لا أحد ينكر التحولات الاجتماعية التي يقودها الدين، وتوجهها الأخلاق، وتبلورها السياسة، ويحركها الاقتصاد، وتلك هي أهم محركات التاريخ الأساسية في حياة الأمم والمجتمعات والشعوب والأفراد. ومن غير اللائق تجاهل نظريات تفسير التاريخ والمدارس الفلسفية الأخرى، كما أن من التهور الفكري الانحياز المطلق لأي نظرية فلسفية كانت، بقدر ما تكون الانتقائية المسددة بالمزج بين النظريات الفلسفية بصبغة تمثل الرؤية المتعقلة الحكيمة، مع عدم رفض النسبية بين هذه وتلك. ومن الخسارة الكبرى للحضارة المعاصرة تجاهل التفسير الإسلامي لمحركات التاريخ، فبالاستقراء التاريخي المحايد نلحظ أن الدين الإسلامي، وهو دين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جميعاً، يقف وراء أعظم وأهم تحول للبشرية على الإطلاق منذ عهد آدم عليه السلام إلى يومنا هذا. وحسبنا ما أحدثه الإسلام من تحول في حياة العرب الأميين من رعاة الشاة والبعير إلى رعاة العالم. ولم يتوقف تأثير الإسلام في توجيه حركة التاريخ يوماً من الدهر نحو الخير والصلاح للبشرية جمعاء، رغم محاصرته ومحاربته بدءاً بظهور المذاهب المنحرفة، وحرب التتار، والحروب الصليبية، ثم سيطرة الاستعمار الغربي الذي أبقى ثقافته ومريديه العملاء وقوانينه الحاكمة.
ما أحدثه الإسلام في صناعة النهضة والقوة والنقلات النوعية في حياة الفرد والمجتمع والأمة كافٍ وشافٍ لبيان المؤثر الأول في حياة البشر. وإن كان العالم المعاصر قد خسر كثيراً بتقهقر المسلمين وتخليهم عن الريادة الحضارية الإسلامية، لكن هذا لا يعفينا من دراسة نظريات تفسير التاريخ الأخرى، حيث أمر الإسلام بدراستها وفق منهجيته المستقلة. ومما يدخل في أحقية الدراسة والفحص والتنقيب هو “ظاهرة الشهرة والمشاهير” التي أخذت أبعاداً اقتصادية واجتماعية وإعلامية متنوعة، وغلبت على اهتمام شرائح كبيرة في عالم اليوم.
أصبحت الشهرة والمشاهير راسخين في الوعي واللاوعي، شئنا أم أبينا، ومهمة أرباب القلم والفكر والرأي هي البناء لا الهدم، والتسديد والترشيد لا التهديد والتبديد.
ولا يُنكر أن صناعة الإعلان التجاري أخذت بُعداً وعمقاً وفلسفة وصيغاً في نظريات تطبيقية فاعلة، تقترن بأعلى الإيرادات المالية، إذ يُعد الاقتصاد أهم محركاتها مع ضرورة عدم إغفال الجانب الأيديولوجي الاستعماري الرأسمالي، الذي بنى حضارته على لهث مسعور وراء تكنيز المال، واستعمار الأمم والشعوب بالربا. ويُعد الشباب أهم ضحايا الرأسمالية المعاصرة. في الآونة الأخيرة، برز الإعلان التجاري طاغياً على اهتمامات الكثيرين، وأُطلق على رموزه “المشاهير”. ولا يمكن إنكار تأثيره المباشر في تشكيل أنماط اجتماعية مثل اللباس، وقصات الشعر، واقتناء النفائس، وترويج الفكر الاستهلاكي.
هذا يتطلب منا قراءة أبجديات الواقع المنظور وأثر الإعلان التجاري في إشاعة ثقافة الاستهلاك المرتبطة بالمشاهير، وتكمن خطورة هذه الظاهرة في ترويج السلع المصنعة الأجنبية، وتقديم رسائل لا تخدم أدبيات النهضة الوطنية، خصوصاً في بلادنا، التي تنحو بثقة نحو رؤية 2030. ولست أدعو إلى تهميش جهود الآخرين أو احتقار العمل الشريف، بل يكمن النقد في الترشيد نحو الاستثمار الأمثل لهذه الظاهرة الجديدة بمنهجية حضارية رائدة. فما الذي يمنع هؤلاء المشاهير من الترويج للصناعات الوطنية والعربية والإسلامية؟ وما الذي يمنعهم من توجيه جوائزهم ومسابقاتهم لدعم منتجات علمية أو طبية أو هندسية مفيدة؟
هذا يستلزم بلا شك تدخل الجهات المعنية بتوجيه المشاهير، وإقامة دورات تخصصية لرفع مستواهم الفكري والثقافي والحضاري. ولا يغيب عن الذهن التأصيل الشرعي لمفهوم الشهرة؛ فقد ورد في الحديث الصحيح توجيه للحذر من الشهرة بغير حق، وهو مفهوم يدعو كل مسلم إلى الحذر من عدد الموبقات، من بينها الزنا والسرقة والشهرة. الشاهد (ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن) والمراد البعد عن الرياء والمفاخرة.
في النهاية، تظل خطورة الشهرة المفرطة في تهميش القدوات الحسنة، وتشجيع التوجهات الاستهلاكية البحتة، ودفع الأطفال والنساء إلى الواجهة، وخاصة الفتيات اللواتي يستعرضن بأنفسهن وتبرجهن في الإعلان التجاري. لا يمكن التنبؤ بمستقبل تهيمن فيه الإعلانات على أنماط الحياة وتتحكم في بوصلة المجتمع، مع تعميق مفاهيم الرأسمالية التي لا ترى في الأخلاق الفاضلة معياراً ثابتاً.