عام

مستقبل المنطقة في ظل رئاسة ترامب

من المبكر الحكم على ما سيقوم به الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب في الشرق الأوسط، سواء على مستوى ترميم علاقات بلاده مع دول المنطقة التي ما زالت تعاني من آثار سياسة “الفوضى الخلاقة” التي تحولت بسببها إلى “فوضى عارمة”، وعرفت بمسمى “الربيع العربي” في عام 2011 م، ونجت منها دول عربية راسخة الجذور وقوية التكوين، بكل ما تملك من حكمة قياداتها وتماسك أنظمتها وشعوبها، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، وبالتالي إعادة الأمان والسلام والاستقرار إلى أرجاء المنطقة، أو على مستوى تعزيز علاقات أمريكا الاستراتيجية مع دولنا وشعوبنا، والعمل على تطويرها وتنمية أوجه الشراكة المحورية معها، باعتبارها منطقه حيوية هامة، ليس فقط بالنسبة لأمريكا وإنما لكافة دول وشعوب العالم وعلى كافة الأصعدة والمستويات، وفي مقدمتها النواحي الاقتصادية ذات الأهمية البالغة والأمنية ذات الأبعاد الحيوية لمواجهه كافة الأخطار والتحديات المحتملة.

أقول إن الوقت مبكر على تصور ما سوف تأتي به إدارة ترامب، وإن كانت العديد من المعطيات وكذلك خبرة التجربة الرئاسية الأولى في عهد ترامب من عام 2017 وحتى 2021م، تشير إلى أن القادم سيكون أفضل وإن احتاج ذلك منا إلى المزيد من الصبر والحكمة والعمل المتواصل والتعاون البناء والإيجابي بين دول المنطقة كافة، لإحداث التغيير في بعض المواقف والسياسات التي كانت باستمرار وراء حالة الصراع وإشعال الحروب والأزمات والتوتر بين بعضنا البعض بدرجة أساسية، وبيننا وبين بعض دول العالم الأخرى من خارج الإقليم.

وما نتمناه الآن هو أن هذه النظرة المتفائلة تأتي بما هو متوقع منها، سواء على مستوى العلاقات الثنائية بين بلدينا، المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية، أو بين أمريكا ودول المنطقة كافة، فعلى مستوى العلاقات الثنائية فإن اتصال سمو ولي العهد، رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان، بفخامة الرئيس الأمريكي المنتخب ترامب، وتهنئته بالفوز في الانتخابات، وما سمعه سموه من الرئيس القادم إلى البيت الأبيض من تمنيات صادقة لخادم الحرمين الشريفين، وتقدير عظيم لجهود سموه المكثفة في الحفاظ على مستوى الشراكة العضوية بين البلدين، وتطويرها إلى أعلى المستويات.. أقول إن هذا الاتصال وما عبر عنه ترامب من مشاعر خاصه تجاه المملكة وقياداتها وشعبها، وكذلك حديث فخامته إلى قناة العربية قبل ظهور نتائج الانتخابات، وثناؤه على خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان وولي عهده الأمين محمد بن سلمان، يؤكد على ثقل وأهمية مكانة المملكة لدى أمريكا وعند الرئيس ترامب على وجه التحديد، وذلك يعني أن العلاقات السعودية الأمريكية في الفترة القادمة سوف تشهد إن شاء الله تعالى أزهى عصورها وعلى كافة الأصعدة، الأمنية والسياسية والاقتصادية، لوجود قواسم عظمى كثيرة بيننا وبين أمريكا من جهة، وكذلك لترابط مصالحنا ولأهمية تقويتها إلى أعلى مستوى.

أما بالنسبة للإقليم، فإن الرئيس الأمريكي المنتخب ترامب، فوق إدراكه لأهمية المنطقة عند أمريكا من الناحيتين الاقتصادية والأمنية من جهة، ولقناعته بأن إقرار السلام والأمان والاستقرار في العالم يشكل ضرورة حيوية بدلا من الحروب والصراعات واستنزاف القدرات والطاقات والمقدرات، فإن المستقبل في ظل إدارته سوف يكون أفضل، وإن تطلب ذلك من بعض دول المنطقة جهودا مكثفة ومراجعة جادة لبعض سياساتها، حتى تتهيأ الأرضية لإرساء قواعد سلام كامل وشامل، يبدأ بإقرار حقوق الفلسطينيين المشروعة في إقامة دولتهم المستقلة على أراضي ما قبل 5 يونيو 1967م، وعاصمتها القدس الشرقية، وأن تنال مقعدها في الأمم المتحدة كدولة كاملة العضوية، وانتهاء بتنفيذ كافة بنود حل الدولتين.

وفي هذا الصدد، فإن المملكة بما تبذله من جهود مكثفة وخلاقة في هذا الاتجاه البناء، تدرك أن عليها أن تواصل جهودها المؤثرة لحشد جهود الأمتين العربية والإسلامية، كما حدث في القمة الأولى في 11 نوفمبر 2023م، وكذلك قمه الرياض الثانية في نفس التاريخ من هذا العام، ونجاحها في إقامة التحالف الدولي الذي اجتمعت دوله بالرياض بتاريخ 30 أكتوبر 2024م، والذي شكل انطلاقة فاعلة على صعيد التحرك دوليا، وضم المزيد من الدول الأعضاء بالأمم المتحدة إلى هذا التحالف، وبما يوفر أسباب الاعتراف بالدولة الفلسطينية وبداية مرحلة جديدة من صناعه المستقبل الأفضل لمنطقة عانت كثيرا من فقدان الأمان والسلام حتى نصل إلى ما فيه خير الجميع.

وبالتأكيد فإن هذا الحراك الذي تقوده المملكة بقوة وبصبر وجدية، إذا تزامن معه جهد أمريكي فعال، سوف يحقق ما هو مطلوب وفي الوقت المناسب، وعلى الجانب الأمريكي فإن الرئيس المنتخب لم يتأخر في جعل قضايا المنطقة في مقدمة أولوياته، على عكس ما كان متوقعا بأن تشغله القضايا الداخلية كأولوية مطلقة، فهو في الوقت الذي بادر باختيار عناصر إدارته الرئيسية للتعامل مع قضايا الهجرة والوضع الاقتصادي والأمن القومي لبلاده، فإنه لم يتأخر عن اختيار ممثليه في الشرق الأوسط ومندوبة أمريكا في الأمم المتحدة وسفيرها في إسرائيل، وذلك يعني أمرين هامين للغاية، هما:
أولا: أن الرئيس ترامب ينظر إلى المنطقة وأوضاعها على أنها أولوية مطلقة، وأنه حريص على تحقيق إنجاز مبكر في العملية السلمية، وتوجيه رسالة إلى العالم بأن عنصر الوقت مهم بالنسبة لخطط وبرامج إدارته، وأن إرساء قواعد السلام في المنطقة هو بداية مهمة لحل قضايا الصراع بين روسيا وأوكرانيا وإيقاف التوتر بين أمريكا والصين، تمهيدا لتعاون مشترك بين الدولتين الكبيرتين.
ثانيا: أن العالم يحتاج إلى تنمية موارده وتعظيم قدراته وطاقاته بدلا من استنزافها، وأن الاقتصاد يستحق من دول العالم وهيئاته ومنظماته وشعوبه مضاعفة التعاون في مجالاته المختلفة بدلا من استنزاف مقدراتها في الحروب والصراعات والأزمات، وأن لكل شيء ثمناً، وأن من حق بلاده أن تعيد تقييم أوضاع شراكاتها الخارجية مع دول العالم ومنظماته على هذا الأساس، وذلك يبدأ بتعامل بلاده مع دول الاتحاد الأوروبي ومرورا بتعاملاتها مع روسيا والصين وبقيه دول العالم الأخرى، ولاسيما الدول التي تمتلك مفاتيح اقتصاد العالم وموارده الطبيعية ومخزوناته الاستراتيجية.

وفي هذا الصدد، فإن إدارته ستعني كثيرا بمراجعة سياسات بلاده تجاه قضايا المناخ، وذلك بتعزيز مكانة الثروات الطبيعية وفي مقدمتها البترول والغاز، إلى جانب سعيها إلى ضمان قيام تجارة دولية نشطة وإزالة كل الأسباب المعيقة لحركة الملاحة في كافة ممرات العالم، وفي مقدمتها البحر الأحمر وخليج باب المندب والخليج العربي، وذلك ينطوي على توجه جاد ستكون له آثاره الإيجابية على مداخل ومخارج وممرات التجارة الحيوية والمنطقة، بما فيها البحر الأبيض المتوسط بكل انعكاسات هذه السياسات على اقتصادات دول العالم وممراته ومراكز الثقل الحيوية فيه ومنها قناه السويس، وفي ذلك مصلحة حقيقية ليس فقط لدول المنطقة وأمريكا وإنما لكافة دول العالم.

وفي المقابل، فإن الرئيس ترامب يريد بهذه السياسات والتوجهات أن يقول لدول المنطقة، أن سياسات البؤر والمحاور لابد أن تنتهي لإرساء قواعد الأمن والسلام والاستقرار الشامل بالمنطقة، وتعزيز سياسة بناء وتنمية المصالح بين الجميع، وإذا نجحت هذه السياسات فإن الوضع المتوتر داخل دول المنطقة وبين إيران وأمريكا وتركيا وكل من العراق وسوريا وليبيا، سوف يتحول إلى هدوء تنصرف معه دول المنطقة ومن ورائها دول العالم إلى الازدهار المنشود بدلا من الحروب والأزمات والصراعات التي أنهكت الجميع.

لكن الأهم من كل ذلك هو أن يدرك الجميع أن الوقت مهم وأن عملية بناء الثقة بين بعض دول المنطقة وأمريكا تحتاج إلى المزيد من الجدية وإلى توافر إرادة العمل على توظيف الموارد لصناعة المستقبل الأفضل، وليس للإنفاق على مصادر إذكاء الصراعات بين الدول وإضاعة الوقت وإهدار الفرص المتاحة لتحقيق السلام، كمطلب حيوي وكأولوية مطلقة في المرحلة القادمة.

وأي حسابات أخرى ستشكل قراءة خاطئة للوضع برمته، وهو ما لا يجب أن يحدث، تجنبا لما قد يترتب على ذلك من تداعيات لا قبل لدول وشعوب المنطقة والعالم بها بعد اليوم.

د. هاشم عبده هاشم

عضو مجلس الشورى السابق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى