استنهضني قلمي لأكتب عن قريتي ومسقط رأسي، قرية شبرقة بزهران، ذات الجمال والجبال الشاهقة التي تحتضن قلعة البطل عصيدان بن محمد -رحمه الله-، تلك القلعة التي أخرجت لنا تاريخًا يربو على (مئتي عام) تحطمت عليه أطماع دولة بني عثمان التركية إبان غزوها زهران وغامد. كتبت هذه القلعة تاريخًا يُشهد للأجيال من بعدهم أن أجدادهم كانوا حماةً للديار وبغاةً على العداء الأشرار.
نعم، قرية شبرقة صفحات من الحضارة والتاريخ، أنجبت النجباء وبرز منها قادة عظماء، ولا تزال تلك القرية ولّادةً للمبدعين، فقد خرج منها في الحاضر أساتذة جامعات، وقضاة، ورتب عسكرية عالية (ألوية وعمداء)، ومهندسون، وأطباء، وطلاب علم، ومعلمون، ومديرو إدارات حكومية، ورجال إعلام، ومؤرخون، وكتّاب. القرية تزخر بلوحة فنية جميلة ذات مواهب متعددة، وهي مركز مشيخة قبيلة بني حسن بزهران.
وكان قدر هذه القرية أن انطلقت منها شرارة المعركة مع جنود الباشا، وبدأت فصولها من أعلى جبل البراقة. وكان العثمانيون على يقين أن مركز القيادة في هذه القرية، وأنه متى استطاعوا حصار حصونها والقبض على رموزها، ستكون لهم المنعة والغلبة، ليبسطوا هيمنتهم وكبرياء الأتراك آنذاك، ويستعبدوا الناس. لكن مشيئة الله شاءت أن تبقى هذه القرية وحصونها ورجالات زهران عصيّة، وصخرةً تتحطم عليها الأطماع العثمانية.
لم يخطر ببال القائد عصيدان الزهراني أن حصنه سيكون يومًا ما شاهدًا للتاريخ، وأن العلم السعودي سيرفرف فوقه، ليصبح حصنه معلمًا تراثيًا بمنطقة الباحة، ويكون مقصدًا للسائحين والزوار. القائد عصيدان ابن محمد عمل هو ورجاله بإخلاص وتفانٍ، حبًا لوطنه ودفاعًا عن أرضه وعرضه. وكانت ثمرة إخلاصه أن يبقى مجده شاهدًا بين الحاضر والماضي.
وفي شهر ربيع الآخر من العام 1446هـ، تم تدشين قلعة عصيدان بحضور عدد من المسؤولين وأهالي قرية شبرقة، يتقدمهم شيخ قبيلة بني حسن، الشيخ مبارك بن منسي بن عصيدان، في حفل بهيج تخلله حفل خطابي، ثم العرضة الشعبية، ومشاركة فرقة الباحة للمشاة في فعالية “امشي من أجل صحتي”، التي بدأت من حصن آل عصيدان إلى شلال وادي العشيماء، برعاية من إمارة منطقة الباحة وتوجيهات من قائد التنمية بالمنطقة، الأمير الدكتور حسام بن سعود.
وتساءل الكاتب: ماذا لو حضر التدشين أحد المشاركين في صد عدوان جيش الباشا؟! قطعًا ستدمع عيناه وهو يتذكر القائد عصيدان ورجالات زهران على شعاف جبال قرية شبرقة، يترقبون الغزاة الأتراك ويتذكرون أحداث المجلس الاستشاري بالدور الثاني من هذا الحصن، حيث كان القائد يعبئ قادة الفرق التي عينهم في مواقع التماس والخطوط الأمامية، محذرًا إياهم من التراجع. كان الجميع يعلمون أن الإمبراطورية العثمانية تمتلك جيشًا مدربًا وسلاحًا متقدمًا وقادة عسكريين محنكين، لكنهم أبدوا ثباتًا وفداءً لأرضهم، وحفظوا وصية قائدهم، وعلموا أن بين صفوفهم مخذلين ومندسين.
من يقرأ التاريخ يعرف أن معظم الحروب كانت تدار قبل وقوعها بزرع الجواسيس لبث الرعب والشائعات، في حين أن الناس كانوا في حاجة ماسّة للغذاء والكساء والمال، مما جعل المال التركي وسيلة لإغراء البعض. لكن القائد عصيدان -رحمه الله- ورجاله المقربين كانت الأرض والعرض والكرامة أغلى عليهم من أموال الدنيا. كان الإيمان الراسخ والإخلاص للقائد وإرهاب العدو حاضرًا في قلوبهم، فحملوا أرواحهم على أكفهم، متوكلين على الله.
لم تكن هناك وكالات أنباء عالمية تلتقي القائد عصيدان ليخبرهم بسلاحه المتطور، ولم يكن هناك وسائل إعلام محلية تجري لقاءات مع قادة المعركة، بل تم تأمين النساء والأطفال في أماكن آمنة بعيدة عن الخطر. كانت هناك السكينة، والسرية، والشجاعة، وحب الوطن، ولم تعنِهم كثرة الأعداء، لأنهم يعلمون أن النصر من عند الله، وهذا هو سر نصر المسلمين على أعدائهم في كل زمان ومكان.
اليوم، في ظل حكومة خادم الحرمين الشريفين، بقيادة الملك سلمان بن عبدالعزيز (الدولة السعودية الثالثة)، استتب الأمن، ويعيش الناس في رغد العيش والولاء والطاعة للقيادة، وتمضي السعودية نحو مصاف الدول العظمى مع عرّاب رؤيتها 2030، ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.
ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله؛ نشكر رجل الأعمال الشيخ سعيد العنقري على دعمه السخي في تحسين وترميم قلعة عصيدان، فهو ليس بغريب عليه. كما نشكر وسائل الإعلام التي نقلت لنا الحدث والحديث عن حصن عصيدان.
رحم الله عصيدان بن محمد الزهراني ورجاله الذين تركوا بصمة للأجيال موسومة بقولهم: “وطنٌ لا نحميه لا نستحق الإقامة فيه.”
شكرا من القلب ياستاذ عثمان
تلك الحقبة مظلمة ولكننا بدأنا نونس نوراً بمثل مقالكم الكريم وبما يقوم به ابناء قرية شبرقة وبني حسن الرائعين
شكراً لتبديد هذه الظلمه