المقالات

الإبْدَاعُ والمُبْدِعُ

لست أدري لماذا المبدع يُسلقُ بألسنة حدادِ ؟, ولست أدري لماذا المبدعُ يُجلد ظهرُه بسياط المأمون ؟, ولست أدري لماذا المبدع يُصلى إبداعه بنيران ذات لهب ؟ هل لأنّ المبدع يرفض الوصاية على إبداعه ؟ أم لأنه قد يتعالى على تراثه وينقطع عن تاريخه وعن جذوره ؟
أم أنّه يرفضُ كلَّ توجيه يأتيه من الخارج يُلغي شخصيته ويحدُّ من حريته ؟ أم لأنّ المتلقي يسعى على الدوام لإقصائه , فإن التزم بما يهواه – أعني المتلقي – نال رضاه وتمجيده , وإن هو ثار عليه قوبل إبداعُه بالسخط والتنديد ؟ أم لاختلاف سياقيهما ؟
أم لأن أحدهما يحمل همّاً فنياً إبداعياً والآخرَ يحمل همّاً تاريخياً واجتماعياً فهو مربوط بهما ؟ أم بشعور المبدع بغياب القارئ المشارك له في الوعي والمعاناة والثقافة ما أدّى إلى العزلة و التشرنق داخل شرنقة اللغة والفكر ؟
أم أن هناك قراءات متعددة وتأويلات مختلفة جديدة تتولد مع كل قراءة لهذا النص ,فتعاد كتابته من جديد , ويعاد تأويلها من جديد ؟ أم أنّها المناهج النقدية المعاصرة قد أسهمت في تأزيم العلاقة بينهما ؟
لست أدري , تلكم هي أسباب القطيعة بين المبدع وبين المتلقي , ولكني أقول صبراً أيها المبدع !, وكان الله في عونك أيها المتلقي !!
وإن من الضيم أن ينتج عن ما سبق توقف العملية الإبداعية لدى المبدع , وانطفاء جذوة إبداعه , أو أنه قد يتوحد الأديب بنفسه فينكفئ على ذاته غريباً عن المحيط الذي ينتج فيه , أو قد يتوجه إلى جمهور نخبوي محدود , أو إلى مخاطب ما يفهمه ويشاركه همه ويتفاعل معه .
أقول : الإبداع عملية خلق وكشف ورفض وتاريخ وجدة وأصالة وابتكار , والمبدع صاحب هذا كله , والنص الإبداعي نص يحمل في ثناياه أوجهاً عدة تتفاعل مع الحالة النفسية للمتلقي فيسقط عليها مشاعره وأحاسيسه وتجاربه الشخصية فتكوّن رؤيته الخاصة به والمختلفة عن غيره .
والنص ليس طريقة إبداع فحسب بل هو طريقة إبداع وتلق معاً , يقول الجاحظ في البيان والتبيين : ” و المفهم لك والمتفهم عنك شريكان في الفضل ” .
ويقول طه حسين : ” الإبداع جهد مشترك يجب أن يحمل عبئه المنتج والمستهلك ” ويذهب الغذامي إلى أن ” النص الأدبي إبداع جمالي من منشئه وهو عملية تذوق من المتلقي ” .
إذاً النص الإبداعي عملية جدلية وتبادلية بين المبدع والقارئ من جهة وبين النص والقارئ من جهة ثانية .
ولا أحداً يشك في أن المتلقي مبدع ثان , أي أنه مبدع للنص بقراءته وتذوقه وتأمله , وكأن للنص مبدعين اثنين , الأول تنتهي فاعليته بمجرد تصديره النص , والثاني تتحدد فعاليته في أثناء كل مقاربة قراءة وبعدها .
عندما سئل أبو تمام ذات أنشد قصيدة من قبل أبي العميثل : لم تقول ما لا يُفهم ؟ كان جوابه على الفور مفحماً لخصمه الذي أراد تبكيته , إذ ردّ عليه أبو تمام بذكاء ثاقب , فقال : وأنت لم لا تفهم ما يقال ؟
إذاً هناك علاقة توتر بين المبدع والمتلقي خاصة إذا لم يفهم المتلقي خطاب المبدع ووجده مستغلقاً يفوق فهمه ومستوى ثقافته .
وتستوقفني في هذه الحادثة كلمة ( الفهم ) الذي عليه المدار في العملية الإبداعية , فالمبدع إنما يبدع ليُفهم عنه والمتلقي مطالب بعد ذلك أن يبذل جهداً ليفهم لا أن يُقدّم له المعنى على طبق ؛ لأنه آنذاك يفقد أهم صفة تميزه وهي الإسهام في إنتاج المعنى .
والمبدع لابد أن يكون منتمياً لتراثِ ما , سواء أكان معجباً بهذا التراث فيحاكيه ويقلده , أم كان ثائراً عليه يتعالى على نصوصه , أم كان بين بين يصغي إليه ويحاوره , ولكنه في جميع الأحوال يخضع لما يقدمه هذا التراث من نماذج صالحة والمطلوب منه التفاعل مع هذا التراث والانفعال به والإتيان بشيء جديد , وهي الطريقة التي سلكها رائد الحداثة والتحديث الأول الشاعر العظيم أبو تمام حبيب بن أوس .
فمن يقرأ نصوصه الشعرية يجد أنه ينطلق من أفق الانفتاح على نصوص الشعراء السابقين , وليس من أفق الانغلاق أو القطيعة , يقول ابن رشيق في كتابه العمدة : ” حكى بعض أصحاب أبي تمام قال : استأذنت على أبي تمام وكان لا يستتر عني فأذن لي , فدخلت عليه فإذا هو في بيت مصهرج قد غُسِل بالماء يتقلب يميناً وشمالاً فقلت له : لقد بلغ بك الحرُّ مبلغاً شديداً فقال: لا . ولكن غيره ثم مكث لذلك ساعة , ثم قام كأنما أطلق من عقال , فقال : الآن وردت – أي وصلت إلى المورد – ثم استمر وكتب شيئاً لا أعرفه , ثم قال : أتدري ما كنت فيه ؟ قلت : كلا قال قول أبي نواس :
حذر امرئ نُصرت يداه على العدى كالدهر فيه شراسة وليان .
أردت معناه فشمس علي – أي هرب – حتى أمكنني الله منه , فصنعت :
شرست بل لنت بل قانيت ذاك بذا فأنت لا شك فيك السهل والجبل .
وروى ابن المعتز في طبقاته : ” حدثني أبو الغصن محمد بن قدامة قال : دخلت على حبيب بن أوس بقزوين وحواليه من الدفاتر ما غرق فيه , فما يكاد يرى فوقفت ساعة لا يعلم بمكاني لما هو فيه , ثم رفع رأسه فنظر إليّ وسلم عليّ , فقلت له : يا أبا تمام إنك لتنظر في الكتب كثيراً , وتدمن الدرس , فما أصبرك عليها ! ! فقال : ” والله ما لي إلفٌ غيرها ولا لذة سواها , وإني لخليق إن أتفقدها أن أحسنُ – يريد أن أحسن الكتابة الشعرية – وإذا بحزمتين واحدة عن يمينه وواحدة عن شماله , وهو منهمك ينظر فيهما ويميزهما من دون سائر الكتب فقلت له : فما هذا الذي أرى من عنايتك به أوكد من غيره ؟ قال : أما التي عن يميني فاللاّت , وأما التي عن يساري فالعزّى أعبدهما منذ عشرين سنة , فإذا الذي عن يمينه شعرُ مسلم بن الوليد صريع الغواني , وعن يساره شعر أبي نواس ” .
ويؤكد ابن رشيق على قضية مهمة جدا وهي أن على المبدع الإتيان بشيء جديد , يقول في كتاب العمدة : ” وإنما سمي الشاعر شاعراً لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره , فإذا لم يكن عند الشاعر توليد معنى ولا اختراعه أو استطراف لفظِ وابتداعه , أو زيادة فيما أجحف فيه غيره من المعاني أو نقص مما أطاله شعره من الألفاظ أو صرف معنى إلى وجه عن وجه آخر كان اسم الشاعر عليه مجازاً لا حقيقة, ولم يكن له إلا فضل الوزن وليس بفضل عندي مع التقصير ” كلام رائع وهو الرشد وما دام الحديث عن أبي تمام فإنه قد أتى بمعنى مدحي جديد فاق به كل معنى , يقول في مدح المعتصم :
هو البحرُ من أيّ النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله
تعوّد بسط الكف حتى لو أنه ثناها لقبض لم تجبه أناملــــــه
ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائـــــــله
إذاً المبدع لحظة كتابة إبداعه يعيش لحظة انكفاء على الذات وخَلْوة معرّاة يستنفر كل قواها الداخلية والخارجية على الخلق والإبداع , ولحظة اتصال روحي مع مادة الخلق والإبداع , ولحظة مكابدة كيانية عسيرة مع النص والناص .
المبدع الحقيقي لا يبدع في الفراغ خارج عالم الإبداع , بل ينقل أحاسيسه التي عاشها في تلك اللحظة عبر نصه إلى المتلقي كي يعيش تلك المشاعر التي عبر عنها المبدع بتفاعل وجداني وحس عاطفي ؛ لأن المبدع بحاجة ماسة إلى من يشاركه تجربته , ولأنه يكتب لنفسه وللآخرين وعلى المبدع أن يحترم عقلية المتلقي باعتباره مالكاً للنص لا ملكاً له , ولا أسيراً للأفكار والآراء المصاحبة له . وعلى المتلقي أن يحترم أفكار المبدع , وأن يتجنب التصادم معها دون فهم عميق لها .
والمبدع فيما يبدع من عمل سيبحث عن القارئ الفذ لأنه هو الذي يمتلك لذة التلقي ومتعة التأويل وإعادة تشكيل النص والغوص في أعماقه , ولأنه أيضاً هو الذي يعطي نتاج المبدع القيمة العقلية والفنية لنصه , شريطة ألا يمس هذا النص القارئ الكسول أو المستلب أو غير المتفاعل أو الجاهل .
يقول عبد القاهر : ” فإنك تعلم على كل حال أن هذا الضرب من المعاني كالجوهرة في الصدف لا يبرز لك إلا أن تشقه عنه , وكالعزيز لا يريك وجهه حتى تستأذن عليه …”
المبدع ذو ذاكرة تختزن صوراً ومشاعر وآراء سابقة , وتجارب إنسانية مرّ بها تنساب إلى باطن الفكر واللاشعور , فإبداعه الأصيل والجديد والسيال والابتكاري انبثاق من ذاتيته , ومع هذا كله فهو لا يبتعد عن نبض الواقع وهموم المجتمع بل يحرص على مخاطبة جمهوره بنصه الذي هو محصلة إبداعه الفردي والاجتماعي وهو لا ينكفئ على أساليب تعبيرية سواء في اللغة أو في التصوير أو في الإيقاع تدفعه إلى الغموض والإبهام أو تسوقه نحو الرمز والأسطورة إنه بهذا المسلك يفقد الصلة بالجماهير التي تستسيغ كثيرًا من نصوصه مما يعمق الهوة بين المبدع والمتلقي , فالمبدع من نتاج الكتلة البشرية ومن الطبيعي أن يؤثر في هذه الكتلة بدرجة أقل أو أكثر , ولا يرتاب أحد في أن المبدع يكتب وفي ذهنه الأخر الذي يتوجه إليه بالخطاب الإبداعي , بل إنه يعتبره الهاجس الذي يشكل القلق في ذاته قبل وخلال عملية الإبداع إذا الشعرُ لم يهززك عند سماعه فليس خليقاً أن يقال له شعر , إلا إذا فسرنا هذه الهزة بأنها هزة الفكر والتأثير , لا مجرد الإطراب الحسي .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى