التنظيمات والجماعات الحركية التي تزعم التزامها بتطبيق الشريعة الإسلامية، كالإخوان والسرورية والقاعدة وداعش والنصرة وما يسمى بحزب الله، تجعل من “السمع والطاعة” ركناً لا يُمس في علاقتها مع أتباعها. لكنها لا تلبث أن تكشف في أدبياتها وممارساتها عن تناقض عجيب، وإن لم يكن مستغرباً، حتى تجاوزت حدود المنطق والعقل.
يظهر هذا التناقض جلياً كقناع من النفاق الذي تتجمل به هذه الجماعات، إذ تزعم -أو توهم الآخرين- بأنها الحارس الأمين للشريعة، بينما توظف مفاهيم الشريعة لأغراضها الخاصة، متلاعبةً بعقول الأتباع، وساعية إلى توجيههم بما يخدم مصالحها السياسية. فهي تدعو في العلن إلى السمع والطاعة، لكنها في الخفاء تنسج خيوط الفوضى وتبذر بذور الفتن.
ولعل ما يثير الاستغراب هو تناقض هذه الجماعات في التزامها بمفهوم “السمع والطاعة”. فهي تتعهد بالولاء للحكام والحكومات ما داموا يخدمون مآربها، لكنها لا تتردد في الانتقال إلى صفوف المعارضة والعداء إذا اصطدمت مصالحها مع مصلحة الدولة، فتبدأ بنقض هذا المبدأ، وتدعو إلى العصيان، بل وتصل أحياناً إلى تكفير الحكام الشرعيين وإخراجهم من دائرة الإسلام، متأولةً نصوص الشريعة ومحرفةً معانيها لتبرير الخروج، مستندةً إلى تفسيرات شاذة تشوه مقاصد الدين الحنيف، متجاهلة أن الشريعة تأمر بطاعة ولي الأمر في غير معصية مع بذل النصيحة له بالمعروف.
ورغم أن هذه الجماعات تشدد على مبدأ السمع والطاعة العمياء داخل التنظيم، فإنها تنادي بالخروج على الدول والحكومات المستقرة تحت ذريعة “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، الذي يعني عندهم الخروج على الأئمة ومنابذتهم ومقاتلتهم، وهذا مشهور عند سلفهم من الخوارج والمعتزلة وغيرهم من الفرق الضالة. لقد عززت هذه الجماعات مفهوم السمع والطاعة المطلقة داخل التنظيم عن طريق ما أسموه بـ”البيعة الداخلية”، حيث يصبح الفرد أسير ولاء مطلق لمرشد الجماعة، متقدماً على ولائه لوطنه وولاة أمره الشرعيين. وبهذا التحول، يصبح السمع والطاعة، التي جاءت الشريعة لتصون بها الاستقرار والعدل، سيفاً مسلطاً على رقاب الأفراد والأتباع، تعزز به الجماعة سيطرتها عليهم، وتجعل من انتمائهم للجماعة بديلاً عن انتمائهم للوطن ولقادة الوطن.
إن هذا التحول في مفهوم السمع والطاعة لم ينحصر في العلاقة بين الفرد والتنظيم فقط، بل تجاوز ذلك إلى تأثيره في نظرة الأفراد للعالم من حولهم. فالطاعة العمياء تؤدي إلى عزلهم عن المجتمع، حيث تصبح الجماعة هي المصدر الأوحد للتوجيه والأفكار، ويصبح الخارج عالماً يعيش جاهلية، عالماً مليئاً بالأعداء والمخاطر. هذا الانغلاق الذهني لا يقتل روح الإبداع والنقد والابتكار فحسب، بل يشجع على رفض كل من يخالف هذا النهج، مما يؤدي إلى تأصيل التطرف والعنف والإرهاب كوسيلة لحماية الفكر الواحد وتأكيد سيطرة الجماعة.
هذا الفهم الفاسد عند الجماعات الحركية يسيء إلى المعنى الحقيقي للسمع والطاعة في الشريعة الإسلامية، التي جاءت لتحقيق المصلحة العامة والعدل والاستقرار، لا لتعزيز الفوضى والفرقة. ومن أسباب هذا الانقياد الأعمى هو الاعتقاد المتوارث في أدبيات جماعة كبيرة كالإخوان المسلمين بأن المرشد لا يخطئ، وهي فكرة يتداولها الأفراد منذ زمن اللجان التأسيسية للتنظيم. وليس ببعيد عن ذلك اعتقادهم أن الله تعالى اختار لهم قائدهم على سبيل التشريف والتزكية، وبالتالي فلا يحق لأحد أن يعترض عليه.
هذا يفسر تبني هؤلاء مفهوم “العزلة الشعورية”، حيث يشجعون أتباعهم على الانفصال العاطفي والفكري عن المجتمع، معتبرين إياه “مجتمعاً فاسداً”. ينظرون إلى أنفسهم على أنهم “الطائفة المنصورة”، ويسعون لبناء هوية مستقلة تجعلهم يلتفون حول أفكار الجماعة فقط، ويعمقون شعور أتباعهم بأنهم في حرب دائمة ضد “مجتمع غير متدين” حتى يُخضعوه لرؤيتهم الخاصة. فهذه الفلسفة تساعد في إقناع الأتباع بأنهم “مكلفون” بإنقاذ العالم من “الضلال”، ما يسهل توجيههم وانقيادهم التام للجماعة.
• باحث في الشريعة والقانون