في رحلة عبر الزمن وصولاً إلى أعماق التجربة الأمنية السعودية، نلتقي اليوم بشخصية كرست حياتها لخدمة الوطن من خلال أروقة المؤسسة الأمنية، الذي ترعرع في الأطاولة بمنطقة الباحة، يحمل في طيات ذكرياته قصصًا من الإخلاص والتفاني. بعد مسيرة زاخرة بالعطاء استمرت أربعة عقود ونيف، شغل خلالها العديد من المناصب القيادية، وأسهم بفعالية في تطوير منظومة السجون بالرياض وعلى المستوى الوطني كأمين عام للجنة الوطنية لرعاية السجناء والمفرج عنهم وأسرهم، المعروفة بـ”تراحم”.
ضيفنا في الحلقة السابعة عشر من سلسلة زاوية مواقف ومذكرات أمنية عبر: صحيفة “مكة” الالكترونية سعادة العميد المتقاعد محمد عايض الزهراني مدير سجون منطقة الرياض سابقًا ، الذي يسرد لنا جوانب من حياته العملية والشخصية، ويشاركنا رؤاه حول التحديات والإنجازات التي شكلت مسيرته الحافلة بالأحداث.
– عرّف القراء على اسمك الكامل ومكان ولادتك ونشأتك وحياة الطفولة:
محمد عائض عبيدي الزهراني، ولدت وتربيت في الأطاولة بمنطقة الباحة حيث كانت الحياة بسيطة وخالية من تعقيدات الحضارة الحديثة، لا كهرباء ولا وسائل إعلام سوى الراديو، ولا اختناقات مرورية أو ضوضاء. كانت البيئة زراعية ورعوية تنعم بالهواء النقي وخيرات الأرض. ولا زلت حريصًا على قضاء أشهر الصيف فيها سنويًا.
– أين تلقيت تعليمك في جميع مراحلك الدراسية؟
تلقيت تعليمي الابتدائي والمتوسط في الأطاولة، وبما أنه لم يكن هناك تعليم ثانوي في تلك الفترة، فقد حصلت على الثانوية العامة القسم العلمي من ثانوية ثقيف بالطائف. بعدها، التحقت بكلية قوى الأمن الداخلي، المعروفة حاليًا بكلية الملك فهد الأمنية، وتخرجت في عام 1397 هجرية برتبة ملازم وحققت المركز الأول في دفعتي. لاحقًا، حصلت على الماجستير في العلوم الأمنية من جامعة نايف العربية، وشاركت في العديد من الدورات التدريبية المتخصصة داخل المملكة وخارجها.
– لماذا اتجهت للسلك العسكري؟
الانبهار الفطري بشخصية رجل الأمن ومهابته، وخاصة الضباط، هو الذي دفعني لاختيار هذا المجال. كما أن الإيمان بالدور العظيم لرجال الأمن في حماية أرواح الناس وأعراضهم وأموالهم كان دافعًا قويًا لي.
– أين قضيت خدمتك العسكرية؟
بعد التخرج، عملت لمدة سنة في قطاع المباحث العامة، ثم عدت إلى الكلية لأعمل في التدريس والتدريب لمدة 12 عامًا. كنت مدرسًا لمادة التحقيق الجنائي ومدربًا للمشاة. بعد ذلك، انتقلت إلى الأمن العام حيث عملت مديرًا لشؤون السجناء ومساعدًا ثم مديرًا لإدارة سجون منطقة الرياض. تقاعدت بعد خدمة دامت 42 عامًا، وتضمنت فترة عمل كمستشار بوزارة الداخلية وأمين عام للجنة الوطنية لرعاية السجناء والمفرج عنهم وأسرهم.
– ما هي أبرز المواقف التي مررت بها خلال خدمتك؟
المواقف الإنسانية كثيرة ومتنوعة، منها ما هو مؤلم ومنها ما هو مفرح، مثل رؤية السجين يلتقي بأسرته عند الإفراج عنه، وهي لحظات لا تُنسى. الأشد قسوة كانت لحظات إبلاغ المنفذ به حكم القتل وكتابته لوصيته قبل التنفيذ، تلك المواقف تركت أثرًا عميقًا في نفسي.
– كيف تنظر لتجربة الحج وما تعلمته منها؟
مشاركتي في مهام الحج ساهمت في تكوين خبرة عميقة في إدارة الحشود والتعامل مع الحجاج. الدولة سخرت إمكانيات هائلة لتسهيل الحج، مما أدى للتقليل من الظواهر السلبية التي كانت موجودة في السابق.
– عملت في العديد من المواقع وتوليت العديد من المهام والمسؤوليات. ماذا تعني لك هذه المراحل، وما الذي اكتسبته من كل مرحلة؟
بلا شك، اكتسبت الكثير من التجارب والخبرات والعلاقات الوظيفية والشخصية من المئات من منسوبي تلك الجهات، رؤساء ومرؤوسين. ما زلت على تواصل مع الكثير منهم وأعتز بما اكتسبته منهم وبزمالتهم.
– من خلال عملكم الأمني، لا بد من مصادفة بعض المواقف. ما هي أبرز المواقف التي لا زالت عالقة في الأذهان؟
المواقف كثيرة وخاصة في السجون، كلها مواقف إنسانية منها السعيد ومنها المؤلم الحزين. فمشاهدة فرحة السجين يوم إطلاق سراحه وفرحة أسرته التي تنتظره أمام بوابة السجن، وفرحة السجين بزيارة أسرته له وخاصة عند مشاهدة أطفاله، ودموع الفرح التي يذرفونها جميعًا ومظاهر السعادة على وجوههم هي أمور لا تُنسى. الأكثر سعادة هي عندما ننجح في إقناع أولياء الدم بالتنازل عن القصاص في ساحة التنفيذ، وقد حدث ذلك عدة مرات. لكن بالمقابل، توجد مواقف حزينة تركت في أنفسنا الألم والحزن، وخاصة مشهد السجين عند وصوله للمرة الأولى ومعاناته وهمه واكتئابه. والأشد قسوة وألمًا هي لحظة إبلاغ المنفذ به حكم القتل ثم لحظة كتابته لوصيته ثم لحظاته الأخيرة قبل التنفيذ، حيث يستمر حزننا لأيام فمن لا يرحم لا يُرحم.
– كيف ترى من يتعامل بالغلظة والشدة مع مرؤوسيه؟
العمل الأمني والعسكري بشكل عام يبنى على مبدأ الحزم وطاعة الرؤساء ما أطاعوا الله، وهي ضرورة لنجاح العمل. لكن إذا تجاوز الحزم الأنظمة ووصل إلى القسوة والغلظة أو التعسف في استخدام النظام والسلطة، فهو أمر منبوذ يؤثر سلبًا على أداء المرؤوسين ويحبط معنوياتهم، ويعرض من يمارسه للمساءلة التأديبية والعقاب.
– بماذا خرج العميد محمد من خدمته العسكرية؟
خرجت بتجارب حياتية أفادتني ولا زالت في نظرتي للحياة والآخرين وأساليب التعامل مع كل فئة، وخرجت برضا تام عن النفس ولم أندم على أي قرار بحمد الله. خرجت بمعرفة رجال أفذاذ ذوي خلق وكفاءة. يكفي أن تعلم أن دفعتي، وهي الدورة 33 من الخريجين، على تواصل دائم، للمقيمين بالرياض لقاء شهري بنادي منسوبي وزارة الداخلية ولقاء سنوي كل عام في منطقة جديدة يشارك به جميع زملاء الدفعة من جميع مناطق المملكة، وكذلك زملاء لنا من دولتي الإمارات وقطر الشقيقتين كانوا مبتعثين معنا. وقد كان ملتقانا في العام المنصرم في مدينة أبها وفي هذا العام سيكون بمشيئة الله في مدينة جازان ويستمر لثلاثة أيام. بدأت زمالة ثم صداقة ثم ترسخت أخوة ممتدة لأكثر من 50 عامًا، وهذا هو المكسب الحقيقي. نستذكر في اجتماعاتنا من فقدنا من أحبتنا كان عددنا 208 وقد انتقل إلى رحمة الله 43 زميلاً ندعو لهم بالرحمة والمغفرة وأن يجمعنا الله بهم في عليين. ونعمل حاليًا على مشروع بناء جامع يحمل اسم الدفعة ونشرك زملاءنا المتوفين في ثوابه.
– في ظل رؤية 2030، تم تمكين المرأة في خوض غمار العمل العسكري. كيف ترى هذه النقلة؟
لا شك أنهن شقائق الرجال وهناك ضرورة لوجودهن في شتى المجالات وخاصة في مجال التعامل مع النساء والأسر. خطوة رائعة وموفقة أثبتت نجاحها، فقد أصبح الوطن يحلق بجناحين.
– ماذا يقول العميد محمد عن النقد الإعلامي؟
هو وسيلة هامة لتصحيح المسار وتلافي الأخطاء، شريطة أن يكون نقدًا هادفًا وليس النقد لمجرد النقد وإحباط همم العاملين. يسعدني النقد الذي يحدد أوجه الخلل أو التقصير ويقترح الحلول في نفس الوقت.
– بعد أن حلقت بنا في أجواء العمل الأمني، كيف تقضي برنامجك اليومي بعد مسيرة (42) عامًا من العطاء؟
في الواقع، أن التقاعد فرصة لراحة البال وراحة الجسد. قد تكون رعاية الأسرة والأبناء وصلة الرحم والمشاركات الاجتماعية هي الأهم، كذلك التواصل مع الأصدقاء. بالنسبة لي، تعتبر العناية بالصحة أمرًا مهمًا وبطبيعة الحال، متابعة نبض المجتمع وأحداث الوطن والعالم جزء من برنامجي اليومي.
– بماذا تريد أن تختم هذا اللقاء؟
بتوجيه الشكر لكم شخصيًا ولصحيفتكم الغراء لإتاحة هذه الفرصة. آمل أن أكون ضيفًا خفيفًا على المتلقي وأن يجد في هذا اللقاء المتعة والفائدة. وفقكم الله لما يحب ويرضى.
أنعم وأكرم بسعادة العميد محمد بن عايض.رجل دولة وقامة علمية ووطنية وعسكرية شامخة،،خدم وطنه بإخلاص واتفان و توج مسيرته الإدارية والعسكرية،حيث ساهم في إثرائه بخبراته المتعددة في جميع المجالات.
شكرا للأستاذ حسن الصغير، على هذا الحوار الشيق،وعلى اختيار هذه الشخصية المتميزة…
بكل فخر واعتزاز، أود أن أتقدم بخالص التقدير والامتنان للعميد محمد الزهراني على قيادته الحكيمة وأسلوبه الفريد الذي يجسد قيم الشرف والمسؤولية. لقد أثبت العميد محمد، من خلال مسيرته المهنية والإنسانية، أنه ليس فقط نموذجًا يُحتذى به في مجال الأمن، بل أيضًا رمزًا للمكانة الاجتماعية الرفيعة التي تستند إلى العمل الجاد والإخلاص للوطن.
أسلوبه القيادي الذي يمزج بين الحزم والحكمة يعكس فهمًا عميقًا لطبيعة دوره في حماية المجتمع وبناء جسور الثقة بين رجل الأمن والمواطن. إن تفوقه في مجاله يعكس رؤية استثنائية وإصرارًا على تحقيق أعلى معايير الاحترافية، مما يجعله مثالاً مشرفًا لكل من يسعى لخدمة الوطن بصدق وإخلاص.
نفتخر برجلٍ كُتب اسمه بحروفٍ من ذهب في سجل القيادة والمسؤولية، ونسأل الله أن يبارك في جهوده، وأن يكون دائمًا في الطليعة، كما عهدناه، حاميًا للوطن وراعيًا لأمانه.