لنا في كرة القدم انتماء وعشق وعشرة منذ الصغر، وتنامى هذا العشق كلما استمرت مسيرة الحياة. إنها حكاية طويلة، لها بداية وليس لها نهاية، إلا ما شاء الله. وفي هذا المقال، لا أنوي الحديث عن تفاصيل تلك المرحلة، بل سأمر على موقفين مرّا بي ولهما ما يُحكى.
كانت أول رحلة لي إلى أوروبا برفقة معالي الفريق يحيى المعلمي -رحمه الله- ومعالي الفريق هاشم بن عبد الرحمن، أمدّ الله في عمره، وبقية أعضاء الوفد. وقد أحدث معالي مدير الأمن العام الأسبق الفريق محمد الطيب التونسي نقلة هامة في مسيرة الأمن العام، حيث أنشأ برامج للابتعاث الخارجي وزيارات لكبار الضباط بهدف الاطلاع ورفع الكفاءة.
كانت هناك طريقتان لتحقيق هذا الهدف: الأولى هي ابتعاث الضباط من رتبة رائد فما دون، والثانية زيارات لكبار الضباط برتبة مقدم إلى عميد إلى دول مثل أمريكا وأوروبا للاطلاع على الأنظمة وتفعيلها في أرض الواقع. وقد أصدر معاليه أمراً باختيار مجموعة من كبار الضباط للبعثة، شملت (مع حفظ الألقاب): يحيى المعلمي، وهاشم عبد الرحمن، ومحمد نيازي مراد، وسعيد نحاس. ولكن كانت المفاجأة عندما أمر معاليه شؤون الضباط بإضافتي إلى الفريق، رغم أنني حينها كنت برتبة نقيب وأشغل منصب قائد السير في مرور جدة. كانت لفتة كريمة من قائد كبير، وتقديراً غالياً أعتز به.
كانت الرحلة إلى باريس، ثم لندن، وأخيراً ميونيخ (مقر الألعاب الأولمبية). أثناء وجودنا في لندن، سألنا الفريق يحيى، وكان رئيس البعثة، إن كنا نرغب في حضور أي فعالية خاصة. جاء ردي سريعاً: “ياليت نحضر مباراة كرة قدم، فبريطانيا أم الكرة وأبوها”. وذهبنا إلى الملعب، حيث كان من الضروري التوجه إلى مكتب الاستعلامات للحصول على التذاكر والإجراءات اللازمة. وقفنا في طابور مكتب الاستعلامات، حيث كان أمامنا مراجع آخر. انتهى من مهمته وتقدمنا، لكن الموظفة أشارت إلى المكان الذي كان يقف فيه، مبينة أنه كان يجدر بنا الوقوف في الصف خلفه، وليس بجانبه. طبعاً “سبقنا على الصف عكاشة”، وأثناء انتظارنا تواجد عدة “عكاشات” آخرين، فاضطررنا للوقوف خلفهم. كان هذا أول درس لنا في النظام.
وصلنا إلى الملعب، وكنا قد تأخرنا قليلاً بسبب وقوفنا الخاطئ. جلسنا وطلبت من معالي الفريق أن يسأل أحد الحاضرين عن النتيجة، فقد كانت المباراة قد بدأت. سأل أحد الرجال في الصف الخلفي، فأجاب الرجل قائلاً إنه لن يجيبه حتى يجلس في المكان الصحيح. كان صفنا هو “C”، وتبين لنا بعد التحقق من التذاكر أنها بالفعل تشير إلى صف “C”. فأراه معالي الفريق التذاكر مؤكداً أننا جالسون في المكان الصحيح، فاعتذر منا الرجل وقال إنه اختلط عليه الأمر واعتقد أن صفنا كان “D”، ثم أخبرنا بالنتيجة. وهكذا، كان هذا الموقف درساً آخر في أهمية الالتزام بالنظام، وأن المواطن الحريص على وطنه يساهم في ترسيخ النظام، سواء عبر مشاركة المعلومة أو الالتزام بها.
نعم، قد يعتبر البعض هذه المواقف صغيرة وغير ذات أهمية، وربما يراها آخرون على أنها مجرد “عقد” أو “فشخرة”. لكنها في الواقع تحمل مدلولاً عميقاً لمن يفهمها ويرغب في التعلم.