من الطرفة والمزحة، كانت العرب تستعمل الشعر في مجالات كثيرة، حتى في قضاء مأربها وحوائجها من بعد حياتها ؛ فقد ذكر “الأصمعي” أن رجلاً لعله كان بالغ الشعر، له ابنتان على قدر من الذكاء والفطنة؛ خرج في سياحة أو في مقصد، فأعترض طريقه رجلُ من اللصوص، أي من قطاع الطرق ، فقال له: لابد أن أقتلك، فقال له الرجل: دونك زادي ومالي، فلما تقتلني؟، قال اللص: أسلبك وأقتلك، فلما عرف الشاعر أنه مقتول لا محالة بعد أخذ زاده وماله، قال للص: لا أطلب منك بعد قتلي إلى شيئاً واحداً، قال اللص وما هو؟ قال الشاعر: أن تغدوا إلى داري من بعدي فإذا فتحت ابنتاي الباب، فقل لهما كلمة واحدة فقط، قال اللص: هذا أمر بسيط أسلبك وأقتلك وأبلغ ابنتاك، ماذا أقول لهما، قال الشاعر: أطرق باب الدار فإن فتحت ابنتاي الباب قل لهما: ألا أيها البنتان إن أباكما!
فقام اللص بسلبه وقتله، ووفّى بعدها بعهده، وذهب إلى دار الرجل وطرق الباب، خرجت البنتان؛ قالتا: ما شأنك؟، قال: إني التقيت بأبيكما وقد بلغني إليكما حاجة، قالتا: أهو سالم معافى؟، قال لهم نعم سالم معافى، ولم يخبرهما بأنه قتله وقد سلبه، قالتا: فما جاء بك؟، قال: وصية من عندي لكما، قالتا: وما الوصية؟ قال: إن اباكما لم يزد على أن قال: ألا أيها البنتان إن أباكما!! الأبنتين بسرعة البديهة ونقاوة السليقة عرفتا أن أباهما قد قتل، وأنه القاتل.
سكتت البنتان وقالتا له: لا بد لك من مكافأة فيما أبلغت به وصية الوالد! أنتظر وأبلغت قومها فأحاطوا به وأمسكوه، وقالوا له: أنت قتلته، قال من أنبئكم بأنني قتلته ولم يكن معنا أحد؟، قالوا: القتيل نفسه أنبأنا بذلك قال: كيف؟، قالوا: إنه حفظك صدر البيت وأخفى عنك عجزه، قال: وما عجز البيت؟:، قالوا إن البيت بتمامه هو:
ألا أيها البنتان إن أباكما…قتيلٌ خذا بالثأر ممن أتاكما!
فأقر اللص بقتل الرجل، وتم أخذ الثأر منه؛ فكان ذلك دليل على أن العرب في مثل هذا تأخذ من الشعر بلغة للمقاصد!!
0