تقرير ـ محمد بربر
في عالم الأدب العربي، يمثل كتاب “الأيام” لطه حسين نموذجاً فريداً من نوعه، ليس فقط لكونه سيرة ذاتية لأحد أهم رواد النهضة الأدبية العربية، ولكن أيضاً لأنه يجسد عالماً مملوءاً بالصراعات، والأحلام، وتحديات الإعاقة والبصيرة في مواجهة ظلمات الجهل.
كتب طه حسين “الأيام” بوحي من سيرته الذاتية، ولكنها ليست مجرد سرد عادي لأحداث حياته، بل هي ملحمة أدبية تعكس صراعه النفسي والفكري منذ طفولته في إحدى قرى صعيد مصر حتى وصوله إلى أعلى مراتب العلم والمعرفة.
يختصر طه حسين في هذا الكتاب معاناة ابن البلد الفقير الذي تحدى فقدان البصر وأصر على استكشاف العالم عبر البصيرة لا البصر، ويجسد فيه قدرته العظيمة على استيعاب الحزن وتحويله إلى إبداع لا يموت.
ولادة الطفولة في قلب الظلام
تبدأ الرواية بوصف حياة الطفولة، حيث يعيش طه حسين في قرية صغيرة، ويتعرض للتجارب الأولى التي شكّلت شخصيته. في تلك الصفحات الأولى، يُدهش القارئ بأسلوب سرد مليء بالأحاسيس العميقة، ويستطيع طه أن يُصور القسوة والحرمان في تلك القرية بعين الطفل المبصر ببصيرته.
يكشف طه حسين من خلال كلماته البسيطة والمتماسكة عن عالمٍ مملوءٍ بالسخرية المريرة والألم المكتوم، وفي القسم الثاني من الكتاب، يروي طه حسين تجربته في الأزهر، حيث انضم إلى دروس الفقه والعلوم الدينية.
وعلى الرغم من قسوة أسلوب التعليم وصرامة الشيوخ، فقد أبدع طه حسين في التعبير عن إشكالياته الفكرية والشعورية التي عانى منها هناك، إذ لم يتلقَ دعماً أو تعليماً خاصاً كأعمى، مما كان يجبره على التحصيل الذاتي، إلا أن تعليمه في الأزهر لم يكن إلا بداية رحلته الحقيقية نحو عالم أرحب، فقرر الانتقال إلى فرنسا لتلقي تعليم حديث.
باريس… بوابة التنوير
تُعد رحلة طه حسين إلى باريس من أبرز مراحل “الأيام”. هنا يلتقي بعالمٍ جديدٍ مليء بالفكر والفلسفة، وتتجلى إرادته القوية في سعيه لدراسة الأدب والفلسفة، ويتعرض للعديد من الأفكار التي تشكل مواقفه النقدية تجاه المجتمع، والدين، والتعليم، مما أثر على مسيرته الفكرية والأدبية.
لقد استطاع حسين من خلال باريس أن يعيد تعريف العالم من حوله، ويؤسس لخطاب عقلاني حر يرنو إلى التحرر من القيود القديمة.
نقد التراث بين الأدب والفكر
في “الأيام”، لا يكتفي طه حسين بسرد حياته فقط، بل يمارس نقداً ضمنياً لأعراف وتقاليد المجتمع المصري في تلك الحقبة، خاصةً فيما يتعلق بالتعليم والتدين والسلطة الأسرية.
لقد استطاع أن يطرح قضايا شائكة بأسلوب أدبي عذب، مما يجعل القارئ يتفاعل مع النص كونه دعوة للتفكير ومساءلة الواقع.
أسلوب الكتابة بين السرد والشعر
تميزت لغة “الأيام” بأسلوب فني فريد، إذ يعبر حسين عن أعمق مشاعره وأفكاره بطريقة شعرية متألقة، تنساب كالموسيقى في آذان القارئ، وتتسم جمل طه حسين بالسلاسة والرقي اللغوي، ويستخدم الكلمات بدقة لينقل مشاعر شديدة الخصوصية، مؤسساً بذلك أسلوباً خاصاً به، يجمع بين الصدق العاطفي والحكمة الفلسفية، مما يجعل “الأيام” تجربة إنسانية فريدة.
ويبقى “الأيام” أحد أهم الأعمال الأدبية التي قدمها طه حسين للأدب العربي، إذ يمثل الكتاب دعوة للتحدي والصمود أمام الظروف القاسية، وسرداً عميقاً لأحلام وطموحات أديب مصر الكبير.