**- الجلسة الثانية سامرت فيها مكتبتي , قالت إني سآئلتك عن مسائل ,ومشددة عليك فيها وآليت عليك ألاّ أجبتني عنها , فقد سئمت دخولك علينا وخروجك عنا , فالتفت إليها وقلت لها هاتي ما عندك , فقالت : خذها بقوة:
س : ما النقد ؟ وما القواعد والأصول المنهجية لتدريس النقد ؟
ج : النقد من نقدت الدراهم إذا فحصتها وميزت جيدها من رديئها , وصحيحيها من زائفها وهو عملية وصفية تبدأ بعد عملية الإبداع مباشرة وتستهدف قراءة النتاج الأدبي ودراسته والكشف عن جوانب الحسن والقبح فيه وتمييزه مما سواه وإصدار الأحكام النقدية السليمة عليه بغرض تقويمه وتفسيره وشرحه وتعليله وتوجيه صاحبه . أما الأصول التي نأمل أن تعصم الدرس النقدي من الزلل فأهمها ما يأتي :
أولاً = قيام الدرس النقدي على التراث العربي ومن أنسب الوسائل لتحقيق ذلك دراسة تاريخ النقد العربي وقضاياه دراسة موسعة من خلال كتب التراث النقدي ومصادره الأصيلة وتدريب الطلاب على القراءة في هذه الكتب والتمرس بأساليبها التعبيرية ومحاولة فهمها وتفسير ما قد يغمض من معانيها . ولا يقف الدارس عند هذا وإنما يجب أن يتعدى هذه الناحية إلى دراسة تحليلية لمناهج هذه الكتب ومناقشة قضاياها مناقشة علمية دقيقة .
ثانياً = الاستضاءة بقواعد ونظريات النقد الأوربي وقواعده واتجاهاته في تفسير الظواهر الأدبية والنقدية على هدى من مناهج العلوم الإنسانية كعلم الجمال والتاريخ وعلم النفس والاجتماع .
ثالثاً = وصل الدرس النقدي بالدرس الأدبي فكلاً منهما يحتاج الآخر ومن الصعب أن يتصور وجود أحدهما بمعزل عن الآخر .
رابعاً = ربط الدرس النقدي بالدرس البلاغي , فقد يعنى الدرس البلاغي بالشكل وقد يعنى الدرس النقدي بالعمل الأدبي كله لكنهما يلتقيان في النهاية حول تقويم العمل الأدبي ونقده ولما كان تقويم العمل الأدبي أو قياس جودته لا يرجع إلى الشكل وحده ولا إلى المضمون وحده وإنما يرجع إلى هذا وذاك فليس من الصواب الفصل بين درس البلاغة ودرس النقد وإنما الأقرب إلى الصواب وصل هذا بذاك . يضاف غلى ذلك أن هناك قضايا تعد قاسماً مشتركاً بين النقد والبلاغة كاللفظ والمعنى والخيال والصورة الفنية ولغة الأدب .
خامساً = الاهتمام بالناحية التطبيقية , فليس من الصواب الاهتمام بالجانب النظري وإغفال الجانب التطبيقي أو العكس وإنما الرشد الجمع بينهما , ولا ينبغي أن يقتصر التطبيق على ذكر الشواهد والأمثلة التي تدعم هذه القاعدة النقدية أو تلك , كما لا ينبغي أن يقصر كذلك على النقد الجزئي لبعض الشواهد والأبيات الشعرية المفردة وإنما يجب أن يتعدى ذلك النقد الجزئي إلى النقد الكلي للعمل الأدبي المتكامل .
س : نريد أن نتحدث عن النقد الأدبي القديم , وبخاصة بذوره في العصر الجاهلي ج : النقد الأدبي قديم في حياة الإنسان قدم الأدب نفسه , فلا يظهر النص الأدبي إلا وينال شيئاً من النقد . ومعظم كتب الأدب تعود بالنقد وتاريخه القديم إلى اليونان , وفيه نظر , يقول شوقي ضيف : ” اليونان القدماء هم الذين سبقوا إلى وضع أصول النقد وقواعده ” لكنه لم يبين لنا صدق هذه القواعد أو بطلانها .
وضع هوميروس ملحمتيه الإلياذة والأوديسا , وظهر الشعر الغنائي والملحمي , ولما جاء أفلاطون ( 429- 347ق م ) هاجم الشعر والشعراء من خلال نظريته في المثل والمحاكاة ثم جاء تلميذه أرسطو ( 384- 312ق م ) فوضع قواعد جديدة في النقد يختلف مع أستاذه فيها فقد أهمل أرسطو الشعر الغنائي واهتم بالمأساة والملهاة لأنهما في نظره يمثلان الشعر التمثيلي الذي هو أرقى أنواع الشعر عنده .
وتلقى الرومان الآداب اليونانية والفكر اليوناني وحذوا حذوهم فيها , حتى قيل : إن الرومان احتلوا اليونان عسكريا , واليونان احتلوا الرومان أدبا وفكرا وثقافة . ووضع الشاعر الروماني فيرجيل الإلياذة الرومانية على غرار إلياذة هوميروس اليوناني . وسأضرب صفحا عن الصراع بين المسيحية والوثنية وعصر النهضة وأعود إلى صميم سؤالك .
عزيزي لا زالت الدراسات النقدية في اضطراب حول الأحكام النقدية التي صدرت في العصر الجاهلي , ولكن ينبغي أن نؤكد على أن النقد الجاهلي كان نقداً ذاتياً انفعاليا ارتجاليا خالياً من التعليل والتوجيه ؛ لأنهم ليسوا في حاجة إلى التعليل ؛ لصفاء القرائح وثقوب الأذهان التي تكتفي باللمحة الدالة والإشارة الخاطفة . ونؤكد أيضاً أنهم كانوا يتمتعون بذائقة محضة رائعة وعالية يعتمدون عليها في التمييز , لكننا لا ينبغي الاستسلام لهذه الأحكام التي قد يُمليها عليهم الهوى أو النزعة أو النزوة ولاء أو عداء , ونتخذها أسساً تقام عليها معالم النقد .
من أقدم ما عرف عن النقد عند الجاهليين حكومة أم جندب الطائية بين امرئ القيس وعلقمة الفحل فقد رووا أن امرأ القيس لما كان عند بني طيئ زوجوه منهم أم جندب , وبقي عندهم ما شاء الله , وجاءه يوماً علقمة بن عبدة التميمي وهو قاعد في خيمته وخلفه أم جندب , فتذاكرا الشعر , فقال امرؤ القيس أنا أشعر منك ! وقال علقمة : بل أنا أشعر منك ! فقال :
قل ! وأقول وتحاكما إلى أم جندب , فقال امرؤ القيس قصيدته في وصف فرسه وناقته والتي مطلعها :
خليلي مرّا بي على أم جندب *** نقضّ لُبانات الفؤاد المعذب
فللساق ألهوب وللسوط درة *** وللزجر منه وقع أخرج مهذب .
ثم قال علقمة الفحل في القافية والروي قصيدته التي مطلعها :
ذهبت من الهجران في غير مذهب *** ولم يك حقاً كل هذا التجنب
فأدركهن ثانيا من عنانه *** يمر كمر الرائح المتحلب .
فلما فرغ علقمة فضلته أم جندب على امرئ القيس , فقال لها : بم فضلته علي , فقالت : فرس ابن عبدة أجود من فرسك , قال : وبماذا ؟ قالت : إنك زجرت وحركت ساقيك وضربت بسوطك . أما علقمة فقد أدرك فرسه ثانياً من عنانه لم يضربه بسوط ولم يتعبه . فقال امرؤ القيس : ما هو بأشعر مني , ولكنك له عاشقة , وطلقها , فخلفه عليها علقمة . فسمي الفحل . ومر المسيب بن علس بمجلس بني قيس بن ثعلبة فاستنشدوه , فأنشدهم :
وقد أتناسى الهم عند احتضاره *** بناج عليه الصيعرية مكدم .
فقال طرفة وهو صبي يلعب مع الصبيان : ” استنوق الجمل ” ؛ لأن الصيعرية سمة في عنق الناقة لا البعير . وروي أن النابغة الذبياني كان يجلس في سوق عكاظ يحكم بين الشعراء حيث فضل الأعشى على حسان , وفضل الخنساء عليهما لقولها :
قذى بعينك أم بالعين عوار *** أم أقفرت مذ خلت من أهلها الدار .
وقال : ” لولا أن أبا بصير أنشدني لقلت إنك أشعر أهل الجن والإنس , فغضب وحسان وقال له : والله أنا أشعر منك ومنها , قال له النابغة : حيث تقول ماذا ؟ قال :
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى *** وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
ولدنا بني العنقاء ابني محرق *** فأكرم بنا خالاً وأكرم بنا ابنما .
فقال النابغة : إنك شاعر لولا أنك قللت جفانك , وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك , وقلت يلمعن بالضحى , ولو قلت : يبرقن بالدجى لكان أبلغ في المديح ؛ لأن الضيف بالليل أكثر طروقاً وقلت : يقطرن من نجدة دما , فدللت على قلة القتل , ولو قلت : يجرين لكان أكثر لانصباب الدم , ولكن يا بن أخي إنك لا تحسن أن تقول مثل قولي :
فإنك كالليل الذي هو مدركي *** وإن خلت أن المنتأى عنك واسع .
فقام حسان ولم يحر جواباً . ولقد عاب العرب على النابغة الذبياني الإقواء , أي اختلاف حركة الروي في القصيدة , ولم يستطع أحد أن يصارح النابغة بهذا العيب حتى دخل يثرب مرة فأسمعوه غناء قوله :
أمن آل مية رائح أو مغتدي *** عجلان ذا زاد وغير مزود
زعم البوارح أن رحلتنا غدا *** وبذاك خبرنا الغراب الأسودُ
ففطن ولم يعد إلى ذلك . وقالوا عن قصيدة علقمة بن عبدة ( هل ما علمت وما استودعت مكتوم ) سمط الدهر فلما عاد إليهم العام المقبل فأنشدهم :
طحا بك قلب في الحسان طروب *** بعيد الشباب عصر حان مشيب .
قالوا : هاتان سمطا الدهر . وتحاكم الزبرقان والمخبل وعبدة بن الطيب وعمرو بن الأهتم إلى ربيعة بن حذار الأسدي أيهم أشعر ؟ فقال : أما عمرو فشعره برود يمنية تطوى وتنشر , وأما الزبرقان فكأنه رجل أتى جزوراً قد نحرت , فأخذ من أطايبها وخلطه بغير ذلك , أو قال له : شعرك كلحم لم ينضج فيؤكل , ولا ترك نيئاً فينتفع به , وأما أنت يا مخبل فشعرك شهب من الله يلقيها على من يشاء من عباده , وأما أنت يا عبدة فشعرك كمزادة أحكم خرزها فليس يقطر منها شيء . وهذا نقد يفاضل بين الشعراء , وبجانبه نوع آخر هو الحكم على بعض القصائد حيث أطلقوا على لامية حسان في مدح الغساسنة ( لله در عصابة نادمتهم ) البتارة التي بترت المدائح , وأطلقوا على قصيدة سويد بن أبي كاهل :
بسطت رابعة الحبل لنا = فوصل الحبل منها ما انقطع . اليتيمة .
س : مادام أننا في هذا الجو الفني والنقدي , نرجو تحديد المصطلح الفني والنقدي لمفهوم الشعر ؟
ج : الشعر العلم بالشيء , والتفطن له , وإدراكه , وقالوا إن كل علم يدعى شعرا, ولكنه غلب على منظوم القول لشرفه بالوزن والقافية .
رأى قدامة بن جعفر أن أول ما يحتاج إليه في شرح جيد الشعر ورديئة معرفة حد الشعر , فعرفه بأنه قول موزون مقفى يدل على معنى , والأسباب المفردات التي يحيط بها حد الشعر وهي اللفظ والمعنى والوزن والتقفية ” ومنه يتبين أن أهم خواص الشعر عند قدامة هي الوزن والقافية والمعنى .
ويشرح ابن رشيق حد الشعر بقوله : (( البنية من أربعة أشياء وهي : اللفظ والوزن والمعنى والقافية ؛ فهذا حد الشعر لأن من الكلام موزونا مقفى وليس بشعر لعدم الصنعة والبنية كأشياء اتزنت من القرآن ومن كلام النبي – صلى عليه وسلم – وغير ذلك مما لم يطلق عليه أنه شعر )) .
وإذا وقفنا عند هذا التعريف لاحظنا قصورا في التعريف وسماحه للنظم العلمي أن يحتل دائرة الشعر إذ هي اللفظ والمعنى والوزن والقافية , على أن كلمة المعنى الواردة في كلام الناقدين هي سبب ذلك , فالمقصود بها غير واضح لجواز أن يكون قاعدة نحوية أو منطقية أو فقهية مما لا يدخل في الشعر مطلقا .
الشعر عزيزي ما اشتمل على اللغة الموزونة وعلى المثل السائر والاستعارة الرائعة والتشبيه الواقع وما سوى ذلك فإنما لقائله فضل الوزن . الشعر التعبير عما في النفس من فكر وشعور ولذلك يمكننا القول بأن الشعر : الكلام الموزون المقفى الذي يصور العاطفة والعقل , فإذا توافر لنا الوزن والقافية دون التأثير العاطفي كان الكلام نظماً كألفية ابن مالك في النحو وحرز الأماني للشاطبي في القراءات . وإذا توافر لنا التأثير دون الصورة الموسيقية كان الكلام نثراً أدبياً نجده في رسائل الكتاب , وبعض النص النصوص الوصفية والقصصية .
*** أساتذتي الكرام ينبغي ان تعلموا أن :
*= الشعر إحساس ناطق تعبير صادق وأمين عن خلجات النفوس واهتزازاتها وذبذباتها يلامس شغاف القلوب ويهز أوتارها . يحتال على رجة النفوس بألفاظه ووزنه وإدارة معانيه وطريقة تأديتها إلى النفس , وتأليف مادة الشعور تأليفاً مسبوكاً منسجماً لا يقع فيه تفاوت ولا اختلال ولا يُحمل عليه تعسف ولا استكراه , فإذا تمّ له ذلك كان أسمى شعر إنساني يغمرك بالطرب ويُهزك من أعماق النفس ويُورد عليك نفحة الروح .
*= وشعرنا العربي الأصيل شعر ذاتي يمثل صاحبه وأهواءه ويصور نفسية الفرد وما يختلجه من عواطف وأحاسيس , فالذات مبعث الشعر في كل تجربة شعرية .
*= وأشواق النفس هي مادة الأدب فليس يكون أدبا إلا إذا وضع المعنى في الحياة التي ليس لها معنى أو كان متصلاً بسرّ هذه الحياة فيكشف عنه أو يؤمئ إليه من قريب .
*= والشاعر هو الإنسان الكوني وغيره هو الإنسان فقط يدلّه الجمال على نفسه ليدل غيره عليه , وبذلك زيد على معناه معنى أو أضيف إليه في إحساسه قوة إنشاء الإحساس في غيره فأساس عمله دائما أن يزيد على كل فكرة صورة لها ويزيد على كل صورة فكرة فيها فهو يبدع المعاني للأشكال الجامدة فيوجد فيها الحياة فيها ويبدع الأشكال للمعاني المجردة فيوجدها في الحياة فكأنه خُلق ليتلقى الحقيقة ويعطيها للناس ويزيدهم فيها الشعور بجماله الفني .
*= وما سمّي الشاعر شاعراً إلا لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره فإذا لم يكن عند الشاعر توليد معنى ولا اختراعه أو استطراف لفظ وابتداعه أو زيادة فيما أجحف فيه غيره من المعاني أو نقص مما أطاله سواه من الألفاظ أو صرف معنى إلى وجه عن وجه آخر كان اسم الشاعر عليه مجازاً لا حقيقة ولم يكن له إلا فضل الوزن .
*= والشاعر السامي ينشئ الأمة إنشاء سامياً يدفعها إلى المعاني دفعاً , يردها عن سفاسف الحياة يوجهها بدقة الإبرة المغناطيسية إلى الآفاق الواسعة , يملأ سرائرها يقيناً , ونفوسها حزماً وأبصارها نظراً وعقولها حكمة وينفذ بها من مظاهر الكون إلى أسرار الألوهية .
*= لذة الشعر آتية من جمال أسلوب الشاعر وبلاغة معانيه وتناوله الكون والحياة بالأساليب الشعرية التي في النفس فإذا لم يستطع الشاعر أن يأتي في نظمه بالرّوي المونق والنسيج المتلائم والحبك المستوي والمعاني الجيدة ورأيته يأتي بالشعر الجافي والغليظ الوحشي والسقيم الردي فاعلم أنه رجل قد باعده الله من الشعر وابتلاه مع ذلك بزيغ الطبيعة وسرف التقليد فما يجيء الشعر على لسانه في بيت إلا بعد أن يجيء اللغو على لسانه في مائة بيت أو أكثر أو أقلّ .
س : ماذا يقصد بالقصيدة العربية , وما حدودها ؟
ج : القصيدة العربية مجموعة من الأبيات الشعرية ترتبط بوزن واحد من الأوزان التي حصرها الخليل وغيره من القدماء , وتلتزم فيها قافية واحدة ورويّ واحد كما يرى القدماء وأكثر المعاصرين .
وفي لسان العرب ( قصد ) القصد استقامة الطريق والقصيد من الشعر ما تم شطر أبياته , ومعنى ذلك ان الشعر كلام سويّ مستقيم لا عوج فيه ولا يجعله كذلك إلا اللفظ الرشيق والمعنى العميق والوزن الذي يضبط ابيات القصيدة ويجعلها تنساب في نغم واحد والقافية التي تكسبها إيقاعاً جميلاً وتضبط أواخر البيت من الانسياب ولا يتم ذلك إلا بالروية والتأمل والتنقيح الذي يجعل القصيدة قطعة واحدة كالطريق المستقيم . يقول ابن منظور : وقيل : سمي قصيداً ؛ لأنه احتفل به فنقحه باللفظ الجيد والمعنى المختار . ولذلك قالوا : الشعر الكلام الموزون المقفى الدال على معنى ولا يتم المعنى من غير لفظ , وبذلك تتوافر عناصر الشعر الأربعة تتوافر في القصيدة (( اللفظ والمعنى والوزن والقافية )) أما الوحدة التي تجمع الأبيات وتربط المعاني فلم يشيروا إليها , وإن كانت بعض العبارات توحي بذلك من بعيد .
أما الغربيون فقد أولوا هذا الجانب عناية كبيرة وجعلوا الارتباط بين أجزاء القصيدة اساس تعريفهم , يقول كولردج : (( ولكن إذا كان التعريف المطلوب تعريفاً للقصيدة بالمعنى المشروع فإني أجيب بأنه لا بدّ أن تكون بحيث تتساند أجزاؤها فيما بينها ويفسر بعضها بعضاً وتتساند جميعها وتنسجم كل على قدره مع الغرض والتأثيرات المعروفة للنظام العروضي )) انظر : الرومانتيكية في الشعر – سيرة ادبية ص 249, وكولردج ص 149. والمعنى أن القصيدة ينبغي ان تكون مترابطة الأجزاء وأن يكون كل جزء عضواً نابضاً بالحياة .
ويقول رتشاردز : (( القصيدة هي ذلك الفصل من التجارب التي لا تختلف في أي من صفاتها إلا بمقدار معين يتفاوت في كل صفة من هذه الصفات من التجربة المثلى السوية , ونستطيع أن نعتبر هذه التجربة المثلى هي تجربة الشاعر حين يتأمل القصيدة كاملة )) انظر : مبادئ النقد الأدبي ص 294. والمعنى أن القصيدة ترتبط بالتجربة الصادقة أكثر من ارتباطها بالشكل الخارجي او بالألفاظ والأوزان .
أما حدودها فقد اختلف النقاد العرب في عدد أبياتها فذهب الأخفش إلى ان أقل عدد أبياتها ثلاثة , ورأى ابن جني في قول الأخفش جوازاً لأن العادة ان يسمى ما كان على ثلاثة أبيات أو عشرة او خمسة عشر قطعة , فأما ما زاد على ذلك فإنما تسميه العرب قصيدة .
ونقل الباقلاني صاحب إعجاز القرآن ص 257عن الفراء أن العرب تسمي البيت الواحد يتيماً , فإذا بلغ البيتين والثلاثة فهي نتفة وإلى العشرة تسمى قطعة , وإذا بلغ العشرين استحق ان يسمى قصيداً . وفي العمدة لابن رشيق 1/ 189 : إذا بلغت الأبيات سبعة فهي قصيدة . وتبنى القصيدة من المطلع وهو أول ما يقع في السمع , فقد كان الشعراء القدامى يعدون الشعر قفلاً أوله مفتاحه فإذا كان بارعاً أيقظ نفس السامع وكان داعياً إلى الاستماع إلى ما بعده , ولقد حدد النقاد القدامى معايير للمطلع هي : أن يكون مناسباً ومطابقاً للموقف , ولذا عاب النقاد على ذي الرمة مطلع قصيدته التي مدح بها الخليفة عبد الملك إذ قال :
ما بال عينيك منها المع ينسكب *** كأنه كلى مفرية سرب
واتهموه بفساد الذوق ؛ لأنه بدأ قصيدته بالدمع المنسكب وبالكلى المفرية وهذا القول لا يتناسب مع الموقف وهو مدح الخليفة . وأن يكون المطلع قوياً وله روعة كقول أبي تمام يمدح المعتصم :
السيف أصدق انباء من الكتب *** في حده الحد بين الجد واللعب .
وأن يكون المطلع خالياً من الأخطاء النحوية وخاليا من التعقيد , ولعل امرأ القيس أحسن الشعراء ابتداء في الجاهليين والقطامي في الإسلام وبشاراً في المحدثين .
كما يحسن الشاعر في بناء قصيدته حسن التخلص , فإذا انتهى من المطلع تخلص إلى النسيب ثم إلى وصف الرحلة والراحلة فإذا انتهى من ذلك تخلص إلى مدح الممدوح .
س : أدرك نقاد العرب أن الشعر يختلف في أسلوبه ومعانيه تبعاً لمؤثرات تؤثر في الشاعر , ما هي هذه المؤثرات ؟
ج : أولها : الطبع والجبلة التي خلق عليها الشاعر , يقول الجرجاني صاحب الوساطة : (( يرق شعر أحدهم , ويصلب شعر الآخر , ويسهل لفظ أحدهم , ويتوعر منطق غيره ؛ وإنما ذلك بحسب اختلاف الطبائع , وتركيب الخلق ..)) .
والثاني : البيئة المكانية فلها أثر في صلابة الشعر وجزالته , وفي كزازة الألفاظ وتعقيدها , ولها أثرها في المعاني والتشبيهات التي يأتي بها الشاعر , وفي الحديث ( من بدا جفا ) ولذلك نجد شعر عدي وهو جاهلي أسلس من شعر الفرزدق ورجز رؤبة وهما آهلان لملازمة عدي الحاضرة – يقصد الحيرة – , وإيطانه الريف وبعده عن جلافة البدو , وجفاء الإعراب . روى المرزباني أن عمر بن أبي ربيعة أتى الفرزدق فأنشده من شعره , وقال له : كيف ترى شعري ؟ قال : أرى شعراً حجازياً إن أنجد اقشعر , يريد الفرزدق أن يقول : إن بيئة الحجاز تنتج شعراً أقل قوة وحرارة مما تنتجه بيئة نجد , وإن شعر عمر بن أبي ربيعة إذا نقل إلى أهل نجد أحسوا بما فيه من ضعف ولين وسهولة .
قيل لابن الرومي لم لا تشبه كتشبيهات ابن المعتز وأنت أشعر منه ؟ فقال له : أنشدني شيئا من شعره الذي استعجزتني في مثله ؛ فأنشده قوله في صفة الهلال :
فانظر إليه كزورق من فضة *** قد أثقلته حمولة من عنبر .
فقال : زدني ؛ فأنشده :
كأن آذريونـــــــــها *** والشمس فيه كالية .
مـــــــداهن من ذهب *** فيها بقايا غالية .
والآذريون : زهر أصفر , وكالية : ناظرة , ومداهن جمع مدهن وهو قارورة الدهن , والغالية أخلاط من الطيب . فقال : إنه يصف ماعون بيته , وأنا أي شيء أصف ؟ ولكن استمع إلي وأنا أقول :
ما أنسى لا أنسى خبازاً مررت به *** يدحو الرقاقة وشك اللمح بالبصر
ما بين رؤيتها في كفه كرة *** وبين رؤيتها قوراء كالقمر
إلا بمقدار ما تنداح دائرة *** في لجة الماء يلقى فيه بالحجر .
والثالث : البيئة الاجتماعية : فالأصمعي يقرر أن البيئة التي يكثر فيها الشر يجود فيها قول الشعر , على عكس البيئة الاجتماعية الخيرة .
والرابع : الموهبة والذكاء والثقافة وتثقيف الشعر وتهذيبه . والخامس : صدق التجربة والإخلاص لها وهذا من أقوى المؤثرات في الشعر .
س : نعلم أن عناصر الشعر أربعة , وأن النقاد وضعوا لكل عنصر منها مقاييس وشروطاً ؛ نرجو التكرم بالحديث عن هذه العناصر وباختصار .
ج : أولها المعنى وهو قوام كل أنواع الأدب , وهو الفكرة التي تعبر عنها القصيدة , ويشترطون له شروطاً كثيرة نذكر منها :
= الصحة والخطأ : ينبغي أن يكون المعنى صحيحاً لا خطأ فيه , من ناحية الواقع والتاريخ واللغة , ولذلك يؤخذ على زهير بن أبي سلمى قوله :
فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم *** كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم .
فالمقصود هو أحمر ثمود الذي أقدم على عقر الناقة , ولذا وقع في الخطأ ؛ لأنه لم يلتزم بالحقيقة التاريخية , ومن الأخطاء التي سببها الجهل بالحقائق قول أبي نواس يصف أسداً :
كأنما عينه إذا نظرت *** بارزة الجفن عين مخنوق .
فإن عين المخنوق تكون جاحظة , ولا يوصف الأسد بجحوظ العين , بل يوصف بغئورها . ومنه قول رؤبة بن العجاج :
كنتم كمن أدخل في جحر يدا *** فأخطأ الأفعى ولاقى الأسودا
فقد جعل الأفعى دون الأسود وهي فوقه في المضرة . ومن ذلك ما يروى أن طرفة بن العبد سمع المسيب بن علس يقول :
وقد اتناسى الهم عند احتضاره *** بناج عليه الصيعرية مكدم
فقال له طرفة : استنوق الجمل , أي أنك كنت في صفة جمل فلما قلت : ( الصيعرية – سمة حمراء تعلق في عنق الناقة خاصة ) عدت غلى ما توصف به النوق . لقد كشف حكم طرفة عن عدم تمكن الشاعر من معرفة دلالات الألفاظ فحكم بعدم صحة المعنى .
= الابتكار والتجديد , وهو أن يهتدي بعض الشعراء إلى معان جديدة لم يسبق إليها , وأن من هذه المعاني ما لم يستطع الشعراء مجاراته وسرقته كقول عنترة بن شداد العبسي : وخلا الذباب بها يغني وحده *** غرداً كفعل الشارب المترنم
هزجاً يحك ذراعه بذراعه *** فعل المكب على الزناد الأجذم
= الطرافة , فمن استجادة المعنى طرافته وندرته وغرابته , فهو مبتكر من ناحية , وغريب من ناحية أخرى , كمدح أبي تمام للمعتصم ( هو البحر من أي النواحي أتيته ) وقد سبق .
= الوفاء بالمعنى وإعطائه حقه , وهم لذلك يذكرون ألواناً بلاغية يصبح بها المعنى مستوفى مثل : التتميم أو الاحتراس , قال طرفة بن العبد البكري :
فسقى ديارك غير مفسدها *** صوب الربيع وديمة تهمي .
والاعتراض كقول عوف بن محلم يدعو لعبد الله بن طاهر :
إن الثمانين وبلغتها *** قد أحوجت سمعي إلى ترجمان .
والتقسيم كما في قول زهير : فإن الحق مقطعه ثلاث *** يمين أو نفار أو جلاء .
= الصدق والكذب ويقصد بذلك المطابقة للواقع أو عدم المطابقة للواقع , وأول ما يطالعنا رأي عمر بن الخطاب فقد اثنى على زهير في مدحه لهرم بن سنان بما يجب أن يكون , لا بما هو كائن , فهناك إذن نوعان من الصدق :
الأول : الصدق الواقعي ويقصد به وقوف الشاعر عند حدود الأخلاق فلا يمدح البخيل بالكرم ولا القبيح بالجمال فصدق الشاعر مرده إلى العرف الاجتماعي وهو ما كان معروفاً في العصر الجاهلي .
الثاني : الصدق الفني ويقصد به أصالة الشاعر في تعبيره . وقد نوّه ابن سلام بهذا وجعل إحساس التجربة مقياساً على الصدق .
= الوضوح والغموض وظهرت عند ظهور أبي تمام إذ أخذ يذيع في الناس شعراً يمثل ظاهرة جديدة هي ظاهرة التعقيد والبديع والغموض . وكان البحتري معاصراً لبي تمام فأخذ الناس يوازنون بين شعر أبي تمام وشعر البحتري وانقسم الناس إلى فريقين , وعلى كل حال فقد حدد الآمدي صفات وضوح المعنى وصفات غموضه فهو يرى ان هناك صفات يجب توافرها في المعنى حتى يكون واضحاً وهي (( أن يكون الشعر صحيح السبك , حسن الديباجة , مستوياً يشبه بعضه بعضاً , وأن يسير الشاعر فيه على مذهب الأوائل , وألا يفارق عمود الشعر , وأن يتجنب الشاعر التعقيد ومستكره الكلام , وأن تكون ألفاظه سهلة عذبة لا تبلغ الهذر الزائد على قدر الحاجة , ولا تنقص نقصاناً يقف دون الحاجة ))
ونراه يحدد صفات غموض المعنى بقوله : (( إذا كان المعنى يحتاج إلى استنباط واستخراج , وإذا كان الشاعر يميل إلى التدقيق وفلسفي الكلام , وألا يسير الشاعر في معانيه على طريق الأوائل , وإذا كانت استعاراته بعيدة ومعانيه مولدة , وإذا كان الشاعر متكلفاً في استخدام ألوان البديع ))
وثانيها : العاطفة وهي الحالة الوجدانية التي تدفع الإنسان إلى الميل للشيء أو الانصراف عنه . وتتجلى أهمية العاطفة من حيث إنها تمثل نقطة البدء في العمل الأدبي . وسماها القدماء قواعد الشعر , ويقصدون الأسس والينابيع والدواعي التي يتفجر عنها الشعر , ونسميها نحن اليوم الانفعالات والعواطف .
ذكر ابن قتيبة أن للشعر دواعي تحث البطيء وتبعث المتكلف منها الشراب ومنها الطرب ومنها الطمع ومنها الغضب ومنها الشوق ومنها الوفاء . وأوجز بعض النقاد هذه الانفعالات والعواطف في أربعة : الرغبة ويكون معها المدح والشكر . والرهبة ويكون معها الاعتذار والاستعطاف . والطرب ويكون معه الشوق ورقة النسيب . والغضب ويكون معه الهجاء والتوعد والعتاب الموجع .
وتقاس العاطفة بصدقها ويراد بصدق العاطفة أن تنبعث عن سبب صحيح غير زائف ولا مصطنع حتى تكون عميقة تهب للأدب قيمة خالدة .
وتقاس أيضاً بقوتها ويكون ذلك عن طريق إثارتها للقارئ إما بجدة الموضوع أو جدة الشكل , ومرد ذلك إلى طبيعة الأديب , فيجب أن يكون قوي الشعور عميق العاطفة ليستطيع بث ذلك في نفوس القرّاء , وسواء كان ذلك عن طريق التعبير أو التصوير , ويستلزم صدق العاطفة وقوتها ثباتها واستمرارها فكثيراً ما تخدعنا بعض النصوص الأدبية تبدو قوية ثم لا تلبث أن تخمد جذوتها كالهشيم يشتعل وسرعان ما يحور رمادا .
ويراد بثبات العاطفة استمرار سلطانها على نفس المنشئ ما دام يشعر أو يكتب لتبقى القوة شائعة في فصول الأثر الأدبي .
والمقياس الرابع يتمثل في تنوعها وسعة مجالها , وهذا التنوع يكون مقياساً للمفاضلة بين الشعراء . يقول ابن الأثير في المثل السائر : (( والمذهب عندي في تفضيل الشعراء أن الفرزدق وجريراً والأخطل أشعر العرب أولاً وآخراً …ولا ينبغي أن يوقف مع شعر امرئ القيس وزهير والنابغة والأعشى فإن كلاً من أولئك أجاد في معنى اختص به حتى قيل في وصفهم : امرؤ القيس إذا ركب , والنابغة إذا رهب , وزهير إذا رغب , والأعشى إذا طرب . وأما الفرزدق وجرير والأخطل فإنهم أجادوا في كل ما أتوا به من المعاني المختلفة , وأشعر منهم عندي المتأخرون وهم أبو تمام وأبو عبادة البحتري وأبو الطيب المتنبي فإن هؤلاء الثلاثة لا يدانيهم مدان في طبقة الشعراء , أما أبو تمام وأبو الطيب فربا المعاني , وأما أبو عبادة البحتري فرب الألفاظ في ديباجتها وسبكها ))
والعنصر الثالث : الخيال وهو ملكة قادرة على توليد الصور وتأليفها , وميدانه خصب إذ ساحته الذاكرة الإنسانية بما تختزنه من مدركات حسية وانطباعات وجدانية وتجارب حياتية . ويأتي تفصيله عند الحديث عن الصورة الشعرية .
والرابع : الأسلوب , ويعرفه عبد القاهر بأنه الضرب من النظم والطريقة فيه . وعرفه ابن خلدون بأنه المنوال الذي ينسج فيه التراكيب أو القالب الذي تفرغ فيه . وعلى كل حال فهو عند القدماء كما هو عندنا اليوم إذ الأسلوب هو الطريقة التي يسلكها الأديب في اختيار المفردات وصياغة التراكيب , فيعبر بها عما يعتلج في نفسه من العواطف والانفعالات . ومجاله المفردات ويشترطون لها شروطاً منها :
الدقة في أداء المعنى وأن تكون الكلمة موحية تثير في النفس معاني كثيرة , وأن تكون المفردة سهلة مأنوسة يألفها السمع ليست غريبة ولا وحشية ولا مبتذلة سوقية عامية . وأن يكون تأليفها من حروف متباعدة المخارج , وأن تكون الكلمة جارية على العرف العربي الصحيح وغير شاذة , وأن تكون قليلة الحروف فإذا زادت حروفها قبحت .
وتتعدد الأساليب إلى الأسلوب الموجز والمساوي والسهل والغامض والتصويري , وعلى الرغم فيمكن إرجاع صفات الأسلوب من حيث الغايات التي يقصد إليها المنشئون إلى : الوضوح لقصد الإفهام , والقوة لقصد التأثير , والجمال لقصد الإمتاع والسرور , وتعود هذه الصفات العامة والعميقة إلى أصل واحد وهو صدق التعبير .
س : ونتسآل ما الفرق إذا بين الشعر والنثر الفني ؟
ج : كلاهما أدب يعبر عن العقل والشعور , بل بعض الفنون النثرية كالقصة والوصف الخيالي والمقال التأملي والرسائل الوجدانية يقرب جدا من الشعر الغنائي في التأثير والتصوير , وعلى الرغم من ذلك فهناك فرق بين الشعر والنثر من عدة وجوه :
الأول : من الناحية التاريخية فالشعر أسبق من النثر – وأعني به اللغة المهذبة الفنية التي تعبر عن الحياة – في الوجود , وليس معنى النثر هنا لغة التخاطب أو الحديث العادي فهذه ضرورة اجتماعية سابقة .
والثاني : أن الناحية الموضوعية تقوم على أساس أن النثر أميل إلى التقرير والتوضيح , وأن الشعر أميل إلى التأثير والتصوير .
والثالث : يميل الشعر إلى الإيجاز , ويمل النثر إلى التفصيل والمنهج المنطقي .
والرابع : الخيال يكثر في الشعر لمكانة العاطفة فيه , ويقل الخيال في النثر لصفته الإيضاحية والخامس : غاية الشعر التأثير وغاية النثر النفع .
س : في ضوء ما سبق لا يمكننا إدراج الشعر الشعبي تحت مسمى الشعر الفني , فما رأيك ؟
ج : الشعر العامي أو ما يسمى بالشعر الشعبي يخرج من هذا التعريف , ولا أعده شعراً ألبته لأنه يعيدنا إلى الوراء بعد تفاؤلنا بانتهاء الأمية العربية , ونشر التعليم , وتوحيد اللغة العربية وجعلها لساننا العالمي , الشعر الشعبي معول هدم , وسوسة نخر في عظم الأمة . وذَوَبيان عولمي وضياع تاريخي , إنه دعوة سافرة إلى العامية وإحيائها وإقصاء لغة القرآن الكريم وإفسادها , مستغلاً – في ذلك التشظي والشرخ – الطباعة والصحافة والإعلام والفضاء كله , وطوفان عامي يرسخ أدباً ثانياً غير الأدب العربي الذي كان قد توحد منذ قيام دولة كندة في العصر الجاهلي وتمخض عن لغة أدبية واحدة .
ومن المؤسف أن هناك مسميات أطلقت على صعاليك هذه الدعوة من مثل : شاعر العرب , وشاعر المعنى , وشاعر الصحراء , وشاعر العالم , وأمير الشعراء , وراية الشعر , وشاعر قبيلة كذا وشاعر قبيلة كذا وغيرها من أسماء شعراء الانحطاط والركاكة . ولا أدري أين نضع زهيراّ وامرأ القيس وذا الرمة والمتنبي والبحتري وأبا تمام أمام هذه البدعة البديعة .
الشعر العامي أو الشعبي أو الزجل أو عبث الغثاثة يختلف عن الشعر العربي الفصيح في طريقة النظم والإنشاد فالاختلاف بينهما ظاهر في البناء والوزن والبحر والمفردات والقافية . كما أن الشعر العامي لا زالت أوزانه في عالم الغيب لم تحدد ولم تعرف .
وهناك قضية أخرى وهي أن الشعر العامي قد فقد خصيصتين من خصائص الشعر العربي الفصيح هما : الإعراب والتراكيب والخروج على قوانين النحو والتصريف , كما خضعت عباراته لصور أجنبية في تأليف الجمل وتكوين الأساليب , فالشاعر العامي يخضع له كل شيء من أجل استقامة وزن بيته .
إن تسليمنا بهذا الشعر هو تسليم بأننا لا نرى بأساً بأن تكون لنا لغتان وأدبان وعلينا , أن نرضى أيضا بأن نكون أكثر من لسان ووجه وشعب مندحرين بين الأمم لا تمثلنا ولا نمثلها أما وقد ابتليت الأمة به فإنني أدعو إلى حفظه في خزانة المكتبات العامة والاستفادة منه في دراسة الأحداث القبلية والمناسبات أو اللهجات أو البيئات كنمط اجتماعي أو ثقافي فذلك أمر محمود , أما أن نقبله كمادة فنية فلا يمكن القبول به إطلاقاً ففي ذلك خيانة ثقافية ووطنية جذرية ونكوص عن الدور الباني للأدب والنقد والارتقاء والنهوض والإبداع . وإني في هذا السياق لأشكر الأسد الهصور والغيور الأمير خالد الفيصل الذي يسعى دوما إلى إحياء التراث العربي والمحافظة عليه ورعايته والاحتفاء به , وخاصة مجال الأدب والإبداع فقد أدرك سموه أن إحياء السوق الأدبية سوق عكاظ يمثل رؤية أدبية ونقدية بارعة , فعكاظ ميدان فسيح لتبادل الآراء وعرض الأفكار ومجال للمناظرات والمنافرات والمحاورات , وميدان واسع لإلقاء روائع الشعر وجياد القصائد والتفاخر والمباهاة بالفصاحة , وأدرك أيضاً أن للسوق الأدبية دوراً لغوياً خطيراً فقد كانت سبباً في توحيد اللسان العربي , ونمو اللغة العربية وانتقالها من طور اللهجات المتباينة واللغات المتنافرة إلى لغة واحدة هي لغة قريش .
س : وتسائلني مكتبتي قائلة ذكرت في حديثك الزجل , فما معنى الزجل , وهل له جذور في تاريخ الأدب العربي ؟
ج : الزجل لغة الغلبة والتطريب ورفع الصوت , وفي الاصطلاح : نوع من الشعر تغلب عليه العامية , ولا يتقيد بقواعد اللغة والإعراب وصيغ المفردات . ظهر في الأندلس كمرحلة ثالثة لتحول الشعر الأندلسي , فالمرحلة الأولى هي مرحلة الفصيح , والمرحلة الثانية مرحلة إدخال العامية إلى الشعر مع تحوير في بناء القصيدة وتعدد الأوزان والقوافي , وهي مرحلة الموشحات , والمرحلة الثالثة هي مرحلة قول منظومات عامية تلتقي مع رغبات العامة .
وساعد على انتشاره عوامل عدة منها : الحاجة الشعبية إلى الغناء , والتأثر بالأغنيات الشعبية الشائعة . وكان من أبرز الزجالين ابن قزمان فقد كان شاعراً في أول نشأته فلما رأى أنه لن يصل إلى مسامتة ابن خفاجة وغيره عمد إلى طريقة لا ينافسه فيها أحد منهم فاتجه إلى الزجل فأجاد وصار إماما للزجالين بمنزلة المتنبي من الشعراء . ومعه مد غليس الذي كان بمنزلة أبي تمام وغيرهما .
س : وتقول لي أيضا ما الفرق بين اللغة الشعرية وبين اللغة العادية ؟
ج : اللغة العادية لا تعتمد على التشكيل الفني ولا يشكل إحداث التأثير بها في المتلقي أهمية وهدفها الإبانة والإيصال والتواصل . واللغة الشعرية تعتمد على التشكيل الفني والصياغة اللغوية الجمالية وتحدث أثراً نفسياً عند الأديب , وتأثيراً في المتلقي , وتهدف إلى المتعة والإثارة والخيال والجمال .
س : وتقول لي لكننا نحن عندما نقرأ بعض القصائد الجيدة نجد أن شعراءها قد استخدموا بعض الألفاظ العامية , فما رأيك في هذا الاستعمال ؟
ج : أنا لا أحارب اللغة العامية كلغة تواصل وتعبير عن الأغراض , لكن أن تكون لغة أدبية فهذا لا يمكن إطلاقا . أما استعمال بعض المفردات العامية في مطاوي القصيدة الفصيحة فلا مانع من استعمالها بشرط أن تكون في نطاق ضيق وأن يوظفها الشاعر في سياقها الملائم وتستدعيها الضرورة الفنية إذ قد يكون لها وقع في القصيدة خصوصاً إذا انطلقت بلسان الشارع أو الطفل ؛ لأنها أكثر لصوقاً بهم , وأيسر سبيلاً على قلب المتلقي . وقد استعمل الأعشى في قصيدته التي يصور فيها الخمر مفردات خمرية وكذا البحتري شاعر الطبع استعمل المصطلحات الفارسية في سينيته , وما عيب عليهما . يقول محمد الثبيتي :
قل لليلى تجيء صباح الأحد / إنها تقف بين الزلال وبين الزبد / قل لها ظاهر الماء ملح وباطنه من زبد / قل لها أنت حل لهذا الولد .
فالجملة الأخيرة تعد من التعبيرات المتداولة , لكن استخدامها في القصيدة كان رائعا وفعالا وصار عامل ارتقاء للقصيدة حيث اندمجت لغة الواقع مع لغة الشعر الراقية وكونتا معا لغة جميلة قريبة إلى نفس المتلقي تنضح بتجربة الشاعر .
س :, يدعوني هذا الطرح إلى السؤال عن عمود الشعر العربي , والذي من خلاله تستقيم القصيدة . فما هو مفهومه , وعناصره ؟
ج : أحسنت , عمود الشعر في اللغة هو الخشبة القائمة , وفي الاصطلاح : طريقة العرب في نظم الشعر , هذا عند بعض النقاد , ويعرّفه بعضهم : بأنه مجموعة الخصائص الفنية المتوفرة في قصائد فحول الشعراء . ولا شك أن أصول الشعر وعناصره التي يشير إليها المعنى الاصطلاحي تعد بمثابة الدعامة والركيزة الأساسية التي لا يقوم نظم الشعر الجيد إلا عليها .
وعندما نتحدث عن نشأته لا نجد من النقاد قبل الآمدي من تحدث عن عمود الشعر بهذا اللفظ إنما نحن نواجه هذا المصطلح عنده لأول مرة , فقد كان يردد عبارات تدل على تمسكه بعمود الشعر ومن ذلك قوله : (( النهج المعروف والسنن المألوف )) وقوله : (( فهذه هي الطريقة المعروفة في كلام العرب )) لذا ينسب له فضل الإسهام في تأسيس هذا المعنى وتأصيله فهو أول من حام حول هذا المسمى . وقد استفاد في تسمية هذا المصطلح من بعض المصطلحات النقدية القديمة مثل : مذهب الشعر , طريقة الشعر , مذاهب العرب , مسالك الأوائل أو لعله استفاده من بعض عبارات الجاحظ ( عمود الخطابة ) حيث يقول الجاحظ : ” رأس الخطابة الطبع وعمودها الدربة وجناحاها رواية الكلام وحليها الإعراب “. كما ربط الآمدي لهذه التسمية بين الجانب الشكلي لأبيات القصيدة وبيت الشعر مسكن العرب مرتبة لها جوانب وأعمدة وأركان وأوتاد وأسباب والذي يظهر لي أنه لم يحدد مفهومه ولا عناصره وإن كان قد نص على التسمية في حديثه عن البحتري بقوله : ” البحتري أعرابي الشعر مطبوع وعلى مذهب الأوائل وما فارق عمود الشعر ” ويقول عن الشعر : ” وليس الشعر عند أهل العلم به إلاّ حسن التأتي وقرب المأخذ واختيار الكلام , ووضع الألفاظ في مواضعها , وأن يورد المعنى باللفظ المعتاد فيه المستعمل في مثله , وأن تكون الاستعارات والتمثيلات لائقة بما استعيرت له وغير منافرة لمعناه … وتلك طريقة البحتري ” .
وقد وضع خصائص الشعر الجيد وهي : (( الوضوح الذي ينقل المعنى بسهولة ويسر , وحسن الاختيار والتدقيق فيما يقال لكي يخرج الشعر على احسن وجه , واستعمال الألفاظ استعمالاً صحيحاً جرى عليه العرب وعرفوه في شعرهم القديم لئلا يقع لبس وغموض , ولكل معنى لفظ معتاد وعبارات تتردد , والعناية بالتشبيهات والاستعارات , وأن تكون مرتبطة بما أخذت منه ارتباطاً واضحاً لئلا يخرج الكلام عن جادة الصواب حينما يغرب الشاعر في تشبيهاته واستعاراته بالخروج على ما ألفه العرب , وأن تكون تلك التشبيهات والاستعارات غير منافرة للمعنى )) وهذه صفات الشعر الحسن وهي طريقة البحتري ومذهبه .
إذاً عمود الشعر عند الآمدي لا يتجافى مع الصنعة ما دامت في حدود مقبولة لا إفراط ولا تكلف , والشاعر الذي يتناولها بهذه الصورة شاعر مطبوع لم يفارق عمود الشعر .
أما القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني صاحب الوساطة فقد اطلع على ما كتبه الآمدي إلا أنه تعرض لمصطلح عمود الشعر في معرض حديثه على المرتكزات الأساسية للمفاضلة بين الشعراء في الجودة والحسن بشرف المعنى وصحته وجزالة اللفظ واستقامته وتسلم السبق فيه لمن وصف فأصاب وشبّه فقارب وبده – من البديهة – فأغزر ولمن كثرت سوائر أمثاله وشوارد أبياته , ولم تكن تعبأ بالتجنيس والمطابقة ولا تحفل بالإبداع والاستعارة , إذاً حصل لها عمود الشعر ونظام القريض . فهذه عناصر حدد بها عمود الشعر شريطة الطبع السهل والذوق .
والناقدان متفقان في إيثار الطبع , والآمدي يقبل الصنعة المحدودة ولا يعبأ بالمعاني المولدة بخلاف الجرجاني الذي لا يعبأ بالصنعة وينظر للمعاني على وجوب كونها شريفة وصحيحة . ويلتقيان في التنفير من المعاني المعقدة .
وتعرض أبو علي أحمد المرزوقي ( 421هـ ) شارح حماسة أبي تمام لهذه النظرية مستفيداً مما عرضه السابقان له , ولا نبالغ إذا قلنا إن نظرية عمود الشعر قد ارتبطت بالمرزوقي ؛ لأنه لم يستطع أحد من النقاد أن يضيف إليها شيئاً جديداً , يقول : ” الواجب أن نتبين ما هو عمود الشعر عند العرب ليتميز تليد الصنعة من الطريف وقديم نظام القريض من الحديث ” وحدد عناصر الشعر في أبواب سبعة , وجعلها عامة لا تقتصر على شاعر الطبع البحتري أو غيره , وهذه الخصال هي عمود الشعر فمن لزمها وبنى شعره عليها فهو المفلق المعظم والمحسن المقدم ومن لم يجمعها كلها فبقدر سهمته منها يكون نصبه من التقدم والإحسان . وهي :
= شرف المعنى وصحته , أي أن يكون المعنى من أحاسن المعاني مبتكراً غير مسبوق , سامياً مناسباً لمقتضى الحال , مداره الصواب والصحة وإحراز المنفعة والفائدة وموافقة الحال , يلامس واقع الناس وحياتهم .
= جزالة اللفظ واستقامته فلا بد أن يكون قوياً متيناً فصيحاً ليس عامياً ولا ساقطاً ولا سوقياً ولا غريباً وحشياً ممجوجاً غير مخالف للقواعد النحوية والصرفية . وقد فصلنا القول في هذا عند الحديث عن عناصر الشعر
= الإصابة في الوصف وعيار ذلك الذكاء وحسن التمييز , يحسن الشاعر التعبير عن الوصف , وأن تكون الأوصاف شديدة الصلة بالموصوف ليس فيها تعنت أو جموح في الخيال , والوصف الصحيح يكون في التصوير , فالإنسان يمدح أو يهجو أو يتغزل فيذكر صفات الموصوف بما يلائمه .
= المقاربة في التشبيه وعياره الفطنة وحسن التقدير , والمعنى أن يكون بين المشبه والمشبه به تقارب , بمعنى أن أوجه الالتقاء بينهما أكثر من أوجه الاختلاف , إذ لا بد أن يكون التشبيه واضحاً فريداً لا غريباً مبتذلاً .
= التحام أجزاء النظم والتئامها على تخير لذيذ الوزن , الطبع واللسان ؛ لأن بعض الأوزان تصلح للقصائد والمعاني وحسن تأليف الكلام فكل كلمة في موقعها الأخص بها , وكذا حسن التخلص والانتقال من غرض إلى غرض دون انفصال .
= مناسبة المستعار منه للمستعار له بمعنى تقريب التشبيه , فيكون بين الطرفين علاقة واضحة وصلة قوية .
= مشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائها للقافية , شريطة ألا منافرة بينهما , ولكل مقام ما يناسبه ويلائمه , فلا يكون افتخارك كغزلك , ويكون سخيف الألفاظ مشاكلاً لسخيف المعاني , واللفظ الشريف للمعنى الشريف والجزل للجزل والخفيف للخفيف , والمراد من هذا كله إلباس كل معنى ما يليق به .
ولو تأملنا جيداً لرأيناه يقترب من كلام القاضي الجرجاني بل يتفق معه في أربع مسائل هي :
شرف المعنى وصحته وهي عبارة الجرجاني , جزالة اللفظ واستقامته وهي عبارة السابق نفسها , والإصابة في الوصف وهي معنى قول الأول : ( وتسلّم السبق فيه لمن وصف فأصاب ) , والمقاربة في التشبيه وهي معنى عبارة الجرجاني : ( وشبّه فقارب ) ولم يجعل المرزوقي ( البداهة والغزارة ) مقياساً كما فعل الجرجاني وكذلك : ( من كثرت أمثاله وشوارد أبياته ) التي ربطها بالأوصاف الثلاثة الأولى وقال : ( ومن اجتماع هذه الأسباب الثلاثة كثرت سوائر الأمثال وشوارد الأبيات ) , وزاد ثلاثة هي : ( التحام أجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن , ومناسبة المستعار منه للمستعار له , ومشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائهما للقافية حتى لا منافرة بينهما ) ولم يدخل الجرجاني هذه الأصول الثلاثة لأن العرب كما قال : (( لم تكن تعبأ بالتجنيس والمطابقة ولا تحفل بالإبداع والاستعارة إذا حصل لها عمود الشعر ونظام القريض ))
س : إذا, لا يمكن أن ينظم على هذا العمود إلا الشعراء الفحول المطبوعون , ولكن ماذا يقصد النقاد بمصطلح الفحولة , وما شروطه ؟
ج : الشاعر الفحل ما اجتمع فيه قوة الشاعرية، ونُبل العبارة، وغلبة الأقران، والتميُّز عليهم ؛ فهو ذو خصوبة فكرية ، يتعانى الألفاظ الجزلة القوية، ويتمتع بقدرة فذة على توليد المعاني المبتكرة والسبك المتقن .
والوصول إلى مرتبة الفحولة في الشعر ليس أمراً سهلاً أو هيناً يستطيعه كل من رامه, فالمسألة تحتاج إلى براعة في النظم , وقدرة على الإبداع الشعري, ومزيد من تهذيب الشعر وتنقيحه, وإعادة النظر في القصيدة مرات ومرات قبل إصدارها لجمهور المتلقين, كما أنها تتطلب من الشاعر أن ينصب نفسه ناقداً على شعره, يطيل فيه النظر, ويعيد فيه الكرة تلو الكرة, حتى يصل إلى النموذج الفريد والمتميز الذي يرضيه ويرضي متلقيه , بل ونقاده كذلك, وهذا ما يفسر لنا ظهور بعض القصائد المتميزة في شعرنا العربي, أطلق عليها النقاد تسميات كثيرة تدل على جودتها وتفوقها, كالحوليات والمعلقات وسواها من النماذج الرفيعة التي تؤهل بعض قائليها لئن يكونوا في عداد الشعراء الفحول .
ولعل الأصمعي من أكثر النقاد الذين احتفلوا بمصطلح الفحولة , واعتمدوا عليه في إصدار الأحكام النقدية التي تتناول الشعر والشعراء, واستندوا إليه مقياساً لتصنيف الشعراء, والموازنة بينهم , ولا سيما في كتابه ( فحولة الشعراء ) .
ويقول الجاحظ : (( الشعراء عندهم أربع طبقات , فأولهم الفحل الخنذيذ, والخنذيذ هو التام. ودون الفحل الخنذيذ الشاعر المفلق, ودون ذلك الشاعر فقط , والرابع الشعرور )) .
والشاعر الفحل عند الأصمعي هو من كانت (( له مزية على غيره , كمزية الفحل على الحقاق )) . وقد اشترط الأصمعي مقاييس ومعايير للفحولة نذكر منها :
= الأول : كثرة النتاج الشعري : لا بد للشاعر أن يقول عددا من القصائد في أغراض متنوعة تؤهله لأن يكون فحلاً ولا تكفيه في ذلك الأبيات القليلة, ويختلف تحديد الأصمعي لعدد القصائد التي ينبغي أن يقولها الشاعر حتى يغدو فحلاً ويبدو أن اختلاف عدد القصائد التي يحددها الأصمعي للشاعر حتى يكون فحلاً يخضع لجودة شعر الشاعر عامة , أو لجودة القصيدة التي يرى أنها تمثل الأنموذج الأحسن عند الشاعر, ويطالبه بأن ينظم على غرارها عدداً آخر من القصائد, ومعيار الكثرة الشعرية يميز الشاعر , وهو معيار صالح يعكس تفوق الشاعر على آخر في كثير من الأحيان , إذ لا يمكن أن يتساوى شاعران مثلاً لأولهما الأبيات القليلة, ولثانيهما القصائد الكثيرة على أنه ينبغي أن ننبه على أن مثل هذا المعيار لا يمكن الأخذ به على إطلاقه دائماً بل لابد من أن يكون مرتبطاً بمعيار آخر هو الجودة الشعرية في معظم الأحيان, ويمكن عده عاملاً مرجحاً إذا تساوى شعران في جودتهما , وتفوق أحدهما في كميته على الآخر .
يقول في سياقات متنوعة : (( لو أتم خمساً أو ستاً لكان فحلاً )) يقصد معقر البارقي , ويقول عن الحويدرة لو قال مثل قصيدته ( يقصد العينية ) خمس قصائد كان فحلاً , ومهلهل ليس بفحل , ولو قال مثل قوله : ( أليلتنا بذي حسم أنيري ) كان أفحلهم .
= والثاني : جودة الشعر : وهذا المعيار مهم جداً في تقييم الشاعر, وقياس فحولته الشعرية, وبيان تميزه ومقدار براعته في نظم الشعر, فالأصمعي معجب بجودة شعر امرئ القيس, وريادته للشعراء, وفتحه الطريق لهم في كثير من الموضوعات التي أخذوها عنه , واتبعوه فيها, يقول: “…. بل أولهم كلهم في الجودة امرؤ القيس, له الحظوة والسبق, وكلهم أخذوا من قوله واتبعوا مذهبه”. وسأله أبو حاتم عن أول الفحول, فقال : ” النابغة الذبياني, ثم قال: ما أرى في الدنيا لأحد مثل قول امرئ القيس :
وقاهم جدهم ببني أبيهم *** وبالأشقين ما كان العقاب
فهو هنا يبين إعجابه الشديد ببيت امرئ القيس وجودته, حتى إنه ليفضله على ما سواه من أشعار. وفي موضع آخر نراه يقرر أن كعب بن سعد الغنوي” ليس من الفحول إلا في المرثية فإنه ليس في الدنيا مثلها “, وهذا دليل على إعجابه بجودة هذه القصيدة التي رثى فيها أخاه . يقول :
تقول سُليمى ما لجسمك شاحباً *** كأنك يحميك الشرابَ طبيب
تتابُعُ أحداث تحرّمن إخوتي *** وشيبن رأسي والخطوب تشيب
وعندما سأل أبو حاتم الأصمعي عن الشاعر لبيد بن ربيعة قال : ” ليس بفحل ” ؛ لأنَّ شعره كأنه طيلسان طبري، يعني : أنه جيد الصنعة ، وليست له حلاوة .
= والثالث : الفن الشعري : ليس ضرورياً أن يقول الشاعر في فنون الشعر جميعاً حتى يغدو فحلاً, كما أن نبوغ الشاعر في فن شعري واحد, وتفوقه فيه, والاهتمام به أكثر من سواه, لا يخرجه من دائرة الفحولة, فالنابغة الذبياني وأوس بن حجر وزهير بن أبي سلمى, لا يحسنون وصف الخيل ومع ذلك فهم من الفحول, وطفيل الغنوي غاية في نعت الخيل, ومتميز في وصفها, ويجيد هذا الغرض أكثر من غيره ويكاد يطغى على أكثر شعره, ومع ذلك فهو فحل.
وقد يضع غرض شعري ما من قدر صاحبه, ويحط من مكانته الشعرية كالهجاء مثلاً, فقد رأى الأصمعي أن الشماخ فحل, وحين سئل عن أخيه مزرد قال : ” ليس بدون الشماخ , ولكنه أفسد شعره بما يهجو الناس ” .
= والرابع : الزمن : فالفحول من الشعراء عند الأصمعي هم من الجاهليين فقط , مع الإشارة إلى أنه ليس جميع الشعراء الجاهليين فحولاً, أما الإسلاميون كجرير والفرزدق والأخطل, فإن الأصمعي لم يطلق فيهم أحكاماً نقدية, وذلك لأنهم إسلاميون, فهو يقول عنهم : ” هؤلاء لو كانوا في الجاهلية كان لهم شأن . ولا أقول فيهم شيئاً لأنهم إسلاميون” . وينقل الأصمعي في موضع آخر عن أبي عمرو بن العلاء قوله في تفضيل الأخطل والثناء عليه والإعجاب به:” لو أدرك الأخطل من الجاهلية يوماً واحداً, ما قدمت عليه جاهلياً ولا إسلامياً “.
وعلى الرغم من ذلك كله, فإننا نجد الأصمعي يطلق أحكاماً نقدية على كل من الراعي النميري, وابن مقبل, مع أنهما إسلاميان ويقرر أنهما ليسا بفحلين, وعندما سأله أبو حاتم: “من أشعر الراعي أم ابن مقبل؟ فقال : ” الراعي أشبه شعراً بالقديم وبالأول”. وهذا يعني أنه يفضل الراعي على ابن مقبل , لأن شعره يشبه أشعار القدماء.
= والخامس : غلبة ملكة الشعر على الشاعر : أشار الدكتور إحسان عباس إلى هذا الجانب عندما تحدث عن الفحولة قائلاً :” إنها صفة عزيزة, تعني التفرد الذي يتطلب غلبة صفة الشعر على كل الصفات الأخرى في المرء “.
فلابد إذاً للشاعر حتى يكون فحلاً, من أن تكون ملكة الشعر عنده غالبة على ما عداها من ملكات وصفات , كالكرم والفروسية أو الصعلكة أو غيرها, فالشاعر حاتم الطائي لم يقل الأصمعي أنه فحل؛ لأن صفة الكرم غلبت عليه أكثر من غيرها من الصفات ولا سيما صفة الشعر, وهناك مجموعة من الشعراء عرفوا بالفروسية أمثال : عنترة بن شداد, وعباس بن مرداس السلمي , وخفاف بن ندبة, فهؤلاء جميعاً لم يصنفهم الأصمعي ضمن زمرة الفحول, بل جعلهم أشعر الفرسان “.
وثمة طائفة ثالثة من الشعراء الذين أطلق عليهم اسم الصعاليك, فهؤلاء ليسوا من الفحول, ولا من الفرسان , ولكنهم من الذين يغزون, فيعدون على أرجلهم, فيختلسون, وذكر الأصمعي عدداً منهم, أمثال : السليك بن السلكة , وتأبط شراً , والشنفرى الأزدي.
وأغلب الظن أن استثناء الأصمعي لهذه الفئات الثلاث من طبقات الفحول, يعود إلى أن أشعارهم لا ترقى بأصحابها إلى درجة الفحول, إذ ليس هناك ما يمنع من أن يكون الشاعر فحلاً في شعره, وفارساً مجيداً في ميدان الحرب , ولكن غلبة الصفات الأخرى على صفة الشاعرية عند هؤلاء الشعراء لم تكن على ما يبدو غلبة شهرة فقط , بل كانت غلبة عناية واهتمام فاقت اهتمامهم بالشعر وعنايتهم به , ومن هنا فإنهم لم ينتجوا أشعاراً تساوى أشعار الفحول , أو تقرب منها حتى يستحق الواحد منهم مرتبة الفحولة, ولو أن أحدهم استطاع أن يوزع اهتمامه ما بين شعره وفروسيته أو كرمه , لكان جديراً بالفحولة مستحقاً لها كما هو الحال للشاعر الفارس دريد بن الصمة القشيري الذي وصفه الأصمعي بقوله : إنه من فحول الفرسان . وهذا دليل على إمكانية مزاوجة الشاعر بين عملين أو صفتين , ويبرع في كل منهما, فيكون شاعراً فحلاً في ميدان الشعر, وفارساً مقداماً في ساحات الوغى .
ووضع الأصمعي شروطاً كثيرة ومتنوعة للفحولة منها : راوية الأشعار , وسماع الأخبار , ومعرفة أنساب العرب وأيامها , وتعلم العروض والنحو .
س : تفاوتت آراء النقاد القدماء والمعاصرين حول قضية وحدة البيت والوحدة العضوية في القصيدة العربية القديمة والحديثة ؛ نرجو تسليط الضوء على هذه القضية .
ج : يرى معظم نقادنا العرب أن البيت في القصيدة العربية ينبغي أن يستقل بمعناه , وألا يحتاج إلى غيره ليستكمل معناه , ولعل ابن سلام أول من أشار إلى استقلال البيت في القصيدة العربية وعرفه بأنه البيت المستغني بنفسه المشهور الذي يضرب به المثل , واتخذ ابن سلام من وحدة البيت مقياساً يوازن به بين الشعراء , بل وعد كثير من النقاد من العيوب في الشعر أن يحتاج البيت إلى غيره ليتم معناه , وسمى قدامة بن جعفر البيت المحتاج في إكمال معناه إلى غيره مبتوراً , ووافقه المرزباني على هذه التسمية , وسماه أبو هلال العسكري تضميناً ومثل له بقول المجنون :
كأن القلب ليلة قيل : يغدى *** بليلى العامرية أو يراح
قطاة غرها شرك فباتت *** تجاذبه وقد علق الجناح
ومن ذلك قول امرئ القيس :
فقلت له لما تمطى بصلبه *** وأردف أعجازاً وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويل ألا انجل *** بصبح وما الإصباح منك بأمثل
لكن ابن الأثير لم ير هذا الرأي ولم يوافق عليه , ولم يعد تعلق بيت ببيت عيباً , مستشهداً بآيات كريمة من سورة الصافات ( 50- 53 ) مرتبطة بعضها ببعض فهم يحسبون البيت من القصيدة جزءاً قائماً بنفسه لا عضواً متصلاً بسائر أعضائها , غافلين عما قبله وما بعده .
ومما لا شك فيه أن وحدة البيت في العمل الشعري كانت مقياساً من مقاييس استجادة الشعر عند بعض النقاد العرب , فتراهم يستحسنون بعض الأبيات مفردة ومستقلة بمبناها ومعناها فيقولون : أمدح بيت , وأفخر بيت , وأغزل بيت , وهذا واسطة العقد , وبيت القصيد , وفي ذلك دليل على فقدان الخاطر المؤلف بين أبيات القصيدة وتقطيع النفس وقصر الفكرة وجفاف السليقة لكنه لا يعد انتقاصاً .
كذلك استحسنوا أن يكون معنى كل بيت ولفظه متساويين حتى يتم المعنى بتمام اللفظ , فالشاعر إذا أتى بالمعنى الذي يريده في بيت واحد كان في ذلك أشعر منه إذا أتى بذلك المعنى في بيتين . وكذلك إذا أتى الشاعران بذلك فالذي يجمع المعنيين في بيت أشعر من الذي يجمعها في بيتين , ولذلك فضّل قول امرئ القيس :
كأن قلوب الطير رطباً ويابساً *** لدى وكرها العناب والحشف البالي .
على قوله : كأن عيون الوحش حول خبائنا *** وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب .
لأنه جمع في البيت الأول وصف شيئين , ووصف في هذا شيئاً بشيء . سئل حماد الراوية بأي شيء تفضل النابغة الذبياني فقال : إن تمثلت ببيت من شعره اكتفيت به مثل قوله :
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة *** وليس وراء الله للمرء مذهب .
وإن تمثلت بنصف بيت من شعره اكتفيت كقوله : ( وليس وراء الله للمرء مذهب ) . وإن تمثلت بربع بيت اكتفيت كقوله : ( أي الرجال المهذب ) .
وعلى كل حال فهذا لم يكن المقياس الموحد الذي يمثل عامة النقاد , فإذا كان هناك من جعل المقياس الأوحد وحدة البيت فإن هناك نقاداً جعلوا الوحدة والتماسك بين الأجزاء التي يتألف منها العمل الأدبي , وقديماً تحدثوا عن القران ( بكسر القاف ) وهو الموافقة والمشابهة بين الأبيات فالمعاني مترابطة والألفاظ متوافقة فلا يدخل معنى في معنى , بل حتى الألفاظ أوجبوا فيها المشاكلة وبهذه المشاكلة اللفظية والمعنوية يتم الترابط بين أجزاء العمل الشعري , ويرون ذلك سمة من سمات الجودة وأنه لا يتوافر إلا في نتاج المطبوعين
يقول رؤبة : (( إن عقبة يقول شعراً , ولكن ليس لشعره قران )) وروى الجاحظ عن ابن قتيبة أن عمرو بن لجأ قال لبعض الشعراء أنا أشعر منك ! قال وبم ذاك ؟ قال : لأني أقول البيت وأخاه , وأنت تقول البيت وابن عمه . وقد أسهب ابن قتيبة في الحديث عن تداخل الأغراض في القصيدة وعقد بينها صلات وبيّن أن بعضها بسبب بعض وأن المتأخر منه نتيجة لما تقدمه من الأغراض .
ويقول الجاحظ في البيان والتبيين إن أجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء سهل المخارج فتعلم بذلك أنه أفرغ إفراغاً واحداً وسبك سبكاً واحداً فهو يجري على اللسان كما يجري الدهان . ومعنى سهولة مخارجه حسن انتقاله من معنى إلى معنى ومن غرض إلى غرض حتى يصبح الشعر وحدة مترابطة .
وأصرح من ذلك في الحديث عن وحدة القصيدة ما ذكره ابن طباطبا إذ يقول : (( وينبغي للشاعر أن يتأمل تأليف شعره وتنسيق أبياته ويقف على حسن تجاورها أو قبحه فيلائم بينها لتنظم له معانيها ويتصل كلامه فيها , ولا يجعل بين ما قد ابتدأ وصفه وبين تمامه فصلاً من حشو ليس من جنس ما هو فيه , فينسى السامع المعنى الذي يسوق إليه)) .
ويقول في موضع آخر : (( وأحسن الشعر ما ينتظم القول فيه انتظاماً ينسق به أوله مع آخره فإن قدم بيتاً على بيت دخله الخلل . فالقصيدة كلمة واحدة في اشتباه أولها بأخرها نسجاً وحسناً وفصاحة وجزالة ألفاظ ودقة معان وصواب تأليف وخروجاً لطيفاً لا تناقض في معانيها ولا وهي في مبانيها ولا تكلف في نسجها تقتضي كل كلمة ما بعدها ويكون ما بعدها متعلقاً بها ))
وأما أبو هلال العسكري فيرى أن الكلام إذا انقطعت أجزاؤه ولم تتصل فصوله ذهب رونقه , وغاض ماؤه . ولعل من أقوى النصوص التي وردت عن نقاد العرب في وحدة القصيدة هو ما رواه الحاتمي إذ يقول :
(( إن القصيدة مثلها مثل خلق الإنسان في اتصال بعض أعضائه ببعض فمتى انفصل واحد عن الآخر , وباينه في صحة التركيب غادر بالجسم عاهة تتخون محاسنه وتعفى معالم جماله ووجدت حذاق الشعراء وأرباب الصناعة من المحدثين يحترسون في مثل هذه الحال احتراسا يحميهم من شوائب النقصان ويقف بهم على محجة الإحسان )) .
ويقول ابن سنان الخفاجي : (( ومن الصحة صحة النسق والنظم , وهو أن يستمر في المعنى الواحد وإذا أراد أن يستأنف معنى آخر أحسن التخلص إليه , حتى يكون متعلقاً بالأول وغير منقطع عنه )) ومعنى ذلك أن بناء القصيدة لا يكون صحيحاً إلا إذا تلاءمت الأجزاء , واتصل بعضها ببعض , وتعلق بعضها ببعض , ومن هذا الاتصال والتعلق تنشأ وحدة القصيدة , ويتكامل بناؤها .
وزمام الأمر وملاكه نظرية النظم لعبد القاهر إذ يرى أن النظم توخي معاني النحو واتحاد أجزاء الكلام وارتباط ثانيها بأولها . إن سبيل هذه المعاني سبيل الأصباغ التي تعمل منها الصور والنقوش فتخرج عجيبة بناء محكماً مترابطاً لا اعوجاج فيه تتحقق فيه النظرة الكلية .
والوحدة عند حازم القرطاجني وحدة التسلسل الذي يفضي فيها موضوع إلى موضوع أو غرض إلى غرض بعلاقة شكلية هي حسن التخلص .
ومن المعاصرين الكبار الذين تحدثوا عن الوحدة العضوية طه حسين حيث وجدها ماثلة في معلقة لبيد , يقول في كتابه حديث الأربعاء ص 30 (( وأتحداك وأسألك أن تبين لي من أين يأتيها الاضطراب والاختلاف وكيف لا تتم لها الوحدة إلا من الوزن والقافية … أمامك قصيدة لبيد فأرني كيف تقدم فيها وتؤخر ؟ وكيف تصنع فيها بيتاً مكان بيت , دون أن تفسد معناها إفساداً وتشوه جمالها تشويهاً … إنها بناء متقن محكم لا تغير منه شيئاً إلا أفسدت البناء كله , ونقضته نقضاً ..)) .
ووفىّ العقاد البيان في ذلك بقوله : (( القصيدة ينبغي أن تكون عملاً فنياً متكاملاً يكمل فيه تصوير خاطر أو خواطر متجانسة كما يكمل التمثال بأعضائه والصورة بأجزائها واللحن الموسيقي بأنغامه , القصيدة كالجسم الحي يقوم كل قسم منها مقام جهاز من أجهزته أو كالبيت المقسم لكل حجرة منه مكانها وفائدتها وهندستها ولا قوام لفن بغير ذلك …))
وذهب الدكتور محمد زكي العشماوي إلى أن الوحدة العضوية التي نرددها ليس في الحقيقة إلا وحدة الصورة ووحدة الصورة هي بالضرورة وحدة الإحساس أو هيمنة إحساس واحد على القصيدة كلها وعلى هذا فالوحدة العاطفية هي دليلنا على تحقيق الوحدة العضوية في العمل الفني . ومعنى هذا أن الصور في داخل العمل الفني ما هي إلا تجسيد للتجربة او للحظة الشعورية التي يعانيها الفنان .
وانطلق الدكتور محمد غنيمي هلال من فكرة ارسطو في الوحدة العضوية ونظر إلى الموضوع كما نظر إليه الناقد اليوناني وقال : نقصد بالوحدة العضوية في القصيدة وحدة الموضوع والمشاعر التي يثيرها الموضوع وما يستلزم ذلك من ترتيب الصور والأفكار ترتيباً به تتقدم القصيدة شيئاً فشيئاً حتى تنتهي إلى خاتمة يستلزمها ترتيب الأفكار والصور على أن تكون أجزاء القصيدة كالبنية الحية لكل جزء وظيفته فيها ويؤدي بعضها إلى بعض عن طريق التسلسل في التفكير والمشاعر . وسماها الدكتور محمد مندور وحدة الغرض , وسمها الدكتور محمد النويهي الوحدة الحيوية ورأى الدكتور مطلوب أن وحدة القصيدة أكثر دلالة من المصطلحات الكثيرة التي لم يتفق عليها النقاد لأن الوحدة يمكن أن تضم كل ما تعرضوا له وأشاروا إليه .
وتتحقق الوحدة العضوية في معلقة لبيد والتي مطلعها :
عفت الديار محلها فمقامها *** بمنى تأبد غولها فرجامها .
حيث عكست لنا صورة الصراع بين الإنسان والحياة وإحساس الشاعر المهيمن الموحد في القصيدة وكذا الترابط والانسجام بين أجزائها من خلال صورها وكلماتها وخصائص أسلوبها التركيبي الذي يؤلف بين المتباعدات والمتناقضات وينشأ من ذلك الصراع المنطقي وغير المنطقي بين اللاوعي الفردي واللاوعي الجماعي . ونجدها متحققة في معلقة النابغة الذبياني والتي مطلعها :
يا دار مية بالعليا فالسند *** أقوت وطال عليها سالف الأبد .
وفي قصيدته التي يمدح فيها الغساسنة :
أتاني أبيت اللعن أنك لمتني *** وتلك التي أهتم منها وأنصب
فإن أك مظلوماً فعبد ظلمته *** وإن تك ذا عتبى فمثلك يعتب
وتظهر عند المرقش الأكبر والمرقش الأصغر وعند طرفة بن العبد البكري في موقفه من الوجود وفلسفته للموت ومحاولته إبراز الرؤية الفردية والجماعية .
وأرى أن قصيدة لقيط بن يعمر الأيادي ( 56بيتاً ) التي مطلعها :
يا دار عمرة من محتلها الجرعا *** هاجت لي الهم والأحزان والوجعا
من أجود القصائد التي تتمثل فيها الوحدة العضوية في أحسن مظاهرها . وكذا تتوافر الوحدة في القصيدة المنسوبة للحطيئة :
وطاوي ثلاث عاصب البطن مرمل *** ببيداء لم يعرف بها ساكن رسما .
وفي قصيدته التي منها قوله :
فلا وأبيك ما ظلمت قريع *** بأن يبنوا المكارم حيث شاءوا
وفي قصيدة ابن الرومي التي مطلعها :
يا أخي أين ريع ذاك اللقاء *** أين ما كان بينا من صفاء .
وفي قصيدة المتنبي : ليالي بعد الظاعنين شكول *** طوال وليل العاشقين طويل
وفي قصيدة عبد الله بن سبرة الجرشي ( العينية ) ومطلعها :
ويلُمّ جار غداة الجسر فارقني *** أعزز عليّ به إذ بان فانصدعا
بنانتان وجذمور أقيم بها *** صدر القناة إذا ما آنسوا فزعا
وتتجلى في قصيدة رثاء طفلة للعقاد وفي قصيدة المساء لخليل مطران وقصيدة أخي والطمأنينة لميخائيل نعيمة .
س / المعروف أن القصيدة في الشعر الجاهلي مفككة الأوصال متعددة الموضوعات متشعبة الافكار , فهل يمكننا رصد وحدة في الشعر الجاهلي ؟
ج : لا يُفهمنّ من ذلك كله أن القصيدة الجاهلية مفككة الاوصال لأنها متعددة الموضوعات ، فتعدد الموضوعات ـ والقول للأستاذ محمود شاكر ـ ظاهرة سطحية ، تخدع البصر الحسير، ولا تخدع البصيرة النافذة القادرة على اكتشاف وحدة القصيدة الحقيقية.
ومحمود شاكر لهذا السبب يسخر من رماة السهام المسمومة الذين يوجهون نبالهم غير النبيلة الى القصيدة الجاهلية، ومن يحاولون العبث بترتيب أبياتها، ويعد هذه المحاولة المخفقة ضرباً من الهدم الذي يدمر تناغم القصيدة ، وائتلاف افكارها وعناصرها ، ويرى انه لا يدل على قصور القصيدة الجاهلية، بل على قصور الذين ينشبون مباضعهم في جسمها، وليس في أذهانهم من أصول النقد الا مبدأ (التجربة الشعرية) أو (التجربة الفنية). فهل لوحدة القصيدة الجاهلية معنى غير المعنى الذي ساور اذهان النقاد؟
وما الذي يمكن أن يكون هذا المعنى؟ أهو وحدة الهدف والغرض والغاية لا وحدة الافكار والموضوع؟ أم هو وحدة الشكل المتمثلة في الحفاظ على الوزن الواحد والقافية الراتبة، والروي المكرور؟
ولو كان الامر كذلك لكانت الوحدة التي يباهي باكتشافها قشرة يابسة، تفوق في سطحيتها وسذاجتها آراء خصومه، واذا لم تكن الوحدة هذا المظهر الشكلي فهل هي جوهر خفي، وما هذا الجوهر؟ وكيف يفسره محمود شاكر؟ معنى الوحدة عنده أعمق مما يعتلقه السمع والبصر من اتفاق الابيات في الاوزان والقوافي وأحرف الروي، ومما يتلمسه العقل من التزام موضوع واحد، لا تخالطه فكرة يأتي بها التداعي العفوي.
وانما هو جوهر عميق مغمور بركام الألفاظ والمعاني ، وتفسيره يحتاج الى الغوص على ما خلف المعاني والألفاظ والرجوع الى ما قبل التصور والتصوير.. وأساس هذا الجوهر نفسي زمني ، لا فكري ولا لفظي، وفحواه أن القصيدة تتكون في ثلاثة أزمنة تتعاقب على النحو التالي : اولها زمن الحدث، وهو زمن مؤقت قصير، يقع فيه الحدث الذي يتخذه الشاعر منطلقه، ويجعله مبتدأ عمله، لأن لكل عمل فني نواة، ونواة القصيدة ـ كما يقول محمود شاكر ـ: « حدث او احداث تتفق او تختلف في معانيها وفي أزمنة حدوثها. وهذه الاحداث مفروضة على الشاعر من خارج، ولا يكون للحدث معنى عند الشاعر حتى يكون سبباً في اثارة النفس.. وآثار الحدث لا يكاد ينقضي زمنها، اما زمن الحدث نفسه فهو مؤقت».
وثاني الأزمنة زمن التغني، وهو الزمن الذي يتم فيه امتزاج الحدث الجديد بأحداث قديمة، تختزنها النفس في مكامن عميقة فإذا لابسها الحدث الجديد اثارها، واتحد بها، وتكون من هذا المزيج جنين القصيدة. لكن ذلك لا يعني ان القصيدة بلغت مرحلة الولادة.
يقول محمود شاكر: « فربما تم هذا العمل الغريب المعقد في نفس الشاعر، وتهيأ عندئذ للغناء، فيجيء عائق يحجب الشاعر عن التغني، اي: عن الافضاء والبوح، فإذا هذه الاحداث وآثارها ترتد جميعاً عائدة الى الكمون في سراديب النفس».
وثالث الأزمنة زمن النفس (البوْح) «وهذا الزمن وحده هو الزمن الدائم الذي لا ينقطع وفيه تستقر جميع أزمنة الاحداث وأزمنة التغني.. وزمن النفس خفي جداً، كامن في قرارة النفس الشاعرة، والشعراء يجدونه في انفسهم بالقلق والحيرة، وبالاستبطان والاستغراق، وان لم يعبروا عنه باللفظ. وأظنه صار بيناً بعد هذا السياق الموجز ان زمن النفس هو الموطن الذي تنشأ فيه وحدة القصيدة على معناها الصحيح، سواء اقتصرت على معنى واحد متعانق متشابك متصل، ام اشتملت على معان متعددة، تمت بينها ضروب من الالتحام والتداخل، تخفى حيناً أشد الخفاء، وتظهر حيناً ظهوراً لا يحتاج الى بيان من الناقد والمتذوق، تيسر لهما بالخبرة وحسن الادراك ونفاذ البصيرة». وهكذا يبدو ان الوحدة الحقيقية في القصيدة الجاهلية ليست وحدة موضوع، ينتظم المنطق افكاره، ولا وحدة شكل ينتظم الوزن والقوافي أبيات القصيدة من اولها الى آخرها. وانما هي وحدة نفسية، جوهرها انفعال الشاعر الجاهلي بحادثة، تمازج حياته كلها، فلا تتحول الى قصيدة حتى يتحول معها مخزون الشاعر النفسي الى ذخيرة فكرية وعاطفية ونفسية مستعدة للانفجار، فمتى صادفت بارقة حارقة، او شرارة ثائرة، انفجرت النفس، وتحول ما فيها من مخزون خفي الى خلق سوي، هو القصيدة الموحدة. رحم الله ابا ريشة، فقد كان وريث قصيد تليد قبل ان يكون مبدع فن جديد، لكن الاغترار بالابتكار ينسي الأحفاد فضل الأجداد.
س : ما هي التجربة الشعرية ؟ وما ميدانها , وعناصرها ؟
ج : التجربة الشعرية أو الشاعرية موقف شعري تفاعل معه الشاعر بكل أحاسيسه بعد أن أثر في وجدانه وكيانه واستغرق فكره وخياله وعاشه بدقائقه وتفاصيله ثم صاغه بأسلوبه المعبر عن نفسه وأصالته فأخرجه إلى الوجود عملاً شعرياً مكتمل العناصر الفكرية والفنية .
ومصطلح التجربة الشعرية من المصطلحات الجديدة في النقد العربي الحديث , وهو ليس جديداً على النقد العربي , فقد تحدث النقاد العرب القدامي عن التجربة في الحياة , وعن أهميتها , وما ينبثق عنها من معان شعرية يحتاجها الإنسان في حياته .
فهذا ابن الأثير يشير إلى موضوع الحكمة باعتبارها من أهم المعاني الشعرية التي تنتج عن تجارب الإخوان فيتأدب بها الغر الجاهل ويتنبه لها الفطن الأريب .
وورد لفظ التجارب عند ابن طباطبا في معرض حديثه عن المعاني الشعرية التي تضمنتها أشعار العرب فيقول : (( واعلم أن العرب أودعت أشعارها من الأوصاف والتشبيهات والحكم ما أحاطت به معرفتها وأدركت عيانها ومرت به تجاربها )) فالتجربة برأي ابن طباطبا هي أساس الحكم وكذا الأوصاف والتشبيهات التي وردت في أشعار العرب .
واعتبار التجربة في الحياة أساس التجربة الشعرية – مثلما أشار إلى ذلك ابن الأثير وابن طباطبا – هو ما أجمع عليه نقاد الأدب في العصر الحديث , كما أجمعوا على أن منبع التجربة الشعرية هو النفس بالأساس , أي أن التجربة تقوم على استجابة الشاعر لإحساسه ووجدانه تجاه الموضوع المعالج . وهذه الاستجابة دافعها الاقتناع الذاتي والإخلاص الفني والصدق الانفعالي ونقصد بالصدق هنا صدق الانفعال بالتجربة والاستغراق فيها , وصدق التعبير عنها بلا زيف ولا مبالغة .
والمهم في التجربة الشعرية ليس هو الموضوع وإنما المهم صدق الانفعال به ووقعه في نفس الشاعر وتشبع وجدانه به مضافاً إلى ذلك خبرة الشاعر بوسائله التعبيرية والخيالية والموسيقية لتنصهر كل تلك العناصر في قصيدة , والتجربة بهذا يكتب لها الخلود لأنها قامت على هذا الأساس النفسي . ولا يصادم العقل النفس فهما ممتزجان إذ لا يمكن الفصل بينهما فكل منهما مؤثر في الآخر ومتأثر به فالفكرة توحي بمشاعر تلائمها , والشعور يوحي بأفكار تلائمه , ومهمة العقل هنا تنظيم الأحاسيس وليس السيطرة عليها فإن ذلك تشويه للتجربة الشعرية .
ولا تقتصر التجربة على موضوع ما , بل كل موضوع يصلح أن يكون ميداناً للتجربة الشعرية ما دام الشاعر قد انفعل به واندمج فيه بفكره وشعوره سواء كان موضوعا جليلا أو تافهاً , واقعياً أو خيالياً , ذاتياً أو اجتماعياً أو إنسانياً عاماً .
والعناصر المكونة للتجربة الشعرية ثلاثة : الوجدان ( الجانب الشعوري أو العاطفي ) والفكرة ونقصد بها موضوع القصيدة أو الأفكار العامة والجزئية وهذان هما مضمون التجربة الشعرية ويأتيان ممتزجين فالوجدان يطبع الأفكار بطابعه ويلونها بلونه فإذا كان الشعور غاضباً مثلاً جاءت الأفكار غاضبة , والثالث الوسائل التعبيرية : اللغة الشعرية والموسيقى والصور . وهذه العناصر الشعرية ( الفكرة – واللاشعرية ) كما قلت لكم لابد وأن تتمازج في النص الشعري فتجعلها في النتيجة عناصر شعرية . ويشترط في الأفكار سموها وأن يكون الشاعر ذا ثقافة عميقة وطبعاً سليماً , وأن يفهم سنن التاريخ , وأن يعي طبيعة العصر وملابسات المجتمع .
س : لو حدثني عن الصورة الشعرية .
ج : تعد الصورة الشعرية من أهم الوسائل الفنية – إن لم تكن أهمها على الإطلاق – التي تمكن الشاعر من نقل أحاسيسه , والتعبير عن معانيه وانفعالاته ؛ بقصد التأثير , والصورة الشعرية ليست غاية في ذاتها , وإنما هي أداة فاعلة ومؤثرة من أدوات الشاعر , وقناة مهمة من قنوات التوصيل والإثارة , وهي تظل قادرة على التأثير في القارئ والسامع وتحريك وجدانهما وهز مشاعرهما ما دامت بعيدة عن الافتعال والتكلف , وما احتفظت بطابع العفوية والتلقائية .
ويعدّ نصّ الجاحظ في طليعة النصوص العربية القديمة التي يقترب فيها لفظ (صورة) بما نحن بصدد الحديث عنه، إذ يقول: ((… والمعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجميّ والعربي، والقرويّ والبدوي، وإنّما الشأن في إقامة الوزن، وتخيّر اللّفظ ، وسهولة المخرج، وكثرة الماء، وفي صحّة الّطبع، وجودة السّبك. فإنّما الشعر صناعة، وضرب من النَّسج، وجنس من التصوير ))
وعلى الرّغم من أنّ الجاحظ لم يُبيّن لنا كيف أنّ الشعر ضرب من التصوير، فإنّه بالإمكان إماطة اللثام عن ثلاث دلالات، يكتسبها مصطلح (التصوير) عنده متمثلة في ثلاث مبادئ هي : مبدأ صياغة الأفكار التي تعمل على التأثير واستمالة المتلقي نحو سلوك معين . ومبدأ التجسيم – كما يسمى في وقتنا الحاضر – أو التقديم الحسي للمعنى . و مبدأ التأثير والاستمالة والإشارة، إذ التقديم الحسّي للمعنى، يجعل الشعر مماثلا لفن الرّسم، ومشابها له في طريقة التشكيل والصياغة والتأثير والتلقّي ، وإنْ اختلفا في المادة التي ينبني عليها كلّ واحد منهما .
وبهذا يمكننا اعتبار مفهوم التصوير عند الجاحظ مرحلة أولية للتحديد الدلالي لمصطلح (الصورة) خاصة أنّ الجاحظ لم يربط المصطلح بنصوص وشواهد عينية توضح مضمونه وفحواه زيادة عن اقتران مفهومه بثنائية اللّفظ والمعنى التي شغلت نقادنا القدامى ردحا من الزمن .
ويمضي القاضي الجرجاني في كتاب الوساطة بالصورة قُدُما ، فيربطها بروابط شعورية تصلها بالنّفس، وتمزجها بالقلـب، حينما دافـع عن شعر المتنبي . يقول الجرجـاني: ( وإنما الكلام أصوات محلّها من الأسماع محّل النواظر من الأبصار، وأنت قد ترى الصورة تستكمل شرائط الحسن، وتستوفي أوصاف الكمال، وتذهب في الأنفس كلّ مذهب، وتقف من التّمام بكلّ طريق، ثم تجد أخرى دونها في انتظام المحاسن، والتئام الخلقة، وتناصف الأجزاء، وتقابل الأقسام، وهي أحظى بالحلاوة، وأدنى إلى القبول، وأعلق بالنّفس، وأسرع ممازجة للقلب، ثم لا تعلم – وإن قايست واعتبرت، ونظرت وفكّرت – لهذه المزيّة سببا، ولما خصّت به مقتضى)
وإذا كان القاضي الجرجاني قد ربط لفظ ( الصورة ) بوشائج شعورية، تصلها بالنفس، وتمزجها بالقلب – كما سبق وأن ذكرنا – فإنّه مع هذا، لم يحدّدها، أو يصف جوانبها، إذ بقي الأمر لديه مجرّد إحساس .
ولكنها تتضح معالمها عند عبد القاهر الجرجاني , فلم ينظر إلى الشعر على أنّه معنى أو مبنى يسبق أحدهما الآخر، بل نظر إليه على أنّه معنى ومبنى ينتظمان في الصورة ، لا سبق ولا فضل ولا مزّية لأحدهما عن الآخر . يقول في دلائل الإعجاز : (( واعلم أن قولنا الصورة إنما هو تمثيل وقياس لما نعلمه بعقولنا على الذي نراه بأبصارنا … وكذلك كان الأمر في المصنوعات , فكان تبين خاتم من خاتم وسوار من سوار بذلك ثم وجدنا بين المعنى في أحد البيتين وبينه في الآخر بينونة في عقولنا وفرقاً عبرنا عن ذلك الفرق وتلك البينونة بأن قلنا : للمعنى في هذا صورة غير صورته في ذلك )) .
والذي نفهمه من كلام الناقدين الكبيرين أن مفهوم الصورة عندهما هو الصورة البيانية أي : ( التشبيه والاستعارة والمجاز العقلي والمرسل والكناية ) وهو ما عرف بعلم البيان .
فالمصطلح النقدي لمفهوم الصورة لم يتبلور إلا في النقد الحديث ، حيث ظهرت في ظلّ المذهب الرومانسي ، و مع نظرية (كولردج) في الخيال الإنساني والخيال الشعري؛ ومن هنا اهتم النقاد في العصر الحديث بالصورة الفنية اهتماماً كبيراً ووسعوا مجالاتها ووضعوا عدة تعريفات لها تتفق في إطارها العام وتتباين في التفضيلات , يقول العقاد : (( هي نقل الأشياء الموجودة كما تقع في الحس والشعور والخيال )) فهي في نظره خلق جديد يتشكل داخل النفس .
ويقول محمد غنيمي هلال هي : (( الوسائل الفنية التي يحاول بها الأديب نقل فكرته وعاطفته معاً إلى قرّائه أو سامعيه )) . فتنبه المشاعر وتوقظ الوجدان وتلفت نظر المتلقي إلى المعنى فيتفاعل معه . والصورة تتألف من عناصر ثلاثة : المعنى المراد تصويره , وهو المستكن في خيال الشاعر والذي هو صورة مقابلة لما يراه من المحسوسات أو هو أثر لنفسيته وما يعتلج فيها من عوامل . والعنصر الثاني اللفظ الموحي والدال , والثالث : الخيال الملكة التي تخلق وتبث الصور الشعرية .
والصورة الفنية أنواع : فمن حيث القالب الفني هي نوعان : الصورة البيانية والصورة الحقيقية أو التقريرية كما يسميها نصرت عبد الرحمن أو الصورة الذهنية كما يسميها علي البطل , مثل قول الفرزدق مصوراً سيادة قومه :
ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا *** إن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا
فقد رسم الشاعر بالألفاظ وحدها صورة لقومه يسيرون والناس خلفهم فإذا أشاروا إلى الناس
بالتوقف وقفوا .
ومن حيث الحجم فهناك : الصورة الكلية , وهي صور مركبة مرتبطة بعضها ببعض , رحبة واسعة تحتل الإطار الفني أو التصويري للتجربة الشعرية , وتكون فيها عناصر من الصوت واللون والحركة , ويلعب التجسيم والتشخيص دوراً بارزاً وتكون الصورة الجزئية من تشبيه واستعارة ونحوهما خطوطاً وظلالاً في تلك اللوحة الفنية أو الصورة الرحبة 0
وهناك الصورة الجزئية : وهي صورة ضيقة محدودة قد لا تزيد على تشبيه أو استعارة مثلاً ، وقد تكون مرسومة بالخيال أو باللغة , ولكنها جزء مرتبط بالصورة الكلية .
وأما الصورة الممتدة أو الطويلة أو المشهد أو اللوحة فهي مشاهد متتابعة تستغرق أبياتاً عدة , وقد تمتد لتشمل القصيدة كلها , خاصة في القصائد التي تصور موقفاً نفسياً واحداً في لحظة زمنية معينة , وتظهر هذه الصور الممتدة في مقاطع مطولة من القصائد كوصف الناقة أو الفرس أو المرأة , وفي القصائد القصصية التي تشغل القصة أبيات القصيدة كلها .
ونوع ثالث من حيث ارتباط الصورة بالحواس الخمس كالصورة البصرية والسمعية والذوقية واللمسية والشمية , والصور الساكنة والمتحركة والملونة .
س : ماذا يقصد النقاد بتراسل الحواس ؟
ج : تراسل الحواس من وسائل تشكيل الصورة الشعرية التي عني بها الرمزيون , ومعناه وصف مدركات حاسة من الحواس بصفات مدركات حاسة أخرى , فنعطي للأشياء التي تدركها بحاسة السمع صفات الأشياء التي تدركها بحاسة البصر , ونصف الأشياء التي ندركها بحاسة الذوق بصفات الأشياء التي ندركها بحاسة الشم , وهكذا تصبح الأصوات ألواناً , والمشمومات أنغاماً , وتصبح المرئيات عطوراً .
ورائدهم في ذلك الفرنسي شارل بودلير الذي حاول تطبيق نظرية تراسل الحواس في قصيدته تراسلات . وجاء بعده رامبو وصنع قصيدته الأصوات المتحركة التي حول فيها الأصوات التي هي مدركات حاسة السمع إلى ألوان فأضفى عليها صفات مدركات البصر . وقد شاعت هذه الوسيلة في القصيدة العربية الحديثة , وأسرف فيها بعض الشعراء وبخاصة في بداية فترة التأثير الرمزي في الشعر العربي المعاصر , ومن النماذج قول الشاعر محمد عبد المعطي الهمشري في قصيدته أحلام النارنجة الذابلة :
هيهات .. لن أنسى بظلك مجلسي *** وأنا أراعي الأفق نصف مغمض
خنقت جفوني ذكريات حلوة *** من عطرك القمري والنغم الوضي
فانساب منك على كليل مشاعري *** ينبوع لحن في الخيال مفضض
وهفت عليك الروح من وادي الأسى *** لتعب من خمر الأريج الأبيض
فالتراسل بين معطيات الحواس في هذه الأبيات شديد الوضوح ففي البيت الثاني يصف العطر – الذي هو من مدركات حاسة الشم – بأنه قمري – وهي صفة من صفات ما يدرك بحاسة البصر . وكذلك يصف النغم – الذي هو من مدركات حاسة السمع – بأنه وضيء فيضفي عليه صفة من صفات مدركات حاسة البصر . بل إنه لا يكتفي بالتراسل المتبادل بين حاستين اثنتين كالسمع والبصر أو الشم والبصر , وإنما يجعل التراسل في بعض الصور يتم بين ثلاث حواس تتبادل معطياتها , فالبيت الثالث تقوم شطرته الثانية على تراسل متبادل بين ثلاث حواس هي على التوالي الذوق والسمع والبصر , فالينبوع هو باعتبار ما من معطيات حاسة الذوق , واللحن من معطيات حاسة السمع , واللون المفضض من معطيات حاسة البصر , ومن هذا القبيل أيضاً صورة خمر الأريج الأبيض في البيت الرابع التي تتراسل فيها حواس الذوق والشم والبصر , فالخمر من دائرة حاسة الذوق , وهو يضيفها إلى أحد مدركات حاسة الشم وهو الأريج الأبيض الذي يصفه بصفة من نطاق حاسة البصر وهي البياض .
س : هل يمكننا القول بأن هذه الوسيلة موجودة في تراثنا العربي ؟
تراثنا غني بكل معاني هذه الكلمة , استوعب كل العلوم والفنون فضلاً عن كونه بديعاً ومبدعاً إن تصوير المعاني بالألفاظ خصيصة من خصائص التعبير القرآني وقد بلغت فيه الذروة في التكامل والوضوح، وهو ما عبر عنه ابن رشيق بـقوله : (( الألفاظ في الإسماع كالصور في الأبصار )), وقال عنه ابن سنان : (( يجري من السمع مجرى الألوان من البصر)) فبين الحاستين وئام وتراسل متبادل . نقرأ لبشار بن برد قوله :
يا قومي أذني لبعض الحي عاشقة *** والأذن تعشق قبل العين أحيانا
فنجد تراسلاً وتداخلاً لوظيفتي حاسة السمع والبصر تداخلا فنيا ، فتعمل الأذن مكان البصر فتنتج بسبب ذلك صورة فنية جميلة لافتة للسامع . فجعل (الأذن ) وهي حاسة السمع عاشقة بطريق الإسناد المجازي الاستعاري , وأكد ذلك بتسابق الحاستين (السمع والبصر) في العشق على سبيل الترشيح .
وأقول لكم إن تراسل الحواس واقع في القران الكريم، وللقران الكريم أسبقيته في استعماله في مجموعة من آياته الكريمة قبل أن نقرأه عند الرمزيين ، ودليل أسبقيته في ذلك ما أشار إليه علماؤنا ولاسيما المفسرون القدامى والمحدثون من مفهوم تراسل الحواس في القران وإن لم يسموه، وعللوا ذلك وهم يفسرون آيات من القران الكريم تتعلق بحواس الإنسان ، فالإمام الرازي يقول عند تفسير قوله تعالى : ( ذوقوا مس سقر ) [ القمر : 48] ” فقوله تعالى : ( ذوقوا ) استعارة وفيه حكمة وهو أن الذوق من جملة الإدراكات فإن المذوق إذا لاقى اللسان يدرك أيضا حرارته وبرودته وخشونته وملامسته، كما يدرك سائر أعضائه الحسية ويدرك أيضا طعمه ولا يدركه غير اللسان ، فإدراك اللسان أتم …فإن الذوق إدراك لمسي أتم من غيره في الملموسات فقال (ذوقوا) إشارة إلى أن إدراكهم بالذوق أتم الادراكات فيجتمع في العذاب شدته وإيلامه بطول مدته ودوامه ، ويكون المدرك لا عذر له يشغله وإنما هو على أتم ما يكون من الإدراك فيحصل الألم العظيم” . وقال في تفسيره للآية ” ….. فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ” (آل عمران :106) : ” وخصَ لفظ الذوق لأنهم في كل حال يجدونه وجدان الذائق في قوة الإحساس ”
قال تعالى في حق الكافرين في جهنم ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً ) (النساء:56).
فهنا تراسل بين حاستي اللمس والذوق , وموطن الشاهد على التراسل في الآية قوله – سبحانه – (( ليذوقوا العذاب )) أي (( ليدوم لهم ذوقه ولا ينقطع، كقولك للعزيز أعزك الله : أي أدامك على عزك وزادك فيه , أي كلما انشوت جلودهم واحترقت يبدلهم الله جلودا غيرها ، ليذوقوا ذلك العذاب في نار جهنم .
والشاهد ( ليذوقوا العذاب) قد بني على الاستعارة المكنية ( ليذوقوا ) لأن حقيقة الذوق إنما هي في المطاعم والمشارب، لكن القران الكريم يوظف هذه الحاسة ( الذوق ) في التعبير عن الإحساس بالألم لأن حس الذائق لإدراك ما يذوقه قوي, وليس الحس وحده الذي يجمع بين طرفي الاستعارة في القران الكريم ولكنه الحس والنفس معاً بل إن للنفس النصيب الأكبر والحظ الأوفى، والقران الكريم في ذلك يرمي إلى رسم الصورة كما تحس بها النفس , وهذه الحاسة أشد الحواس وأقواها إدراكا في تذوق الأشياء عند الإنسان ، فلا جرم حصل من لفظ الإذاقة ألم العذاب بالإدراك بآلة الذوق , والآلة هنا ليس اللسان و إنما الجلد ، والحاسة هي اللمس لأن العذاب حاصل من الجلد (نضجت جلودهم) وبناءً على ذلك يمكن تعليل كثرة استعمال القران الكريم لاستعارة الذوق في آي كثيرة حفل بها سواء التي أتت في سياق العذاب وهي أكثرها, أو التي أتت في سياق النعيم والرحمة ، فهي تضاعف الإحساس بالشيء، ومن ثم تأثيره في النفس .
ولا يخفى ما لوقع هذه الاستعارة في هذا المشهد المتكرر من العذاب، إنها تعمق ألم الإحساس بالعذاب ووقعه في النفس، وهذا الشعور هو من ضمن ما تهدف إليه هذه الاستعارة، فضلا عن أن الألفاظ المستعارة أصدق أداة تجعل القارئ يحس بالمعنى أكمل إحساس وأوفاه، وتصور المنظر للعين، وتنقل الصوت للأذان، وتجعل الأمر ملموسا محساً .
نجد تراسلاً بين حاستي الذوق والبصر , وهذا التراسل بين الحاستين جاء في قوله تعالى: (( يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)) (الزخرف:71) ، أي في الجنة ما تشتهيه النفس من فنون الملاذ والمشتهيات النفسانية كالمطاعم والمشارب، والمناكح، والملابس، والمراكب ……( وتلذ الأعين) يقال لذاذات الشيء أي وجدته لذيذا، والمعنى تستلذه الأعين، وتقر بمشاهدته
وموطن شاهد التراسل في الآية قوله ((وتلذ الأعين)) وقد بني التراسل على الاستعارة المكنية ( تلذ ) حيث شبه المشاهد في الجنة بشيء مطعوم أو مشروب ثم حذفه وأبقى لازمة من لوازمه هو اللذة ( تلذ )، وهكذا نجد أن من صفات الألفاظ المستعارة أنها تجعل القارئ يحس بالمعنى اكمل إحساس وأوفاه وتصور المنظر للعين مثلما تنقل الصوت للأذن وتجعل الأمر المعنوي ملموساً محساً ، وقد أشار الجرجاني إلى ذلك بقوله : ” إن شئت أرتك المعاني اللطيفة التي هي من خبايا العقل كأنها قد جسمت حتى رأتها العيون ” فالذوق في ( تلذ ) هو جزء من كل ما يستلذ به بكل أنواع اللذة، وإسناد اللذة إلى الأعين يؤكد هذه الشمولية ومجيئها بعد ( ما تشتهيه الأنفس ) يرشح اللذة الذوقية وأنواع اللذات الأخرى، فالأنفس تستلذ بالذوق والراحة والأمن والجمال وبكل ما توصله الحواس مما تشتهيه الأنفس والتراسل هنا يأتي من استعارة ( تلذ ) للأعين، وإدماجها ضمنيا مع اللذة الذوقية، وآلة الذوق هي اللسان، والعين آلة البصر، فحصل التراسل بين حاستي الذوق والبصر، وبلاغة التراسل تتجلى في إيصال المعنى على نحو فريد تتناسب مع نعيم الجنة الحاصل للمؤمنين، وهو نعومة الناظر وهم المؤمنون، ونعومة المنظور وهي الأشكال الحسنة والألوان التي تنشرح لها النفس ، فالتراسل وسيلة حيوية مهمة في الآية لإيصال المعنى المقصود.
ويتجلى التراسل بين هاتين الحاستين أي اللمس والسمع في قوله تعالى : (( يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ))(الشعراء:223) . قال الصابوني : (( أي تلقى الشياطين ما استرقوه من السمع إلى أوليائهم الكهنة يكذبون فيما يوحون به إليهم)) ، موطن الشاهد هو (يلقون السمع) والتراسل فيه قائم على الاستعارة المكنية (يلقون)، لان الإلقاء يستعمل للمحسوسات عن طريق اللمس، ((تقول : ألقيته، أي طرحته، وتقول ألقه من يدك، ألق به من يدك)), فاستعير ( الإلقاء ) للسمع أي شبه ( المسموع ) بشيء محسوس يلقى على الأرض ثم حذفه وأبقى لازمة من لوازمه وهي ( الإلقاء) وبذلك يتجلى التراسل بين حاستي اللمس والسمع، والتراسل يحقق بلاغة وقوة في التعبير لإيصال المعنى المقصود الذي يهدف إليه القران، وهي شدة إصغاء أولياء الشيطان من الكهنة بعد استراقه، قال صاحب التحرير والتنوير في تفسير هذه الآية ((وإلقاء السمع)) هو شدة الإصغاء حتى كأنه إلقاء للسمع من موضعه، شبه توجيه السمع إلى المسموع الخفي بإلقاء الحجر من اليد إلى الأرض، أو في الهواء ، وتتجلى هنا خصيصة من خصائص الاستعارة وهي أنها تختصر المسافات بين المعاني وتجمع ما ليس بينه رابطة من قبل لإدراك أوجه المجانسة بين الأشياء المختلفة بما يركز معنى خاصا له تأثيره الحاد القوي .
ويعد السمع والبصر من أهم وسائل تذوق الجمال، وهما منفذان إلى القلب، والقرآن الكريم كثيرا ما يربط بين القلب أو الفؤاد أو العقل والسمع والبصر، وهذا ما أكده القران، ولحظه العلماء كالجاحظ والغزالي وغيرهم .
فلا عجب أن يحدث التراسل بين حاستي السمع والبصر، ومثال ذلك في القران الكريم قوله تعالى : ((وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)) (الجمعة:11).
جاء في تفسيرها : ((والمعنى : إذا سمعوا بتجارة رابحة أو صفقة قادمة أو شيء من لهو الدنيا وزينتها، تفرقوا عنك يا محمد وانصرفوا وتركوا الرسول قائما على المنبر يخطب))
موطن الشاهد في الآية هو ((وإذا رأوا تجارة أو لهوا)) ونلحظ التراسل فيه بين حاسة البصر (رأوا) وحاسة (السمع) لأن (التجارة واللهو) يحصلان عن طريق السمع، وقد نشأ التراسل بين الحاستين إذ إن سماع بعض الكلمات يشبه الإدراك المرئي فيتخذ بعداً مكانياً يعمل على تحريك المشاعر وإثارتها، فحين سمعوا بخبر التجارة أدركوا مكانها وحجمها وما تحتويه فتحركت مشاعرهم، فضلا عن أن التجارة واللهو من النشاطات الإنسانية التي تستوعب معظم الحواس تقريبا وكل ذلك اختصر بالاستعارة والتراسل وقد آثر التعبير القرآني الرؤية بدلا من السمع لان التعبير بـ ( رأوا ) يوحي بشمولية المفردة للرؤية والسمع معا، أو قد يكون ذلك من باب التغليب للرؤية على السمع، وفيه معنى آخر على سبيل التلميح والإيماء إلى توبيخهم لانهم بمجرد السماع تركوا النبي – صلى الله عليه وسلم – وكأنهم رأوا التجارة من كل ذلك تتجلى بلاغة التراسل بين الحاستين وهي تأكيد وجود التجارة واللهو في المدينة عندما كان النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – قائما يخطب على المنبر، فبالتراسل أصبحت التجارة واللهو كأنهما حاضران يرونهما رأي العين.
ونجد التراسل بين هاتين الحاستين (اللمس والبصر) في قوله تعالى : ((وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)) (الأنعام:7).
نجد تراسلا خفيا في الآية في قوله ((فلمسوه بأيديهم)) ونجد مفهومه في قول الرازي، وهو يفسره بقوله : (( إذا رأوا بقوا شاكين وقالوا : إنما سكرت أبصارنا، فإذا لمسوه بأيديهم فقد يقوى الإدراك البصري بالإدراك اللمسي وبلغ الغاية في الظهور والقوة )) ، ولما كانت حاسة اللمس للأشياء المادية فقد اشتغلت هذه الحاسة بدلا عن الحاسة البصرية لضعفها أو عماها عند الكافرين بسبب حاجز الكفر الذي عطلها فاستعاض الكافر باللمس عن البصر لإزالة الشك والريب كما يزعمون.
ويشير التراسل هنا إلى دلالات ثرية عن طريق الإيجاز والتكثيف الموحي إلى أن الملموس باليد لابد أن يرى إلا في حالة العمى، ومع وجود العمى (حقيقة أم مجازا) لا يمكن لهؤلاء الإنكار إلا إصراراً على الضلال والكفر، أما المرئي فقد لا يلمس باليد نتيجة البعد مثلا، ويكون مجال الإنكار فيه اكثر من الملموس ولاسيما انهم ينكرون كثيرا من الدلائل الكونية الواضحة التي يرونها في كل حين، لذلك فالتعبير بـ ( لمسوه ) فيه شمولية للرؤية واللمس، وفيه تأكيد على إصرار هؤلاء وعنادهم، وفيه ما يسمى في البلاغة العربية بـ (إرخاء العنان) وقطع الحجة عليهم إذ كان الكتاب في قرطاس يرونه ويلمسونه بأيديهم، فلا حجة لهم بعد ذلك، وهم على الرغم من ذلك يقولون ( إن هذا إلا سحر مبين )، ومن كل ذلك تتجلى بلاغة التراسل.
ونجد هذا التراسل في قوله تعالى: ((أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ *إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ)) (الفجر: 6-7). والاستفهام في الشاهد تقريري، والمخاطب به النبي محمد – صلى الله عليه وسلم -، والخطاب يؤسس الفعل بصورة مباشرة ويحدد أثره، ولذلك فهو يعبر المسميات والصفات ما أمكن مفجرا كوامنها الساكنة في دلالات الافعال، كأنه يشق قناة التوصيل السمعية إلى بقية الحواس ليملأ المشهد الحركي بمضمونه, فخوطب النبي- صلى الله عليه وسلم – بالآية تثبيتا له ووعدا بالنصر، وتعريضا للمعاندين بالإنذار بمثله، فان ما فعل بالأمم المذكورة في هذه السورة موعظة وإنذار للقوم الذين فعلوا مثل فعلهم من تكذيب رسل الله قصد منه تقريب وقوع ذلك وتوقع حلوله، لان التذكير بالنظائر واستحضار الأمثال يقرب إلى الأذهان الأمر الغريب الوقوع، لان بعد العهد بحدوث أمثاله ينسيه الناس، وإذا نسي استبعد الناس وقوعه، فالتذكر يزيل الاستبعاد)) .
س : ماذا يقصد النقاد بالأدب والنقد النسوي ؟
ج : الأدب النسوي هو تلك الأعمال التي تتحدث عن المرأة , سواء كتبها الرجل أو المرأة . أو جميع الأعمال التي تكتبها النساء سواء كانت مواضيعها عن المرأة أم لا .
وغاية النقد النسوي أو ( الجينثوي ) إنصاف المرأة وجعلها على وعي بحيل الكاتب الرجل , فيما يتعلق بالموروث الثقافي والأدبي , وإبراز الكيفية المتحيزة التي يتم بها تهميش المرأة ثقافياً لأسباب طبيعية وبيولوجية ( أي بسبب أنوثتها ) . وهو يعتبر من إنتاج النقد الثقافي , أو أحد مناهج التفسير النقدي القائم على أساس ثقافي .
وتعتبر فرجينيا وولف من رائدات حركة هذا النقد , حينما اتهمت العالم الغربي بأنه مجتمع أبوي , منع المرأة من تحقيق طموحاتها الفنية والأدبية . ودعت إلين شوالتر إلى وجود أدب نسوي تبرز فيه اهتمامات المرأة الكاتبة أنها هي المحور الرئيس .
والنقد النسوي يتحرك بصفة عامة على محورين : الأول : دراسة صورة المرأة في الأدب الذي أنتجه الرجال . والآخر : دراسة النصوص التي أنتجتها النساء . ويلتقي المحوران عند نقطة واحدة هي هوية المرأة أو ذاتها .
وجوهر فكرة النقد الأدبي عند الحركة النسائية هو ما لقيته المرأة من ظلم من الرجل سواء في المجال الإبداعي أم في مجال النقد إذ لم تتح لها الفرصة للتعبير عن آرائها النقدية التي قد تكون مخالفة لوجهة نظر الرجل .
وتكشف سعاد المانع في دراستها ( النقد الأدبي النسوي في الغرب ) عن تداخل النقد النسوي العربي مع النقد النسوي الغربي , وقد جاءت الدراسة على مسارين :
الأول : مسار معتدل في التفاعل مع هذه المقولات والتحمس لها . والثاني : وهو الكثير يبدو فيه سعي حثيث لاستعمال شواهد من التراث واللغة لإثباتها . وليس معنى هذا التداخل أن الكتابة النسوية العربية تابعة للكتابة النسوية الغربية , بل ظهر التمايز من خلال بروز شخصية الناقد والناقدة وتأثرها ببيئتها وثقافتها المحلية ومرجعيتها التراثية . ولذا يمكن أن نرصد اتجاهين عربيين في الكتابة النسوية : الأول : كتابة الأنثى الباحثة عن التحرر والمساواة والحقوق على منابر الصحف والجلات . والثاني : الكتابة النسوية المجسدة للمعركة مع الثقافة الذكورية من خلال الكتابة الإبداعية , ومن كتابها : غادة السمان وليلى العثمان وكوليت خوري وسحر خليفة وأحلام مستغانمي .
أما في مجال النقد فهناك نمطان : الأول : نقد المرأة المتماثل مع النقد الذكوري في رؤاه ومنطلقاته وجمالياته , وهو الغالب على البحوث الأكاديمية . والثاني : النقد الأنثوي الذي يرى خصوصية المرأة في بعض قضاياها الذاتية وهو الغالب على الكتابات الإبداعية , وهي مرحلة ما بعد الحداثة . والأدب الذي تنتجه المرأة قد يكون أدباً إنسانياً , أو أدباً تحارب به الرجل الذي يهمشها , أو الأدب الذي تخدم به جنسها , وتعزل من خلاله نفسها عن العالم الإنساني الرحب .
والمأزق الذي يواجه هذا المصطلح النسوي هو عدم نضجه بنماذج تمنحه الحضور المتميز الذي يتجاوز الانتماء الجنسي إلى الإبداعية , والذي يبطئ في سرعة نضجه هو التعاطف غير الحميد من المجتمع الثقافي العرب مع الأدب النسوي , فما أن تصدر رواية أو ديوان شعر أو مجموعة قصصية نسوية إلا تجد الحفاوة والتنويه والإشادة على أنها إضافة جديدة في الأدب النسوي مما أدى إلى التداخل بين الجيد والرديء , بين الغث والسمين , وهذا الاضطرار للاحتفاء بأي جديد نسوي يكشف عن شعور بدونية هذا الأدب عند النقاد المهللين لأي كتابة جديدة نسوية , وهم ربما لا يشعرون بذلك .
س : ما هي مظاهر التجديد في شكل القصيدة العربية الحديثة ؟
ج : سأترك الحديث عن التجديد في شكل القصيدة العربية القديمة , فقد استوفيت ذلك في بحث سابق فانظره إن شئت , هذا أولاً . وثانياً أنا مع التجديد وإلى التجديد أحلق وأبدع شريطة أن يتوافق مع ثوابتنا , ويلامس همومنا ويعالج قضايانا الأساسية , وإلا فإنه سيظل مجرد تجريب لا يلبث أن يسقط قبل أن يبلغ مداه .
مع بداية هذا القرن ظهرت محاولات للتجديد عند البارودي ولكنها لم تكن سوى باعث للقديم من مرقده لأنه ظل ضمن الأطر القديمة , وأما جماعة الديوان فقد دعت إلى الثورة على الإحيائية والانفتاح على الكون والتغلغل في أعماق النفس الإنسانية , ولكن شعراءها انكفأوا على ذواتهم وفي المهجر ارتفعت بعض الأصوات منادية بالتجديد , مبتكرة المناجاة الشعرية أو ما يسمى بالشعر المهموس , ومثال ذلك قصيدة { أخي } لميخائيل نعيمة وقصيدة { الطين } لإيليا أبو ماضي , وفي تلك الأثناء ظهرت معالم التجديد عند شاعر القطرين خليل مطران , الذي تميز شعره بالدفقة الشعورية الوجدانية والنزعة الرومانسية المعبرة عن شفافية الروح وهموم النفس وفي ظل هذه الأجواء نشأت جماعة أبولو 1932م , وكل هذه المحاولات أدت إلى نشوء اتجاهات وأنماط شعرية منها : أولاً : الشعر الحر , أو شعر التفعيلة هو شعر ذو شطر واحد , ليس له طول ثابت , ولا يتقيد بعدد التفعيلات في البيت الواحد , ولا يتقيد بقافية معينة , ارتبط بشعراء الأربعينيات من القرن الماضي . بدأت به الحركة المستقبلية الإيطالية التي تزعمها مارينيتي الذي دعا إلى الشعر الحر , وكان كوستاف أول من أطلق مصطلح الشعر الحر ( free verse ) وتعتبر الموسوعة الأمريكية أن ولت ويتمان اشتهر في القرن التاسع عشر في أمريكا بهذا اللون من الشعر باللغة الإنجليزية . وانتشر في فرنسا مع الحركة الرمزية المستقبلية في أواخر القرن التاسع عشر وزاد انتشاره في إنكلترا وأمريكا في القرن العشرين .
ولكن الشعراء الأوروبيين حين يستخدمون هذا الاصطلاح فإنهم يعنون به الشعر المتحرر من كل قيد , ومن كل ترتيب إيقاعي مطرد , وبالتالي فالتسمية لا تنطوي على الدقة, فإذا سلمنا بأن هذا المصطلح تعريب للمصطلح الإنجليزي(free verse) فسنقع في اضطراب واضح , لأن ما يقصد بهذا المصطلح في الشعر الإنجليزي هو الشعر الذي يخلو تمامًا من الوزن والقافية, وهذا لا يتفق مع الشعر الجديد الذي يعتمد على الإيقاع, ويعتمد القوافي المتنوعة من مقطع لآخر, كما أن تسميته بالشعر المرسل ليست بالتسمية الدقيقة ؛ لأن المرسل من الشعر(Blank verse) هو الذي يتحرر من القوافي ولا يتحرر من وحدة البحر, أما من يسميه بالشعر المنثور أو قصيدة النثر, يريد من هذه التسمية أن يسلبه صفة الشعر؛ لأنه لم يدرك ما فيه من الإيقاع .
ومما لا شك فيه أن حركة الشعر الحر كان لها عدة عوامل ودوافع جاءت استجابة لتطلعات الجيل الجديد ؛ فبلادنا العربية التي رزحت تحت نيران الاستعمار أمداً طويلاً وشعرت بالضيق والاستبداد وتاقت إلى الحرية كان لا بد لها أن تحدث في حياتها نوعاً من التجديد تشعر معه بامتلاكها حريتها وثورتها على واقعها , وكان الشعر مجالاً لإظهار هذه الثورة , إلى جانب ذلك الدافع النفسي كان هناك دوافع أخرى أهمها النزعة إلى تأكيد استقلال الفرد مما فرض على الشعراء الشباب البعد عن النماذج التقليدية في الشعر وإبراز ذاتيتهم بصورة قوية مؤكدة , كذلك كان لاتصالهم بالآداب الغربية واطلاعهم عليه أعظم الأثر إذ وجدوا أنه ذو خصائص مختلفة عن الشعر العربي ولاسيّما في مسألة الوزن والقافية .
كما احتج أصحاب الشعر الحر وأنصاره بحجة منطوقها : أن إطالة نَفَس الشاعر في بيت مشطّر مقفّى من شأنها أن تحدث خلخلة وترهلاً في المعنى النفسي الموجز الذي ينبغي أن يؤدى دون فضول في كلمة واحدة أو كلمتين أو في كلمات قصار .
ولا نغفل العامل الفني فقد ظهرت إرهاصات التمرد على الشكل الكلاسيكي للقصيدة العربية في الأدب القديم في محاولات متفرقة, ولكن هذه الإرهاصات أخذت تتبلور منذ محاولات الديوان وأبولو والمهجر المتكررة في إطار الشكل والمضمون, وكانت هذه المحاولات في منزلة بين القصيدة الكلاسيكية وقصيدة الشعر الحر, ويمكننا القول : إن محاولات أبولو والمهجر والديوان تعد مرحلة انتقالية للانتقال بالقصيدة من الكلاسيكية إلى الشعر الحر, على مستويات عديدة منها اللغة والصورة والخيال والقافية والموسيقى والعاطفة, وجاء شعراء مدرسة الشعر الحر فتمردوا على السمات الرومانسية للقصيدة, وبدأوا يطوعون الشكل الفني للقصيدة وفقًا لمقتضيات الواقع بدلًا من الإغراق في التوهيمات الذاتية الرومانسية .
وعلى مستوى الشكل الفني فقد تحرر الشاعر المعاصر من القافية حتى تتوافق مع حالاته الشعورية والنفسية, بدلا من استخدامه قافية واحدة توافق حركة الروي ولا توافق البعد الدلالي الذي يرمي إليه, وهذا التحرر يعطي الشاعر انطلاقة جديدة في تعبيره عن الواقع تعبيرًا حقيقيًا, وقد التفت الشاعر إلى أسلوب الشطرين فوجده يتعارض مع رغبته في التعبير عن واقعه؛ لأنه من جهة مقيد بطول محدود للشطر, وبقافية موحدة لا يصح الخروج عنها, ولأنه من جهة أخرى حافل بالغنائية والجمالية العالية, وهو يريد التعبير عن الواقع ولا وقت لديه للغنائية الشكلية, ولهذا فرغبة الشاعر في التعبير عن واقعه بكل متغيراته وتناقضاته دفعته إلى تجاوز الحدود التقليدية الشكلية للقصيدة, وبخاصة التي تقيد انطلاقته التعبيرية.
ونضيف إلى العامل الفني العامل الاجتماعي , فالشاعر المعاصر كائن اجتماعي يعيش قضايا عصره ومتغيراته ويتفاعل معها تفاعلًا حقيقيًا, ولذلك تأتي قصائده تعبيرًا عن الأوضاع الاجتماعية السائدة ومنها الحركات التحررية الوطنية في بعض البلدان مثل سوريا ومصر ولبنان وفلسطين والعراق واليمن, وقد أخذ الشعراء يعبرون عن واقع هذه الحركات الوطنية, وتجاوزوا النواح والبكاء والانزواء الذي سيطر على الشعراء الرومانسيين؛ لأن البكاء والعويل والانسحاب للداخل ومخاطبة الطبيعة لا تحرر أوطانًا, لكنها تصيب الذات بالعجز والانكسار والضياع, ومن ثم تمرد بعض الشعراء الشبان في تلك الآونة على القصيدة الرومانسية مثل: نازك الملائكة وبدر شاكر السياب, وعبد الوهاب البياتي ,وصلاح عبد الصبور, ولهذا فإن القضايا الاجتماعية الملحة جعلت الشاعر يتخلص من القيود التي تضيق آفاق التعبير كتساوي الأشطر الشعرية, والقافية الموحدة والغنائية العالية, والإسراف في تصوير العواطف, ولعل الرغبة في تحرر الشاعر من القيود التي تكبله هي التي جعلته يتمرد على كل القيود العصرية بما فيها قيود الهندسة الشكلية في القصيدة العمودية؛ لأن هندسة الشكل تتطلب هندسة مقابلة في الفكر, وفكر الشاعر المعاصر فكر انطلاقي يتطلع إلى التخلص من القيود في كل حين, ويريد أن يحطم القوالب الجامدة التي تكبل حريته الفكرية أو الإبداعية.
ومن نماذج الشعر الحر الذي يصور الواقع الاجتماعي للمرأة العراقية قصيدة “غسلاً للعار” لنازك الملائكة, حيث تشجب الشاعرة هذا العرف الاجتماعي الذي يبيح للأهل قتل ابنتهم ؛ لأنها أحبت.
وتمثل قصيدة المومس العمياء أنموذجًا صالحًا للقصيدة ذات المضمون الاجتماعي حيث ترتبط بموضوع البغاء, وهي ظاهرة اجتماعية كانت سائدة في العراق حتى أواسط الخمسينيات من القرن الماضي .
ولا أحداً منه يشك في أهمية العامل الثقافي إذ كان للروافد الثقافية أثرٌ في انفتاح الشعراء المعاصرون على الآداب الأوروبية, يتأثرون بها ويفيدون من تطورها, ولذلك نجد تأثير بعض الشعراء الأوروبيين على الشعر العربي المعاصر واضحًا ولا سيما ت. س. إليوت في قصيدته (الأرض الخراب), وبودلير, ورامبو…, وهذا بدوره أدى إلى زيادة الوعي الفكري والإبداعي للشاعر, وإلى تجاوزه كل الأطر التقليدية والشكلية في القصيدة إلى أطر تجديدية تتوافق والواقع الحياتي. ومن نماذج الشعر الحر التي يظهر فيها تأثير الثقافة الأجنبية, قصيدة أنشودة المطر لبدر شاكر السياب التي يستدعي فيها آلهة الخصب والنماء( تموز) / على بحر الرجز , يقول فيها : عيناك غابتا نخيل ساعة السحر / أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر/ عيناك حين تبسمان تورق الكروم / وترقص الأضواء كالأقمار في نهر / يرجه المجداف وهناً ساعة السحر …
ويعتبر بعض مؤرخي الشعر العربي الحديث أن نازك الملائكة أول من ابتدأ بالشعر الحر في الواقع العربي , ومنهم من ينسب ذلك إلى بدر شاكر السيّاب , فهما اللذان وضعا حجر الزاوية في البناء الجديد عام 1947م , وما كان قبل ذلك أعني : ( محاولات علي أحمد باكثير ومحمد فريد ومحمود إسماعيل وعرار ولويس عوض ) كانت كلها إرهاصات تتنبأ بقرب ظهور حركة الشعر الحر, ولم تكن ذات قوة فنية تحويلية , وإن كان لأولئك الشعراء دورهم إلا أنهم لم يشخصوا أهمية ما طلعوا به ولا هم صمدوا واستمروا ينظمونه , ولعل العصر نفسه لم يكن مهيأ لتقبل الشكل الجديد آنذاك , ولذلك جرف الزمن ما صنعوا وانطفأت الشعلة .
ولعل أول قصيدة تمثل هذا الاتجاه خير تمثيل هي قصيدة { الكوليرا } التي نشرتها نازك الملائكة في مجلة العروبة 1947م وهي من الوزن المتدارك ( الخبب ) تقول :
طلع الفجر / اصغ إلى وقع خطى الماشين / في صمت الفجر , اصخ , انظر ركب الباكين .
عشرة أموات , عشرونا / لا تحص , اصخ للباكينا / موتى , موتى , ضاع العدد .
موتى , موتى , لم يبق غد .
وفي ديوان { أزهار ذابلة } وهو أول ديوان صدر لبدر شاكر السياب قصيدة حرة الوزن من بحر الرمل يقول :
هل يكون الحب أني / بتّ عبداً للتمني / أم هو الحب اطراح الأمنيات / والتقاء الثغر بالثغر ونسيان الحياة .
وخلاصة القول إن نازك والسياب ركنان مهمان في هذه القضية فضلاً عن كونهما رائدين لأن نازك الملائكة نظّرت للشعر الحر فمثلاً هناك فرق بين العروض والبحور التي اكتشفها الخليل بن أحمد وعروض نازك الملائكة , فالخليل ينظر لما هو كائن وموجود بمعنى أن هناك نصوصاً موجودة يحاول أن يستنبط منها القواعد والأسس بينما عروض نازك الملائكة كانت تقعيداً للنصوص التي ينبغي أن تكون على البحور الصافية , وليست البحور الممزوجة ؛ هذا من جهة , ومن جهة أخرى سمّت القافية { الآلهة المغرورة } لأنها ملزمة ومتحكمة في الشعر , فكانت عرضة للاتهام من قبل النقاد بالرجعية لأنها فرضت قواعد وقوانين أصبح الشعر الحر في منظورها نظام توزيع التفاعيل العربية على السطور الشعرية إلا أنها تراجعت عن آرائها في كتابها ( القصيدة المدورة في الشعر العربي الحديث ) وتحدثت عن القافية ودلالتها الفنية والنفسية .
وإذا كانت نازك الملائكة قد نزعت نحو التنظير فإن بدر شاكر السياب قد ذهب إلى التطبيق , وتمكن من تجاوز قواعد نازك الملائكة إذ نسج ونظم على البحور الصافية والمركبة , وتمكن من تطويع هذا النمط للتجربة الشعرية الإبداعية في كثير من دواوينه وأشعاره , وما كان ذلك إلا لأنه كان يمتلك موهبة فنية شعرية خارقة ومحترفة .
ومن نافلة القول فإن مسألة الشعر الحر كانت من أهم المسائل التي دار حولها جدل كبير إلى درجة أن قوبلت بالرفض وخاصة من الدارسين الإسلاميين ؛ وذلك لأن كثيراً ممن دعوا إلى الشعر الحر كانت تتوافق مع دعواتهم أمور مرتبطة بالأيدلوجيات كالهجوم على التراث مثلاً , ولارتباط مضامينه بخدش وجرح الثوابت الإسلامية وتدنيس المقدسات الطاهرة من جهة , وارتباط شخوصه ورواده وأعلامه بالتيار الشيوعي والرأسمالي من جهة أخرى . وأرشد طلابي والدارسين إلى كتاب جناية الشعر الحر للأستاذ أحمد فرح عقيلان فهو كتاب غزير ونافع
ولم يخرج الشعر الحر على البحور التي اكتشفها الخليل فلقد اعتمد تفعيلاتها أساسًا وبشكل خاص البحور الصافية منها, ولكنه تحرر من نظام البيت الذي كان يحده عددًا متساويًا من التفعيلات لكل من الصدر والعجز, بحيث أصبح هناك شطر واحد ليس له طول ثابت, وإنما يصح أن يتغير عدد التفعيلات من شطر إلى شطر .
ويجوز نظم الشعر الحر من نوعين من البحور الستة عشر التي وردت في العروض العربي وهما : البحور الصافية , وهي التي يتألف شطراها من تكرار تفعيلة واحدة ست مرات وهي:
( الكامل, متفاعلن )و(الرَمل , فاعلاتن)و(الهزج , مفاعيلن) و( الرجز, مستفعلن) و ( المتقارب، فعولن) و(المتدارك,فاعلن أو فعلن) .
والبحور الممزوجة , وهي التي يتألف الشطر فيها من أكثر من تفعيلة واحدة على أن تتكرر إحدى التفعيلات, وهما بحران: ( السريع, مستفعلن مستفعلن فاعلن) و(الوافر, مفاعلتن مفاعلتن فعولن) .
وتعتمد قصيدة الشعر الحر على الشطر الواحد الذي يحل محل البيت, ويسمى سطرًا, كما أنها لا تلتزم عددًا محددًا من التفعيلات في كل سطر, فقد يتكون السطر من تفعيلة واحدة أو اثنتين أو ثلاث, أو أكثر دونما قيد في عددها, ودونما انتظام في ورودها. والموسيقى في الشعر الحر تنبعث من التفعيلة المكررة في الأبيات كما في أنشودة المطر للسياب, حيث تتكرر كلمة مطر عدة مرات.
ثانياً : قصيدة النثر , أو الشعر المنثور هي ثاني التحولات والتغييرات التي أصابت بنية الشعر في ظل المتغيرات الاجتماعية والثقافية والفكرية , وهي قصيدة نثرية موجزة مضغوطة موحدة تخلو من الأوزان والقوافي , وتعتمد على جمال الصورة ورقة الألفاظ , وتصوير العواطف والدفقة الشعورية النفسية المرتبطة بالتجربة .
وأصحاب قصيدة النثر يعتمدون الموسيقى الداخلية المنبعثة من الصور والأخيلة وما تحدثه من إيقاع خاص في تلاحمها مع الكلمات وفي نمو القصيدة نمواً عضوياً متناسقاً , ويميلون إلى الغموض , واستخدام جمل مبتكرة تجنح إلى الغرابة , ويبتعدون عن الوصف والإخبار .
وفي أربعينيات القرن الميلادي الماضي ظهرت محاولات لجبران في كتابه ( دمعة وابتسامة ) وأمين الريحاني , فقد كتبا فناً أدبياً جعلا النثر الفني له أسلوب يتميز بعاطفة شعرية وخيال مجنح يرتكز على التشبيهات والرموز والصور .
ويشترطون لها شروطاً منها : الإيجاز أي الكثافة في استخدام اللفظ سياقياً وتركيبياً . ويشترطون التوهج أي الإشراق والتأنق في استعمال اللفظ . وقصيدة النثر اعتباطية , بمعنى عدم وجود أية غاية بيانية أو سردية لها خارج ذاتها , فلا هدف لها ولذا نتوقع الضبابية والإبهام .
ويعد الريحاني صاحب أول تجربة في الشعر المنثور الذي ضمنه كتابه ( الريحانيات ) , وهو نفسه الذي أطلق على تجربته هذه مصطلح الشعر المنثور , حتى أطلق عليه أبو الشعر المنثور. يقول في قصيدته الثورة : هي الثورة ويومها القطوب العصيب / وليلها المنير العجيب / ونجمها الآفل يحدج بعينه الرقيب / من هتاف ولجب ونحيب / وزئير وعندلة ونعيب / وطغاة الزمان تصير رمادًا / ويل يومئذٍ للظالمين / للمستكبرين والمفسدين / هو يوم من السنين / بل ساعة من يوم الدين / ويل يومئذٍ للظالمين .
ومن نماذج الشعر المنثور عند جبران خليل جبران قصيدته ( أيتها الأرض) وفيها يقول :
ما أجملك أيتها الأرض وما أبهاك! / ما أتم امتثالك للنور وأنبل خضوعك للشمس .
ما أكملك أيتها الأرض وما أسناك !
وقد سارا على خطى الشاعر الأمريكي وايت مان وفنه الشعري , وقد ساعد على انتشار الشعر المنثور وجود الترجمات النثرية العربية للشعر الغربي الذي تكتب فيه القصيدة على هيئة الشعر , وعادة ما تكون أسطرها قصيرة وتحتفظ بإيقاع منتظم , ويخلو الشعر المنثور من القافية والوزن وغنائية النظم .
ويعتبر أنيس المقدسي أن الشعر المنثور محاولة جديدة قام بها البعض محاكاة للشعر الإفرنجي , كما في مجموعة ( عرش الحب والجمال ) لمنير الحسامي . وترى نازك الملائكة أن ظهور هذا النمط الذي يسمى النثر شعراً كان على أيدي طائفة من أدباء لبنان الذين تبنتهم مجلة شعر . ومن هذه الحركة جاءت قصيدة النثر التي هي مجاراة مباشرة لقصيدة النثر الإنجليزية والفرنسية مثلما جاء في كتاب سوزان برنار ( قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا )
أما أدونيس فلا يرى أن قصيدة النثر العربية انتحال أو سرقة لغيرها , إنها في تقديره آلة , واستخدام الآلة ليس في ذاته سرقة ولا انتحالاً , كما يرى أنه ما من جامع بين قصيدة النثر العربية وقصيدة النثر الفرنسية أو غيرها إلا الاشتراك في المسمى أو النوع الأدبي الواحد , أما غير هذا فالفروقات الشعرية والفنية بينهما عظيمة وعميقة .
وتعد إشكالية المصطلح والتجنيس أكبر عقبة تواجه قصيدة النثر , الأمر الذي احتد معه النقاش بين الأدباء والنقاد حول وصف هذا الفن بالشعر أو النثر , وانقسموا قسمين :
أيّد هذا المصطلح أو هذه التسمية كل من : خزامى صبري وإحسان عباس وأدونيس , تقول خزامى صبري عن مجموعة محمد الماغوط ( حزن في ضوء القمر ) : ” وغالبية القراء في البلاد العربية لا تسمي ما جاء في هذه المجموعة شعراً باللفظ الصريح , ولكنها تدور حول الاسم فتقول إنه ( شعر منثور ) أو نثر فني وهي مع ذلك تعجب به وتقبل على قراءته , ليس على أساس أنه نثر يعالج موضوعات أو يروي قصة أو حديثاً , بل على أساس أنه مادة شعرية لكنها ترفض أن تمنحه اسم الشعر ” , وتقول في موضع آخر : ” مجموعة شعرية لم تعتمد الوزن والقافية التقليديتين ” .
ويقول إحسان عباس : ” أما مستقبل القصيدة العربية فلا مفر له من أن يعود إلى ما نسميه قصيدة النثر , فلا بد من مزاولة هذا الشكل , ولا بد أن ينتهي إليه النظم الشعري ” , وأما أدونيس المنظر لهذا الفن فيرى أن القصيدة وحدة مغلقة دائرة لا خطاً مستقيماً , هي مجموعة علائق تنتظم في شبكة ذات تقنية محددة وبناء تركيبي موحد منتظم الأجزاء متوازن , هي شعر خاص يستخدم النثر لغايات شعرية خالصة ”
أما المعارضون لهذا الجنس فليس اعتراضهم على الفن نفسه بقدر ما هو اعتراض على التسمية فقد رأى بعضهم أن وصف هذه النصوص فيه تجن وخلط , والصحيح وضعه تحت مسمى النثر ومن هؤلاء النقاد نازك الملائكة , وترفض هذا النوع الجديد , وترى أن الدعوة لتسميته شعراً لا تستقيم , وهي دعوة غير مقبولة , قائلة : ” لماذا جاء التأثر المعاصر ليزدري النثر , ويحاول رفعه بتسميته شعراً ؟ تراهم يجهلون حدود الشعر ؟ أم أنهم يحدثون بدعة لا مسوغ لها ؟ وإذا كانوا يمتلكون المسوغ فلماذا يصدرون كتب النثر هذه بفذلكة يبينون فيها للقارئ الوجه الذي ساغ لهم به أن يصدروا كتاب نثر لا يختلف اثنان في أنه نثر ثم يكتبون عليه أنه شعر ”
وتنطلق نازك في ردها على من يسمون النثر شعراً من أسس عدة :
أولها الأساس النفسي فهي ترى أنهم يزدرون موهبتهم في مجال الكتابة النثرية , ويتطلعون إلى شيء لا يملكونه , وكأنهم يرون وضاعة النثر , فإذا أرادوا الارتقاء به فسموه شعراً , والناثر شاعراً , والحال أن يعرف هؤلاء قيمة النثر الذاتية , فلا يمكن أن يغني الشعر عن النثر , ولا النثر عن الشعر ” .
وثانيها : الأساس اللغوي فدعوة قصيدة النثر وقعت في خطأ كبير إذ أطلقت كلمة شعر على الشعر والنثر معاً مع أن دلالتها الخاصة بالموزون , فلغات العالم كلها قد ميزت بين الشعر والنثر وثالثها : الأساس النقدي حيث ترى أن أصحاب قصيدة النثر ينطلقون من المضمون في وصف الكلام بالشعر , فالشعر في نظرهم مجرد تجمع معان جميلة موحية فيها الإحساس والصور , بمعنى أنه يعتمد على الخيال والعاطفة والصور ولا يهتم بعد ذلك أن يكون موزوناً أو غير موزون , فالوزن عندهم لس شرطاً في الشعر . وتصل نازك الملائكة إلى أن قصيدة النثر ليست من الشعر في شيء لعدم توفرها على الوزن الذي هو ” الروح التي تكهرب المادة الأدبية وتصيرها شعراً , فلا شعر من دونه مهما حشد الشاعر من صور وعواطف لا بل إن الصور والعواطف لا تصبح شعرية بالمعنى الحق إلا إذا لمستها أصابع الموسيقى , ونبض في عروقها الوزن ” ويصف أحمد عبد المعطي حجازي قصيدة النثر بالخرساء لأن القصيدة تفتقد الوزن وهو الجناح الآخر للمجاز إلى جانب الصورة الشعرية . ويضيف أن هؤلاء ليسوا بمبدعين , فهم مواهب شابة عجزت عن تطويع القانون لصالحها فثارت وخرجت عليه , وليس كل الخارجين على القانون دائماً ثوراً , ربما كانوا قطاع طرق . ويزيد بياناً بأن قصيدة النثر تأليف بين نقيضين لم يأتلفا من قبل وهما الشعر والنثر , الشعر بأدواته التي يعتبرونها قيوداً , والنثر بتحرره أو بافتقاره إلى هذه الأدوات . ومن نماذج هذا الفن قول أدونيس :
أخذت غصن زيتون / ورسمت على التراب دورة أحشائي / وقفت السماء جانباً وابتدأ هدير كأنه بدء التكوين / ازدوج كل شيء واشتعلت أعماقي هجرة وتقاسمتني الأقاصي / تحت الشجرة بشكل الذراعين / أفق باستدارة السرة .
ويقول أيضاً : الهواء هواء بفضل القرية / والبيت بيت بفضل الزيتون / أنزعي غلالتك أيتها الأرض / الماء يعود مراهقاً من الشيخوخة / والنبع يطير صوب العصفور / ابتسم أيها النهر لجفافك / امرحي أيتها الزهرة بين الشوكة والشوكة .
ثالثاً: الشعر المرسل
هو الشعر الموزون غير المقفى, إذ يلتزم فيه الشاعر بالوزن, ويهمل القافية, وقد حاول فريق من الشعراء المجددين الخروج على تقاليد القصيدة العربية الموزونة, والاتجاه إلى النظم في إطار الشعر المرسل الذي يتخلص من قيود القافية, وهذا اللون كان شائعًا في الشعر الإنجليزي, وكان يسمى عندهم بالمرسل أو الأبيض, ومنه معظم شعر شكسبير المسرحي, وكذلك ملتون في الفردوس المفقود وهم لا يلتزمون فيه بقافية ولا يتقيدون بغير الوزن, واتجه شعراؤنا المحدثون إلى الشعر المرسل, محاكاة لهذا اللون من الشعر الإنجليزي, حيث وجدوا أن الشعر العربي جميعه غنائيًا , ولم يعالج الأنواع القصصية والملحمية والدرامية, وزعموا أن واحدًا من العوامل الرئيسية التي حالت بين الشعر العربي, والعناصر الملحمية, هو جمود التقاليد من جهة استخدام القافية الموحدة في القصيدة العربية, على حين أن الأمم الأخرى كالفرس مثلاً مارست كتابة الملاحم في نظم غير مقفى.
وكان من بين الشعراء الذين كتبوا في هذا اللون من الشعر, شعراء المهجر, وشعراء الديوان وأبولو, وكان في مقدمتهم جميعًا الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي, الذي عارض النظم على القافية الموحدة, واعتبرها قيدًا يحد من حرية الشاعر في التعبير عن أفكاره وعواطفه, ومن الشعراء الذين كتبوا في الشعر المرسل: عبد الرحمن شكري الذي تأثر بقراءاته العميقة في الأدب الانجليزي, وكتب قصيدة من الشعر المرسل بلغت مائة وثمانية وخمسين بيتًا هي” كلمات العواطف” ويقول فيها:
شكوت إلى الزمان بني إخائي = فجاء بك الزمان كما أريد
أراني قد ظفرت بذي وفاء = له خلق يضيق عن الرياء
ومنهم المازني في قصيدته “حواء والمرأة”, وعلي أحمد باكثير الذي ترجم مسرحية” روميو وجولييت” لشكسبير شعرًا, وألف مسرحية “أخناتون ونيفرتيتي” على هذا النمط .
رابعاً : قصيدة الومضة : أو اللقطة أو التوقيعة قصيدة الدفقة الشعورية الواحدة التي تقوم على فكرة واحدة أو حالة واحدة يقوم عليها النص , قصيدة قصيرة جداً لا تتجاوز عدة كلمات تتميز بالوحدة الموضوعية والعضوية , وبالكثافة والتركيز والإيحاء والإيجاز مع الاقتصاد في استعمال حروف العطف والمفردات , وتخلو من الحشو والمحسنات البديعية , ومرجعها اللحظة الشعورية في روح الإنسان , وأهم أسبابها انتقال الشعر من المباشرة والخطابية إلى الإيحاء . ويتطلب هذا اللون من الشعر فطنة وذكاء من الشاعر , ونباهة من المتلقي لأن قصيدة الومضة أو التوقيعة تُبنى بناء توقيعياً , أي بناء صورة كلية للقصيدة من خلال صورة واحدة تقدم فكرة وانطباعاً بتكثيف شديد . ولعل طه حسين أول من كتب في هذا النوع في منصف الأربعينيات , ونقله إلى العربية نثراً في مقدمة كتابه ( جنة الشوك ) ودعا إلى الاهتمام بهذا النوع الأدبي والإضافة إليه كونه يحتاج إلى قدر كبير من المعاناة والتكثيف البلاغي والمفارقة التي تعد روح التوقيعة أو الأبيجراما على حد تعبير كولردج . وفي منتصف الستينيات ظهر هذا المصطلح عند عز الدين المناصرة في قصيدته توقيعات يقول :
وصلت إلى المنفى / في كفي خف حنين / حين وصلت إلى المنفى الثاني / سرقوا مني الخفين . ويقول توفيق أحمد : أرسم صورة متخيلة لغد / أرجو أن يكون دافئاً كالصقيع / ومالحاً كماء النبع / الذي كنت أتقاسم ضفتيه / أنا وحبيبتي كل صباح .
ويقول غازي القصيبي : تصرمت السنون / ولا سبيل إليك / وأنت واضحة السبيل .
ويقول أحمد الزهراني في مجموعته بياض “مندوب”
“جالسا ..خارج الذاكرة / في فضاء رحيب / يحضر المؤتمر / خلف قنينة من شراب لذيذ / ربما من نبيذ / جالسا في فراغ مهيب / في أجندته موعد للفجور / دفتر فيه بعض الحروف التي مزقتها السطور / وحده ..لا يعي ما يدور .
ولنقرأ قصيدة الخنجر لرياض صالح من سوريا : الرجل مات/ الخنجر في القلب/ و الابتسامة بين الشفتين/ الرجل مات/ الرجل يتنزه في قبره/ ينظر إلى الأعلى/ ينظر إلى الأسفل/ ينظر حوله/ لا شيء سوى التراب/ لا شيء سوى القبضة اللامعة/ الخنجر في صدره/ يبتسم الرجل الميت/ و يربت على قبضة الخنجر/ الخنجر صديقه الوحيد/ الخنجر/ ذكرى عزيزة من الذين في الأعلى .
خامساً : قصيدة النثريلة : هي لون جديد يقع بين قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة , يتولد منهما لون ثالث أو ينحت منهما شكلاً ثالثاً هو : ( قصيدة النثريلة ) , وأطلق هذا المصطلح د / عبدالله أحمد الفيفي . يقول : ” هذا شكل جديد مختلف تلفت إليه نصوص من قصيدة النثر , يتمثل في أبنية إيقاعية , لكنها غير منضبطة على التفعيلة انضباط قصيدة التفعيلة , ولا متحللة من التفعيلة تحلل النثر , أو ما يسمى قصيدة النثر كما هو نموذجها لدى أنسي الحاج ” يقول في قصيدته نجوم الصباح :
أصابع يديك هي نجوم الصباح في أغرب المدن / تلك التي أبوابها مرصعة بنياشين الكبت الخافض / العيون إلى ملكوت الحرية / فليكن بيننا وسيطاً ستار الكلفة / ملاك الخطايا الرزين / فهل هذا كذاك ؟ كلا ؛؛
يقول محمد خضر الغامدي : قد تمر بك امرأة لا تقطفها / تكتفي بكتابتها / ثم تمضي حزيناً / يقولون : ماءهن سر الحياة / وسر التغلغل في الطرق الشائكة / واحمرار الشفق .
س / هل هناك من يقطع الصلة بين الشاعر وبين قصيدته ويعزله عن إبداعه , ويرى حتمية التركيز على النص فقط ؟
ج / عزيزتي المكتبة ؛الذي أفهمه من سؤالك هو أنك تقصد نظرية موت المؤلف , وهي من الأصول التي تبنتاها الشكلانية اللسانية التي مهدت للبنيوية والتفكيكية , والتي دعت إلى إقصاء المؤلف وعزله والتركيز على البنية اللغوية والدلالات الكامنة تحت السطح النصي , وقد قدم رولان بارت الذي نادى بموت المؤلف مجموعة من الأفكار التي تعبّر عن هذه القضية , ومن أبرز هذه الأفكار : ( الكتابة حياد , وهدم لكل صوت , أي أنها لا ترتبط بزمن أو ظرف أو شخص . واللغة هي التي تتكلم , وليس المؤلف , وحذف المؤلف لمصلحة الكتابة , وأعطي القارئ السلطة الكاملة في تأويل النصوص مكان المؤلف , فميلاد القارئ رهين بموت المؤلف ) , وترتد فكرة موت المؤلف إلى جذور فلسفية وفكرية ترتبط بالظروف الموضوعية التي عاشتها أوروبا بعد ثورتها على الكنيسة، فقد أعلن الفيلسوف الوجودي “نيتشه” مقولة “موت الإله” ووجدت هذه المقولة صدى واسعاً في أوساط النقاد الأوروبيين الذين يتوقون إلى تدمير الاتجاه الغيبي في تفسير النصوص، وإفساح الطريق أمام ظهور الإنسان بكل مقدراته البشرية التي يدركها العقل وما عدا ذلك فهو ميت.
ثم انتقلت مقولة “موت الإله” إلى النقد الأدبي فأعلن النقاد الغربيون وعلى رأسهم “رولان بارت” عن “موت المؤلف”.
ويؤكد رولان بارت أن عدداً من النقاد الأوروبيين قد سبقوه إلى مقولة “موت المؤلف” مثل الأديب الفرنسي “مالارميه” الذي كان من أوائل المتنبئين بضرورة إحلال اللغة ذاتها محل من كان مالكاً لها، فاللغة هي التي تتكلم وليس المؤلف، وكذلك أشار “بارت” إلى جهود “بول فاليري” التي جاءت مكملةً لآراء “مالارميه”، حيث كان “فاليري” يضع المؤلف موضع سخرية، وأن اللجوء إلى دواخله خرافة، ولا بد من التركيز على البنية اللغوية لعمل المؤلف وإقصائه عنها .
كما استفاد “بارت” من جهود العالم اللغوي السويسري “دي سوسير” الذي نظر إلى النص بحسبانه شبكة من عناصر الاتصال اللغوية، ولذلك فإن خير وسيلة لمقاربة هذا النص هي الانطلاق من مصدره اللغوي، أي من بنيته الداخلية بهدف استكشاف الأنظمة أو العلاقات التي تشكل دلالاته، بمعنى أن حركة التحليل البنيوي تتجه من داخل النص إلى خارجه، وليس من خارجه المتمثل بالمؤلف والسياق والعصر والبيئة على بنيته ونسيجه وقد ذكر “بارت” في مقاله : النقد والحقيقة الذي صدر عام 1966م أن نمط النقد البيوغرافي الذي يؤكد العلاقة بين النص والمؤلف قد انتهى، وقد حظرت السيكولوجيات الجديدة هذا النوع من التحليل .
ثم يوضح “بارت” مبررات مقولته “موت المؤلف” بقوله : ” إن نسبة النص إلى مؤلفه معناها إيقاف النص وحصره وإعطاؤه مدلولاً نهائياً، إنها إغلاق الكتابة…
وعندما يأبى الأدب النظر إلى النص كما لو كان ينطوي على سر أي على معنى نهائي، فإن ذلك يولد فعالية يمكن أن نصفها بأنها ضد اللاهوت، وأنها ثورة بالمعنى الحقيقي للكلمة، وذلك أن الامتناع عن حصر المعنى وإيقافه معناه في النهاية رفض اللاهوت ودعائمه”
ثم اقتربت الشكلانية من البنيوية عندما ازدهرت مدرسة براغ على يد رومان ياكبسون الذين دعا إلى تحليل النصوص من خلال بنيتها اللغوية والتنظيم الصوتي المستقل لدوالها من خلال العلامات الدالة .
إن عزل الخطاب الأدبي عن السياق التاريخي والثقافي للنصوص أدى إلى قصور في النقد البنيوي، ولذلك نظر “ميشيل فوكو” من نقاد ما بعد البنيوية إلى الخطاب الأدبي بوصفه نشاطاً إنسانياً إبداعياً مركزياً ، ولا يراه نصاً عاماً يزخر بالدلالات بمعزل عن السياق التاريخي الذي يقتضي تغيراً في الخطاب . وقد اعتبر “لوكاش” أن الأدب انعكاس للحياة أو الواقع في إطار السياق الاجتماعي والتاريخي .
ولذلك فإن البنيوية لا تغطي كلية النصوص الشعرية ولا يصلح المنهج البنيوي وحده للإجراء النقدي إلا بتكامله مع المنهج التكويني الذي اقترحه “لوسيان غولدمان” وقد أدرك خطورة الموقف الذي يقودهم إليه بارت بعزله للمؤلف والسياق عن البنية اللغوية المكتفية بذاتها، وقد زاد من قناعته بخطورة المنهج البنيوي انتماؤه السياسي والفكري الماركسي الذي يرفض الترف الشكلاني البنيوي في النظرة اللغوية المجردة إلى النصوص . لقد دعا غولدمان إلى ربط البنية النصية الداخلية بحركة التاريخ الاجتماعي والسياق الثقافي، ودمج بين أقانيم النص الثلاثة: الشكل والبنية والسياق، ورأى أن رؤية العالم تشكل مع البنية ذات الدلالة وحدة متكاملة، وذلك يفترض الانتقال من رؤية سكونية يفرضها ثبات البني اللغوية إلى رؤية دينامية شاملة ومتماسكة حتى نستطيع الإحاطة بالنص من جميع زواياه .
ثم طور التفكيكيون وعلى رأسهم “جاك دريدا” مبدأ انتفاء القصدية من المؤلف وظلال السياق إلى فوضى التفسير المتمرد على فضاء التأويل ” فقصد المؤلف غير موجود في النص والنص نفسه لا وجود، وفي وجود ذلك الفراغ الجديد الذي جاء مع موت المؤلف وغياب النص تصبح قراءة القارئ هي الحضور الوحيدة لا يوجد نص مغلق ولا قراءة نهائية، بل توجد نصوص بعدد قراء النص الواحد، ومن ثم تصبح كل قراءة نصاً جديداً مبدعاً ” .
والرشد أن القول بنظرية موت المؤلف مغالطة نقدية تخالف المنطق السوي في الصلة بين المبدعين وأعمالهم . نحن مقتنعون تماماً أن هناك علاقة جدلية ووثيقة وراسخة بين النص وقائله من ناحية , والظروف المحيطة به من ناحية ثانية , فالنص لابد أن يحمل بعض طوابع شخصية قائله , وبالتالي فإن دراسة النص تسهم في الكشف عن جوانب من شخصية القائل , كما أن التعرف إلى القائل وإلى العوامل التي شكلت شخصيته الفنية تسهم في إضاءة النص واكتناه أسراره .
ولذلك فنحن لا نعير اهتماما لتلك الدعوة التي تروج لنظرية موت المؤلف , وبتر النص عن سياقه التاريخي والاجتماعي وعن جميع الظروف المحيطة به بدعوى فنية النص أو إطلاقه من قيود الزمان والمكان أو تعدد قراءاته . وفي إطار هذا التصور يتحدث طه حسين: ” فلا يكون الأدب أدباً حتى يصور حياة الناس، وليس في الأرض أدب إلا وهو يصور حياة أصحابه (مؤلفيه)، فكل أدب في أي أمة لا بد أن يصور واقعها وشعورها وذوقها وثقافتها وأنماط تفكيرها وهو في النهاية انعكاس صور الحياة في نفوسها”
س : نريد التعريج على بعض القضايا النقدية القديمة والحديثة ونذكر منها نظرية التلقي و اللفظ والمعنى والطبع والصنعة :
ج : نظرية التلقي وجماليات القراءة عرفت في ستينيات القرن العشرين وقد ارتبطت بالنقد الألماني وهي رد على النقد الذي ساد في الخمسينيات وكانت السيطرة فيه للنص الذي عدّ عالماً مستقلاً قائماً بذاته لا يخضع للتفسير والتأويل والمقاربة إلا لشروطه الجمالية الخاصة فيه وهذا النقد الشكلاني يهمل ذاتية القارئ المؤول . وإذا كانت البنيوية قد أنشأت علم النص فإن التلقي ينشئ علم القراءة أو التلقي .
يقول ميخائيل ريفاتير : (( ليست الظاهرة الأدبية هي النص فقط , ولكنها القارئ أيضاً بالإضافة إلى مجموع ردود فعله الممكنة على النص وعلى القول وإنتاجية القول )) انظر: وظيفة القارئ في النقد المعاصر ص 82. ومن مبادئ نظرية التلقي أنها تقوم على اسس ومنطلقات نذكر منها :
= النص عندها لا قيمة له من دون قارئ , فالقارئ خالق النص ومانح إياه دلالاته ووجوده ودلالات النص – وهي لا نهائية – يحددها القارئ وحده لا النص ولا المؤلف ولا السياق ولا جو النص ولا الملابسات المحيطة به عند ولادته . فالنص حروف ميتة من دون قراءة والقارئ هو الذي يعيد إليها الحياة .
= نظرية التلقي لا تهتم بالقارئ العادي البسيط أو بالقارئ السلبي ولكنها تنظر إلى القارئ الذكي المنتج المثالي الذي يفهم النص ويؤوله على نحو ما أراد مؤلفه .
= اللفظ والمعنى : من المسائل الكبرى عند النقاد القدامى مسألة اللفظ والمعنى ، فقد قامت المعركة بينهم على أشدها في تحديد دور كل منهما في إعطاء النص الأدبي قيمته الفنية ، ومن ثم في تقويم شخصية كل منهما في السيادة والأولوية .
ولعل المحفز لهذه المعركة الإعجاز القرآني وارتباط الفكر النقدي والبلاغي بمضامينه ، باعتباره عربيا إسلامياً ، فكان النزاع محتدماً في أين يكمن الإعجاز ، في اللفظ وتأليفه ، أو المعنى ودلالته ، أو بهما معاً ، أم بالعلاقة المتولدة بين ذا وذا ؟ .
ويمكن حصر أبعاد هذه المعركة بأربعة فرقاء : فريق اللفظ ، ويمثله الجاحظ وأبو هلال العسكري .
فريق اللفظ والمعنى ، ويمثله ابن قتيبة ، وقدامة بن جعفر .
فريق لم يفصل بين اللفظ والمعنى ، ويمثله ابن رشيق , وابن الأثير
فريق جرد اللفظ والمعنى ، وقال بالعلاقة القائمة بينهما ، ويمثله عبد القاهر
الفريق الأول : ما من شك أن الجاحظ هو أول من ألقح شرارة هذه المعركة ، تعلقاً منه بمذهب الصياغة ، وتعصباً للفظ ، ومشايعة للصياغة سواء فيما رآه وقرره ، أو بما نقله وأقحمه من آراء العلماء والأدباء والنقاد ، وهو في كل ذلك يضع الأناقة والجودة والجمال في الألفاظ ، فالمقياس عنده للقيمة الأدبية إنما يتقوم في جزالة اللفظ ، وجودة السبك ، وحسن التركيب لأن « المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والقروي ، والبدوي والقروي ، إنما الشأن في إقامة الوزن ، و تخير اللفظ ، وسهولة المخرج ، وفي صحة الطبع وجودة السبك » الحيوان 3/ 131.
وتبعه على هذا الرأي أبو هلال العسكري ، فحذا حذوه ، وسلك منهجه حتى تقاربت الألفاظ ، وتشابهت العبارات ، فنراه في فصل يعقده لذلك ، وهو الفصل الأول من الباب الثاني من الصناعتين ، يقول : الكلام ـ أيدك الله ـ يحسن بسلاسته ، وسهولته ، ونصاعته ، وتخير ألفاظه ، وإصابة معناه ، وجودة مطالعه ، وليس مقاطعه ، واستواء تقاسيمه ، وتعادل أطرافه ، وتشابه بواديه ، وموافقة أخيره فباديه ، حتى لا يكون في الألفاظ أثر ، فتجد المنظوم مثل المنثور في سهولة مطلعه ، وجودة مقطعه ، وحسن رصفه وتأليفه ، وكمال صوغه وتركيبه ، فإذا كان الكلام كذلك كان بالقبول حقيقاً ، وبالتحفظ خليقاً ) انظر : الصناعتين ص 61
فعيار سلامة الكلام عنده تنحصر في سلامة اللفظ وسهولته ونصاعته ، وجودة مطالعه ، ورقة مقاطعه ، وتشابه أطرافه ، وما نسجه على هذا المنوال وفي هذا الهدف ، أما إصابة المعنى ( فليس يطلب من المعنى إلا أن يكون صوابا ) الصناعتين 64
ثم يعزز رأيه بشواهد وأمثلة يختارها تعنى بالصياغة اللفظية ، تاركاً وراءه المعاني ، عازفاً عن قبولها قبولاً حسناً ، فهي مبتذلة يعرفها العربي والعجمي والقروي والبدوي ـ كما عبر عن ذلك الجاحظ بالنص ـ فيقول « وليس الشأن في إيراد المعاني ، لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي والقروي والبدوي ، وإنما هو جودة اللفظ وصفائه ، وحسنه وبهائه ، ونزاهته ونقائه ، وكثرة طلاوته ومائه ، مع صحة السبك والتركيب ، والخلو من أود النظم والتأليف » .
فالعسكري معني بالهيكل وأناقته ، ومفتتن بالألفاظ وإطارها باعتبارها الوسائل التي يتفاضل بحسن اختيارها الأدباء ، وهو يحكي ما قرره الجاحظ ويتناوله بالكشف والإيضاح ، ولا جديد عنده عليه ، فهما إذن يصدران عن قاعدة واحدة تشكل هذا الرأي الخاص ، ولعل مرد هذا الرأي في تعصبهما الظاهر للفظ إنما يرجع إلى دوافع نفسية وسياسية وعصبية قبلية ، وإن صح هذا فهذه الدوافع لا تشكل حكماً علمياً مجرداً ، ولنقف عندها قليلاً
أ ـ الدافع النفسي : لا شك أن اللفظ الرقيق ، والجرس الناغم ، والتركيب الناصع ، مظاهر تسيطر على النفوس فتنجذب نحوها انجذاباً ، وجزالة الأسلوب تهيمن على القلوب فتبهر بها وتنساق إليها ، سيراً وراء هذا المظهر البراق ، ولعل الجاحظ والعسكري قد افتتنا بهذا فسيطر عليهما نفسياً ، حتى عاد ذلك قناعة ورأياً ، فكانت أراؤهما تعبيراً عما يعتقدان .
ب ـ الدافع السياسي : كانت السلطة الزمنية في الفترة ما بين عصري الجاحظ والعسكري فترة مزدهرة بالترجمة والتأليف والكتابة وصولة البيان ، وكان الخط السياسي معنياً بتقييم الكتاب ، فعليهم تقوم أركان الدولة ، وبهم ينهض مجد الحكم ، ومنهم يخرج عطاء الناس ، وبهم تتفاخر الأمراء والوزراء والولاة ، والكتاب إنما يتميزون بالأداة الصالحة والمهارة الفنية ، وهما يستقيمان باللفظ والتحكم فيه ، وإخضاع تلك المهارة لأغراض الدولة ومتطلبات السلطان ، وليست أغراض الدولة أغراضاً علمية فتحتاج إلى عميق المعاني وموضوعية البيان ، وإنما هي أغراض سياسية تحققها قعقعة الألفاظ وزبرجة الهياكل ، فإذا أضفنا إلى هذا مكانة الجاحظ وشخصية العسكري وما يقتضي مركزهما من التريث والتدبر حفاظاً على النفس ، وقضاء للمصالح ، فما المانع أن يندفعا هذا الاندفاع إرضاء لأولئك الكتاب ، أو حذراً من ولاة الأمور ، ولكن هذا التعليل يقضي بأن الجاحظ والعسكري وأنصارهما قد تجاهلوا كيانهم الحضاري ومجدهم العلمي ، وفرطوا بذوقهم الأدبي وتراثهم العقلي راغبين أو راهبين ج ـ الدافع القومي : ومرده في إعطاء هذا الرأي وبخاصة من قبل الجاحظ هو محاولة دحض مزاعم الشعوبيين الذين حاولوا تفضيل نصوصهم الأدبية على النصوص العربية بكثرة معانيها ، وتدفق أغراضها ، و تعدد موضوعاتها ، فكان رد الفعل لدى النقاد العرب هو التقليل من قيمة المعاني وإعطاء القيمة للصناعة اللفظية .
= الفريق الثاني : وذهب الفريق الثاني وفي طليعته ابن قتيبة إلى القول بالجمع بين اللفظ والمعنى مقياساً في البلاغة ، وميزاناً للقيمة الفنية ، فرأى أن الشعر يسمو بسموهما وينخفض تبعاً لهما ، وقد قسم الشعر إلى أربعة أضراب :
1 ـ ضرب حسن لفظه وجاد معناه . 2 ـ ضرب منه حسن لفظه وحلا ، فإذا فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى . 3 ـ ضرب منه جاد معناه ، وقصرت ألفاظه . 4 ـ ضرب منه تأخر معناه ، وتأخر لفظه . فاللفظ والمعنى عند ابن قتيبة يتعرضان معاً للجودة والقبح ، ولا مزية لأحدهما على الآخر ، ولا استئثار بالأولوية لأحد القسيمين ، فقد يكون اللفظ حسناً وكذلك المعنى ، وقد يتساويان في القبح ، وقد يفترقان .
ولم يعدم ابن قتيبة الموافقين له على رأيه ، وفيه من الوجاهة ما يدعمه ، فقد سار على منهاجه قدامة بن جعفر في نقد الشعر وتحدث عن اللفظ والمعنى ، وجعلهما قسيمين في تحمل مظاهر القبح وملامح الجودة فيما أورده من آراء في عيوب الالفاظ والمعاني .
= الفريق الثالث : ويتمثل بابن رشيق ( ت 456 هـ ) فقد اعتبر اللفظ والمعنى شيئاً واحداً متلازماً ملازمة الروح للجسد ، فلا يمكن الفصل بينهما بحال ، قال : « اللفظ جسم ، وروحه المعنى ، وارتباطه كارتباط الروح بالجسم : يضعف بضعفه ، ويقوى بقوته ، فإذا سلم المعنى واختل بعض اللفظ كان نقصاً للشعر وهجنة عليه .. فإن اختل المعنى كله وفسد بقي اللفظ مواتاً لا فائدة فيه » .
وهذا المنهج الذي اختطه ابن رشيق تكاد تنجذب له نفوس قسم من النقاد القدامى والمعاصرين ، ففي طليعة القدماء ابن الأثير ، الذي يرى أن عناية العرب بألفاظها إنما هو عناية بمعانيها ، لأنها أركز عندها وأكرم عليها ، وإن كان يسوغ بل يعترف أن عناية الشعراء منصبة على الجانب اللفظي ، ولكنها وسيلة لغاية محمودة وهي إبراز المعنى صقيلاً ، فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظهم وحسنوها ، ورققوا حواشيها ، وصقلوا أطرافها ، فلا تظن أن العناية إذ ذاك إنما هي بألفاظ فقط ، بل هي خدمة منهم للمعاني
ولا تفسر هذه المحاولة من ابن الأثير بالاقتداء بخطوة ابن رشيق وهي وإن لم تصرح بمزج اللفظ والمعنى في قالب واحد ، ولكنها تشير إلى قيمة المضمون والشكل معاً في صقل الصورة ، وتلمح إلى طبيعة التلاؤم بينهما .
وقد لاقى هذا الاتجاه سيرورة وانتشاراً عند كثير من النقاد المحدثين ـ وإن لم يثبت اطلاعهم عليه ، لأنهم لا يشيرون إلى مصدره وكأنهم مبتكرون ـ فربطوا بين اللفظ والمعنى حتى ليخيل إليك أنهما شيء واحد ، وحدبوا على تطوير نظرتهم هذه وصعدوا بها إلى مستوى الحقائق الثابتة من خلال إشباع البحوث استدلالاً لها ، ونسجاً على منوالها ، حتى أخذت طريقها إلى مستوى النظريات والصيغ النهائية .
يرى الأستاذ أحمد الشايب عدم إمكانية فصل القيمة الفنية بين اللفظ والمعنى ويرى كلاً منهما انعكاساً للآخر بسبب « شدة الارتباط بين المادة والصورة أو بين اللفظ والمعنى ، أو بين الفكرة والعاطفة من ناحية ، والخيال واللفظ من ناحية ثانية ، إذ كان هذان صورة لذينك ، وأي تغيير في المادة يستتبع نظيره في الصورة والعكس صحيح »
ويرى الدكتور بدوي طبانة أن اللفظ والمعنى حقيقتان متحدتان ، ومنزلتهما واحدة لا تمايز بينهما ، والعناية بأحدهما عناية بالطرف الآخر ، والاهتمام يجب أن يقسم عليهما بالتساوي لأنه اهتمام بالعمل الأدبي وزنة للقيمة الفنية فيقول : « وليست منزلة المعنى دون منزلة اللفظ في تقدير القيمة الفنية للعمل الأدبي ، ولا شك عند المنصفين أن وجوب مراعات جانب المعنى لا يقل شأناً عن وجوب الاهتمام بالألفاظ »
قد أبدى الدكتور شوقي ضيف اهتماماً كبيراً بالمسألة ، ووجه لها عنايته الفائقة ، وأعار لها الصفحات العديدة في كتابه « النقد الأدبي » وتوصل إلى أن الفصل بين اللفظ والمعنى ، أو الشكل والمضمون أمر مستحيل … « فليس هناك محتوى وصورة ، بل هما شيء واحد ، ووحدة واحدة ، إذ تتجمع في نفس الأديب الفنان مجموعة من الأحاسيس ويأخذ تصويرها بعبارات يتم بها عمل نموذج أدبي ، وأنت لا تستطيع أن تتصور مضمون هذا النموذج أو معناه بدون قراءته ، وكذلك لا تستطيع أن تتصور صورته أو شكله أو لفظه ، دون أن تقرأه ، فهو يعبر عن الجانبين جميعاً مرة واحدة ، وليسا هما جانبين ، بل هما شيء واحد ، أو جوهر واحد ممتزج متلاحم ، ولا يتم نموذج فني بأحدهما دون الآخر … وإذن فلا فارق بين المعنى والصورة أو اللفظ في نموذج أدبي … ومعنى ذلك أن مادة النموذج الأدبي وصورته لا تفترقان فهما كل واحد . وهو كل يتألف من خصائص جمالية مختلفة ، قد يردها النظر السريع إلى الخارج أو الشكل ، ولكننا إن أنعمنا النظر وجدناها ترد إلى الداخل والمضمون ، فهي تنطوي فيه ، أو قل تنمو فيه … وإذن فكل ما نلقاه في كتب البلاغة من وصف اللفظ إن تأملنا فيه وجدناه في حقيقته يرد إلى المعنى ، حتى الجناس وجرس الألفاظ ، فضلاً عما توصف به الكلمات من ابتذال أو غرابة . والمضمون بهذا المعنى يتحد مع الشكل ، فهو البناء الأدبي كله وهو الحقائق والأحاسيس النفسية الكامنة فيه »
وهذه اللقطات مما خطط له شوقي ضيف ، وعزاه إلى أصحاب الفلسفة الجمالية ، يفتح آفاقاً جديدة في مفهوم الصورة الأدبية ودلالتها ، إذ يتخطى بها الشكل إلى المضمون ، فيعتبرها وحدة متماسكة الأجزاء ، متناسقة الأعضاء . والطريف فيه أن يعود بالمحسنات البديعية وأجناس التصنيع على المعنى في خلق الصورة ، ويرتبط بين موسيقية اللفظ وجرس الكلمة وبين إرادة المعنى في بناء الهيكل الأدبي للنص . ومن هنا ـ ويتحدد انطلاقنا مع الصورة الأدبية في أبعادها ـ كان لزاماً علينا أن نبحث بناء القصيدة في شكلها الخارجي باعتباره الإطار التكويني لمادة القصيدة ، ومادة القصيدة باعتبارها المحتوى الذي ازدحمت ـ نتيجة له ـ الأشكال والرسوم الأولية لهيكل القصيدة العام الذي يتبلور به الجمال التخطيطي لها ، بغية أن تكون معالم الرؤية بينة السمات للصورة الأدبية من خلال هذا التلاحم العضوي والاتصال الفعلي بين الصيغة الظاهرية والقيم الكامنة في المعاني التي جسدت حقيقتها الألفاظ .
وقد يبدو هذا بعيداً عن مجال الصورة الأدبية ، باعتبارها الشكل الناطق والمعبر ، ولكن نظرة فاحصة لبناء القصيدة ـ في هذا الشكل الناطق والمعبر ـ تغني عن الأطناب ، وتكفي دلالة في التأكيد أن هذا الشكل نطق وعبر بما احتوى من مادة ولم يكن هيكلاً فارغاً عقيم الاصداء ، وإنما استقام سوياً متكاملاً بهذه العلاقة واللحمة الطبيعية بينه وبين المضمون فعاد متجاوب الأجراس .
وأمر آخر يقرب من الموضوع ويتابع من خطوه ، هو أن الإيقاع الموسيقي والميزان العروضي ، ليسا من المعاني والألفاظ في شيء فهما خارجان عن هاتين الحقيقتين ، ولكنهما متداخلان معهما ، وملازمان لهما ، ولا ينعدمان في الدلالة على الصورة في القصيدة ، وإن كانا شيئاً والقصيدة في محتواها شيئاً آخر .
والحق أن إدراك هذه العلاقة بين اللفظ والمعنى ، واعتبارهما وحدة متجانسة في دلالتها على الصورة ، يمكن اعتباره امتداداً منطقياً لجزء مهم من رأى الفريق الرابع من فرقاء المعركة .
= الفريق الرابع : وهذا الفريق يتمثل في عبد القاهر الجرجاني في كتابيه « دلائل الإعجاز » و « أسرار البلاغة » فقد هذب عبد القاهر من المفاهيم المرتجلة لدلالة الألفاظ والمعارف وأقامها على أصل لغوي وعلمي رصين ، وأدرك مسبقاً سر العلاقة القائمة بين اللفظ والمعنى ورفض القول بإيثار أحدهما على الآخر ، واعتبرهما بما لهما من مميزات وخصائص واسطة تكشف عن الصورة ، فقال بالنظم تارة ، وبالتأليف تارة أخرى ، مما لم يوفق إليه الفرقاء في النزاع ، والملاحظة عنده أن النظم عبارة عن العلاقة بين الالفاظ والمعاني ، وأنها تناسقت دلالتها وتلاقت معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل .
= وقد يخيل للبعض أن عبد القاهر من أنصار المعنى دون اللفظ نظراً لتهجمه على القائلين بأولوية اللفظ ، وليست الألفاظ عنده « إلا خدم المعاني » ، ولكن عبد القاهر يشن هذه الحملات ، ويصول ويجول في قلمه وما يضربه من أمثلة وشواهد ، وما يقرره من قواعد ، لا انتصاراً للمعنى ، وإنما هو تفنيد لآراء القوم وتدليل على مفهوم الصورة عنده بالنظم ، ولا نظم في الكلم وترتيب حتى يعلق بعضها ببعض ، ويبنى بعضها على بعض ، وتجعل هذه بسبب من تلك » .
ويعود عبد القاهر بالنظم إلى أصل قائم على أساس من علم النحو ، وطبيعي أن النحو يعني ببناء الكلمة وإعرابها ، ومعرفة هذه الصيغة ـ وإن كانت منصبة على اللفظ ـ فإنها ترتبط بمعنى اللفظ في وضعه بمكانه من المعنى المراد ، لأن المعاني لا يحل إبهامها ما لم يقصد إليها من خلال الألفاظ ، والألفاظ لا يفهم مؤداها مالم تضبط صياغة وتصريفاً ونحواً بناء وإعراباً على حد سواء ، وهما متعاونان معاً على كشف العلاقة التي عبر عنها بالنظم و « ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه على النحو ، وتعمل على قوانينه وأصوله ، وتعرف منهاجه التي نهجت فلا تزيغ عنها ، وتحفظ الرسوم التي رسمت لك فلا تخل بشيء » متخذاً بالإضافة إلى هذا التشبيه والمجاز والاستعارة مضماراً لشرح آرائه ، وميداناً لاستدراكاته على أصحاب اللفظ ، وأن النظر إلى هذه المقومات اللفظية بأقسامها وأنواعها لا يعود لألفاظها فحسب ، وإنما للمعاني وما تضفيه على الألفاظ مما يكون حسن النظام وجوده التأليف ، وهو العلاقة المترتبة على فهم القسيمين اللفظ والمعنى .
وحقاً إنك لتجد عبد لقاهر قوي الحجة ، عجيب المناظرة ، في جولته النقدية هذه ، فلا تكاد تنتهي من فصل سفرية حتى تقع في فصل مثله ، يزيدك سخرية بأولئك جرحاً وتقويماً ، وإرجاعاً بآرائهم إلى ما اعتادوه دون روية وتمييز من شغف بالبديع وتعلق بالصناعة ، حتى ليصعب فهم ما يقصدون من الكلام ، فالسامع يخبط في عشواء ، من كثرة التكلف وشدة التمحل ، وهو يقرر هذا المعنى بقوله : إن في كلام المتأخرين كلاماً حمل صاحبه فرط شغفه بأمور ترجع إلى ما له اسم في البديع ، إلى أن ينسى أنه يتكلم ليفهم ، ويقول ليبين ، ويخيل إليه أنه إذا جمع بين أقسام البديع في بيت فلا ضير أن يقع ما عناه في عمياء ، وأن يوقع السامع من طلبه خبط عشواء ، وربما طمس بكثرة ما يتكلفه على المعنى وأفسده كمن يثقل العروس بأصناف الحلي حتى ينالها من ذلك مكروه في نفسهم .
والحملة على المحسنات البديعية لا تقلل من أهمية اللفظ ، ومنزلته في تقويم المعنى ، ولكن الإغراق بأصناف البديع يجعل اللفظ فارغاً إلا من جمال الهيئة الذي قد يعود وبالاً على اللفظ ، كما تعود أشتات الحلي ثقلاً على الحسناء يوردها التلف .
ومن خلال ما تقدم تتضح أبعاد المعركة النقدية بين اللفظ والمعنى ، وقد تجلى فيها أن الجاحظ والعسكري معنيان بحسن الصياغة وجزالة الألفاظ وقد عللنا هذا الرأي بصدوره عن دوافع نفسية وسياسية وقومية ، انتهت بأناقة اللفظ وجرس الكلمة .
ولا حظنا بعد ذلك المقاييس النقدية عند ابن قتيبة بإرجاعها القيمة الفنية إلى القسيمين اللفظ والمعنى ، واتفقنا معه في أصل الحكم والموضوع وناقشنا عن صحة تطبيقه لهذا الحكم ووقفنا عند رأي ابن رشيق في عدم الفصل بين اللفظ والمعنى وتكوينهما للوحدة الفنية في أي نموذج أدبي ، وصاحبنا سيرورة هذا الرأي عند القدامى والمحدثين الغربيين والعرب ، واستأنسنا بآراء ثلاثة من النقاد العرب : الشايب وطبانة وضيف ، ووقفنا مع الأخير وقفة المقوم لرأيه والقائل بتفصيله ورسمنا من خلال ذلك انطلاقنا في تحديد أبعاد القضية ، ثم عرضنا لرأي عبد القاهر ، واختتمنا الموضوع بلقطات من كلامه وشذرات من تحقيقاته ، ورأينا أن له الفضل في كشف العلاقة بين اللفظ والمعنى بما لهما من مميزات متنافرة ، وانتهينا عنده بالتعبير بالنظم وحسن التأليف عن الصورة الأدبية .
= الطبع والصنعة : المتكلف من الشعر وإن كان جيداً محكماً ما نزل بصاحبه من طول التفكر وشدة العناء ورشح الجبين وحذف ما بالمعاني حاجة إليه وزيادة ما بالمعاني غنى عنه , وتتبين التكلف في الشعر بأن ترى البيت فيه مقروناً بغير جاره ومضموناً إلى غير لفقه , والمطبوع من الشعراء من سمح بالشعر واقتدر على القوافي وأراك في صدر بيته عجزه وفي فاتحته قافيته وتبنيت على شعره رونق الطبع ووشي الغريزة , والمطبوعون في الطبع مختلفون : منهم من يسهل عليه المديح ويعسر عليه الهجاء ومنهم من يتيسر له المراثي ويتعذر عليه الغزل .
س / ما الفرق بين الشعرية والشاعرية ؟
ج : الشعرية هي الدفق الشعري أو المناخ الشعري وكان الأب الروحي للشعرية هو الأديب والشاعر الفرنسي بول فاليري حين أطلق مقولته التي توحد بين الشعر والأدب قائلاً ( كل كتابة أدبية هي شعرية ) وهي المقولة التي وجدت صدى عميقاً عند الأدباء والنقاد وفي مقدمتهم الشكليون الروس ثم تبنتها النظرية البنيوية فانتشرت خاصية الشعرية واقترنت بالرواية ثم بالسينما .
ولاشك أن بهاء الشعر ورونقه وبريقه حبب إلى الشعراء صفة الشاعرية أي التعبير الجميل والحساس والملهم والمؤثر عن الإحساس الرفيع الذي يُلامس الشعر لدي شاعر من الشعراء
س / لكن لماذا نحن مستوردون لأفكار ومصطلحات الغرب في الشعر والنثر ؟
ج : نعم , لأننا أمة فقدت الطموح والثقة في رجالها , وغيبّت وعيها بمرضها , وأنكرت وجودها , وانسلخت عن ثوابتها , واعتادت على الاتباع لا الإبداع , لو كنا ذوي ثقافة إنتاجية لطورنا نثرنا وشعرنا اللذين يمتد رصيدهما إلى مئات السنين , ولا يروق لنا من شيء إلا إذا حظي بدمغة الآخر ومباركته , وإن كان من بنات أفكارنا أو حتى من تراثنا .
س : لماذا لدينا هذا التراث الضخم , ولكننا عاجزون عن تقديم نظرياتنا النقدية ؟
كما قلت لدينا تراث ضخم وميزة تميزنا عن جميع الأمم هي ميزة الإسلام وهذا يجعل لنا نظرتنا المتميزة والشاملة في الجمال والإبداع والتصور هذا أمر لا تنتطح فيه عنزان ولا يختلف عليه اثنان . من يتصفح السجل التراثي للأمة يجد أن المسلمين لم يضعوا قواعد نقدية عامة ونظريات شاملة للنقد الأدبي , ولكننا نعتقد أنهم قدموا ذخيرة غنية خلال تاريخ طويل , تصلح لئن تكون أساسا متينا تنهض عليها نظريات النقد الأدبي , ونظريات الأدب هذا من جهة . من جهة ثانية الأدب عندنا لم يتعرض للتناقضات والهزات العنيفة والتحولات السريعة كما حدث في أوروبا , وكذلك النقد , ومرد ذلك إلى استقرار الأمة النفسي والفكري في ظل الإيمان والتوحيد , وسبب آخر هو عظمة اللغة العربية وإعجازها ساعدتها لتصد جميع المؤامرات المروعة التي تعرضت لها . بخلاف الغرب المسعور والذي تنبع نماذجه الأدبية وأشكاله الفنية من فلسفة ضالة منحرفة هدته إلى الحيرة والشك والقلق والاضطراب النفسي
س : هل يمكننا أن نؤسس لنقد عربي معاصر بعيداً عن الغرب ؟
ج : لا , لا يمكن أن ننفصل عن الغرب , المسألة تراكمية كل يأخذ من معين الآخر , فلا يمكن أن ننسلخ ونرمي أنفسنا في أحضان الغرب , ولا يمكن أن ننزوي في كوكب آخر لا نؤثر ولا نتأثر , والرشد أن نستفيد ونتفاعل ونختار ونبني ما ينفعنا وننطلق من الثابت الأصيل ونواكب المتغير الجديد . دكتور محمد شكرا جزيلاً لك . 13/ 6/ 1437هـ