مغامرته المعروفة للبحث عن طريق آخر للتواصل مع الصين ومع العالم من أجل الاستقواء أمام التهديد وقد أحدث اكتشاف أمريكا هزة فكرية مزلزلة لم يخطط لها كولومبس ولا غيره شملت أوروبا كلها ….
ثم اكتشف كوبرنيكوس أن الأرض ليست سوى كوكب يدور حول الشمس فأحدث بذلك زلزالًا فكريًّا آخر ….
ثم جاء ديكارت ليعلن منهجه في التفكير وفي المعرفة حيث شكك بالموروث ودعا كل إنسان بأن يضع محتويات ذهنه موضع المساءلة والفحص والتحقق ….
ثم أعلن مارتن لوثر انشقاقه عن الكنيسة ووقف بجانبه أمير سكسونيا وأمراء ألمان آخرون وأسفر الانشقاق عن تقسيم أوروبا إلى شمال يدين بالبروتستانتية وجنوب بقي على الكاثوليكية …..
ثم توالت الهزات الفكرية والاكتشافات العلمية التي غيرت التفكير وقوضت الثوابت ….
إن حشو الأذهان بالمعلومات لا يحقق نتائج إيجابية وإنما المطلوب تغيير طريقة التفكير وتهيئة الأذهان لقبول التغيير ووضع أهداف جديدة يجب السعي لتحقيقها ….
ومع كل التغيير الذي طرأ على أوروبا فإن الشعوب الغربية لم تتحول إلى شعوب عقلانية وإنما هم محمولون بمركبة عقلانية قوامها المؤسسات العقلانية والنظم والقوانين فالأنساق الثقافية في الغرب ما تزال تتحكم بالعقل الغربي لكن الحياة والإقتصاد وكل الشؤون العامة تدار بمنطق العلم وهذا هو الفارق النوعي بين الأمم التي ما تزال تدير شؤونها العامة بأنساقها الثقافية المتوارثة مقابل الأمم التي حَكَّمت العلم في كل شؤون الحياة ….
0