منتدى القصة

(وبكت…)

أخيرًا، أذعن لكلام أمه وهي تردد: “يا ولدي، الذين في مثل سنك أصبح لبعضهم أبناء في سن الزواج، وأنت لا زلت في مكانك، تترقب القادم، متدثرًا بذكريات مضت ولن تعود. الشعيرات البيضاء غزت رأسك، لقد اقترب سنك من الأربعين وأنت لا زلت عازبًا”.
انتظر طويلًا، شغله العمل والدراسة، وقبل ذلك شغلته قصة الأمس التي غادرت مخيلته ولا يزال صداها يعاوده من حين لآخر.

قالت له أمه، وهي تحثه على الإسراع في ارتداء ملابسه: “الناس ينتظروننا”. أحكم غترته على رأسه وألقى نظرة أخيرة في المرآة وخرج ممسكًا بيد والدته، ومعهما أخته، إلى حيث تنتظرهم العروس وأهلها. كان الاستقبال حارًا، والفرحة لا توصف، والعيون تغرد بالسعادة. رأى الفتاة التي يعرفها، التي هم ذاهبون لرؤيتها، بدت رائعة الجمال في ثوبها الحريري الأزرق، كأنها شعاع من نور يخترق شغاف قلبه.

التقاها لأول مرة في المستشفى الذي تعمل فيه طبيبة للأسنان. نصحه صديقه منذ الطفولة، وزميلها في المستشفى، الدكتور سعيد، بالذهاب إلى عيادتها، إذ كان يحثه دائمًا على الزواج ويشجعه على إلقاء نظرة عليها. وصفها بأنها فتاة فاضلة، متميزة في تعاملاتها مع زملائها وزميلاتها، وماهرة ومتفوقة في عملها، محتشمة في ملابسها ومقتصدة في ابتسامتها، تبتعد عن الأنشطة الاجتماعية لالتزاماتها تجاه إخوتها ووالدتها.

حياها بابتسامة، فردت بتحفظ. لاحظت توتره وهو جالس على كرسي الكشف، فقالت له وهي تنحني نحوه: “لا تخف، لن تشعر بشيء. هل هذه أول مرة تذهب فيها إلى طبيب أسنان؟” رائحة عطرها أزالت بعض توتره. أنهت عملها بمهنية عالية، وقالت: “في المرة القادمة سنكمل علاج باقي الأسنان”.

في الزيارة الثانية، قالت له وهي تنظر إلى وجهه: “أخبرني صديقك الدكتور سعيد أنك لم تتزوج، هل هذا صحيح؟” صمت قليلًا، ثم قال: “لم أجد بعد بنت الحلال، وفتاة الأحلام”. هزت رأسها متعجبة، وقالت: “أنت أستاذ مرموق في الجامعة، والكثيرات يتمنين الاقتران بك”. نظر إليها في استغراب، متسائلًا وقد وقعت عيناه على يديها الخاليتين من أي علامة زواج أو ارتباط: “وأنا علمت من صديقي وزميلك الدكتور سعيد أنك لم تتزوجي”.

ارتبكت وابتسمت ابتسامة مرتعشة وانحنت برأسها في خجل، بينما تابع هو حديثه قائلًا: “أنتِ فتاة جميلة ولبقة، والكثيرون يتمناكِ”. تنهدت في ضيق واغرورقت عيناها بالدموع وقالت: “كل شيء قسمة ونصيب”. هز رأسه مؤيدًا: “فعلاً، كل شيء قسمة ونصيب”. سألته باهتمام: “وأنت، لماذا لم تتزوج حتى الآن؟” أجابها مبتسمًا: “يبدو أن العمل في الجامعة استغرقني، وربما النصيب لم يطرق الباب”. ابتسم، وابتسمت هي إعجابًا بشخصيته.

في آخر زيارة له لعيادتها، نظر إليها ونظرت إليه، مد لها يده، ومدت له يدها. تصافحا. وفي طريقه إلى خارج المستشفى، مرّ على عيادة الدكتور سعيد، الذي بادره قائلًا: “هل نقول مبروك؟” أجاب بلا تردد: “على بركة الله”.

عندما عادت أمه، أثنت على الفتاة وعلى أهلها، وقالت له وهي تدعو له: “ربنا يوفقك يا ولدي وتكون من نصيبك. الفتاة طيبة وبنت ناس”. وأضافت: “العمر يجري، ماذا تنتظر؟” أما أخته، فقد أثنت على أناقة العروس وجمالها، وقالت له: “صحيح أنها تجاوزت الثلاثين، لكنها إنسانة طيبة القلب، وكثير من زميلاتها يثنون على أخلاقها العالية”.

في اليوم التالي، ذهب إليها في العيادة، أخرج من جيبه خاتمًا أنيقًا. ارتعشت أصابعها وهو يلبسها إياه. أشرق وجهها بالبهجة والنضارة… وبكت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى