في ظل التصعيد الخطير في غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة وما تشهده من تطورات خطيرة وغير مسبوقة تهدد بمزيد من الإنفجارات والتوترات، واستمرار العدوان الإسرائيلي الذي يشمل الحصار والتدمير والتهجير والإبادة الجماعية والتعذيب والإعدام الميداني والإخفاء القسري والنهب، والتطهير العرقي، وإتّساع ذلك ليشمل لبنان في محاولة للمساس بسيادتها وسلامة أراضيها، وتداعياته الخطيرة الإقليمية والدولية التي تعصف بأمن المنطقة وإستقرارها؛ وفي حين تُقوِّض الحرب التي تحصد أرواح الأطفال والأبرياء الجهود والآمال الضئيلة في التوصل إلى سلام دائم بين فلسطين وإسرائيل؛ ورغم الضغوط والتحديات الراهنة؛ تؤكد المملكة العربية السعودية إصرارها على المُضِيّ قدماً في مساعيها وجهودها لتطبيق حل الدولتين وتحقيق سلام شامل وعادل وإلتزامها بمواقفها التاريخية الثابتة الداعمة للشعب الفلسطيني في سعيه لنيل حقوقه المشروعة، ممّا يخلق شعورًا بالأمل والتضامن، رغم الدمار والقتل، في مواجهة الإحتلال ومن يخطط لمحو الحق الفلسطيني.
في هذا السياق عُقدت القمة العربية الإسلامية غير العادية الثانية المشتركة بين دول جامعة الدول العربية ودول منظمة التعاون الاسلامي، في 11 نوفمبر 2024 بمدينة الرياض بتوجيه كريم من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وبرئاسة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز ولي العهد رئيس مجلس الوزراء -حفظهما الله- وبمشاركة قادة الدول العربية والإسلامية الشقيقة لبحث إيقاف العدوان وسبل حماية المدنيين ودعم الشعبين الفلسطيني واللبناني الشقيقين، وخاصّة لتوحيد مواقف الدول العربية والإسلامية في القضايا الدولية والإقليمية الحساسة والضغط على المجتمع الدولي للتحرك بجدية لإيقاف الإعتداءات المستمرة وإيجاد حلول مستدامة تضمن الإستقرار والسلام في المنطقة.
وتمثّل هذه القمة إمتداداً للقمم السابقة وخاصة منها القمة العربية الإسلامية المشتركة غير العادية التي إستضافتها الرياض في 11 نوفمبر 2023 وأصدرت قراراً ختامياً، شمل 31 بنداً لإدانة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، والجرائم التي يرتكبها الإحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية ودعم الشعب الفلسطيني، والضغط لوقف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وكسر الحصار المفروض عليه، وإدخال المساعدات الإنسانية، والتمسك بحل الدولتين ومبادرة السلام العربية. وتهدف القمة الأخيرة إلى متابعة نتائج وتوصيات القمة السابقة، ومواصلة جهود وقف إطلاق النار وتوفير الحماية الدولية للشعب الفلسطيني، ومساءلة الإحتلال الإسرائيلي وضمان إمتثاله للقانون الدولي، وتنفيذ حل الدولتين وقرارات الشرعية الدولية، وتسهيل إيصال المساعدات الإنسانية. وهي بذلك إمتدادًا للجهود الجبارة التي يقودها صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز ولي العهد رئيس مجلس الوزراء -حفظه الله- لتعزيز التضامن العربي والإسلامي. وبفضل رؤيته الحكيمة فقد ساهمت جهوده في خِدمة القضية الفلسطينية، والدفاع عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، ودعم لبنان في تحقيق الإستقرار السياسي والإقتصادي، في نقل هذه القضايا إلى المجتمع الدولي، وتصدّرها أجندة العالم وجداول أعمال المؤتمرات والقمم السياسية والملفات الرئيسية وجعلت منها قضايا إنسانية وحقوقية. وفي هذا الإطار يأتي هذا المقال ليقدم قراءة قانونية في مخرجات وأبعاد القمة العربية والإسلامية وليبرز الدور القيادي والريادي والمحوري الإقليمي والدولي للسعودية بقيادة خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين في دعم قضايا المنطقة وفي مقدّمتها القضية الفلسطينية، وبناء توافُق عربي وإسلامي يواكب التطورات الإقليمية والدولية.
ممّا لا شك فيه أنّ إنعقاد هذه القمة في الرياض في وقت حرج ومنعطف خطير تمر به الأمة العربية والإسلامية، في ظل الإعتداءات الإسرائيلية، بدعم أمريكي وغربي لا محدود؛ يحمل أهميّة كبيرة وقيمة إستراتيجية. فإضافة لما تؤكده هذه المبادرة من أهميّة العمل العربي والإسلامي المشترك، ودوره في تحقيق الوحدة والتضامن وتنسيق المواقف، والتعبير عن الصوت الجماعي للدول الأعضاء، وتعزيز جهودها المشتركة في المحافل الدولية؛ قصد استنهاض مسؤولية المجتمع الدولي تجاه وقف العدوان الإسرائيلي الجاري، وإدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، ومساءلة الإحتلال الإسرائيلي عن جرائمه ضد الإنسانية، وكذلك تنفيذ حل الدولتين؛ فإنّها تعكس خاصّة أخذ السعودية، الدولة المستضيفة، بزمام المبادرة في تشكيل موقف موحَّد على مستوى العالم العربي والإسلامي حيال التصعيد الخطير الذي تشهده الأراضي الفلسطينية المحتلة ولبنان، وإهتمامها وإلتزامها الثابت إلى جانب جميع الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية، تجاه مساندة الشعب الفلسطيني والدفاع عن حقوقه المشروعة. كما تؤكّد مصداقية وإستمرارية مواقف المملكة الراسخة تجاه القضية الفلسطينية والقضايا العربية، حيث لا تمثّل هذه القمّة مجرد إستجابة للأحداث الراهنة، بل تُعبِّر عن إلتزام السعودية التاريخي والمبدئي بدعم وخدمة الإسلام والمسلمين والدفاع عن قضاياهم، وإستشعاراً بمسؤوليتها تجاه القضايا العربية والإسلامية عامة والقضية الفلسطينية خاصة، وإيمانها العميق بأهمية العمل العربي والإسلامي المشترك كركيزة أساسية لحل القضايا والأزمات المتفاقمة.
وتُعدّ المملكة أكبر داعم تاريخي للقضية الفلسطينية عربيًا وعالميًا، حيث لعبت ولا تزال دورًا محوريًا فعالاً ومتواصلا في تعزيز صمود الشعب الفلسطيني وخصّصت جزءاً هامّاً من جهودها الدبلوماسية والمادية والعسكرية لحلّ وخدمة هذه القضيّة خلال كامل المنعطفات التاريخية مُنذ ثلاثينات القرن الماضي في عهد الملك عبد العزيز – طيب الله ثراه- الذي رفض كل الإغراءات البريطانية للتخلي عن دعمه للفلسطينيين وجميع أبنائه الملوك من بعده حتى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وسمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان حيث قامت المملكة بدعم، ومساندة القضية الفلسطينية في مختلف مراحلها وعلى جميع الأصعدة السياسية، والإنسانية والإقتصادية، والإجتماعية، والصحية. وهو ما يبرز من الكلمات التاريخية لسمو سيدي ولي العهد -حفظه الله- خلال القمة التي شدّدت على “إدانة المملكة ورفضها القاطع للإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني الشقيق”، وأكدت أنّ “المملكة تشجب منع وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) من الأعمال الإغاثية في الأراضي الفلسطينية، وإعاقة عمل المنظمات الإنسانية.” كما أكدت “إدانته العميقة للعمليات العسكرية الإسرائيلية التي استهدفت الأراضي اللبنانية”، “ووقوف المملكة إلى جانب الأشقاء في فلسطين ولبنان لتجاوز التبعات الإنسانية الكارثية للعدوان الإسرائيلي المتواصل”؛ ودعوة “المجتمع الدولي للنهوض بمسؤولياته لحفظ الأمن والسلم الدوليين بالوقف الفوري للاعتداءات الإسرائيلية على الأشقاء في فلسطين ولبنان، وإلزام إسرائيل باحترام سيادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية الشقيقة وعدم الاعتداء على أراضيها.”
وقد أثمرت الجهود الدبلوماسية السعودية مع عدد من الدول العربية والإسلامية عن إعتراف دول عدة بالدولة الفلسطينية، ومنها دول بربادوس وجامايكا وترينيداد وتوباجو وجزر البهاما وإسبانيا والنرويج وأيرلندا وسلوفينيا وأرمينيا. كما تمكنت السعودية من حشد للإجماع الدولي لدعم حقوق الشعب الفلسطيني الذي عبرت عنه قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة بإعتبار فلسطين مؤهلة للعضوية الكاملة للأمم المتحدة، والمطالبة بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي غير المشروع للأراضي الفلسطينية، وأطلقت المملكة بالشراكة مع الإتّحاد الأوروبي والنرويج التحالف الدولي لتنفيذ حل الدولتين، بما يتماشى مع القانون الدولي والمعايير المتفق عليها، بما في ذلك قرارات مجلس الأمن.
وتتويجًا لجهود المملكة؛ فقد نجحت القمة في إصدار عدّة قرارات قويّة وفاعلة تضمّنها بيانها الختامي حول ضرورة وقف العنف والتصعيد في غزة ولبنان والإعتراف بدولة فلسطين والعمل على تجميد مشاركة إسرائيل في أنشطة الأمم المتحدة. وطالب البيان كافة الدول بحظر تصدير الأسلحة لإسرائيل، بجانب إدانة قرار الكنيست الإسرائيلي سحب حصانة الأونروا، داعياً المجتمع الدولي لتنفيذ جميع مضامين الرأي الإستشاري لمحكمة العدل الدولية نحو إنهاء الإحتلال الإسرائيلي وإزالة آثاره، ودفع التعويضات عن أضراره، في أسرع وقت ممكن. كما رفض البيان الختامي تهجير المواطنين الفلسطينيين داخل أرضهم أو إلى خارجها، بإعتبارها جريمة حرب وخرقا صارخا للقانون الدولي، كما أدان سياسة العقاب الجماعي التي تنتهجها إسرائيل واستخدام الحصار والتجويع سلاحاً ضد المدنيين في قطاع غزة.
وفي ضوء ما تقدّم يتَضح أنّ القمّة حملت رسائل حاسمة وقوية، تعكس الموقف العربي والإسلامي الموحَّد الرافض للعدوان والإنتهاكات الإسرائيلية المستمرة. كما توصلت إلى قرارات هامّة من شأنها الضغط على المجتمع الدولي والدول المؤثرة، خاصة منها الدول الأعضاء الدائمين بمجلس الأمن لتفعيل دور المجلس، وإيجاد حلول سلمية واتخاذ كافة الإجراءات وفقاً للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، لمحاسبة الإحتلال الإسرائيلي على ما يقوم به من انتهاكات سافرة وجرائم ضد الإنسانية في الضفة الغربية وغزة والقدس، وأيضاً في لبنان وسوريا. ولعل إصدار المحكمة الجنائية الدولية (ICC)، وبعد أيام قليلة من قمة الرياض قراراً طال إنتظاره، يقضي بإعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، بتهمة إرتكاب جرائم حرب ضد الشعب الفلسطيني، يمثّل إستجابةً لهذه الضغوطات وخطوة قد تُعيد تشكيل مفهوم العدالة الدولية وتجدّد الثقة والأمل في إمكانية إنصاف الشعوب المضطهدة عبر الآليات الدولية.
وفي الختام، فإنّنا وإذ نفخر ونعتز بما تقوم به السعودية العظمى من مساعي حثيثة ومحوريّة وجهود جبَّارة في الدفاع عن الحقوق الفلسطينية والعربية والإسلامية بثبات وإستمرارية وإعتدال ومصداقية، من منطلق أصالتها العربية والإسلامية، وعملاً بقيمها ومبادئها السامية وبما يتماشى مع قواعد ومبادئ القانون الدولي؛ نؤكد على أهميّة الموقف العربي والإسلامي الموحد في المساعدة على الوصول لحلول لأزمات المنطقة وضرورة دعم التكتل الدولي الذي تقوده السعودية مع شركائها العرب والأوروبيين للضغط على إسرائيل للدخول في تسوية سلمية شاملة مبنية على القرارات الدولية كضمانة أساسية لإنهاء الصراع. كما نؤكد أنّ المملكة، وانطلاقاً من مواقفها الثابتة والواضحة وغير القابلة للتأويل ستستمر، بفضل جهود قائد السلام والإنسانية صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء ودعم خادم الحرمين الشريفين -حفظهما الله- وبكل ما أوتيت من مقوّمات وإمكانيات وما تتمتّع به من قوّة دبلوماسية وتأثير وثقة ومكانة عالمية وثقل إستراتيجي وسياسي إقليمي ودولي بالوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني لينال حقوقه المشروعة، وبالعمل لإيجاد حلّ عادل ودائم للصراع يتم فيه تجسيد حلّ الدولتين وقيام الدولة الفلسطينية المستقلّة ذات السيادة على حدود 1967وعاصمتها القدس الشرقية، وفقاً لقرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية.
ونسأل الله تعالى أن يعزّز وحدة العمل بين الدول الإسلامية والثقة والتعاون بين دول العالم أجمع من أجل وقف الحروب ورفع المعاناة وبناء مستقبل أفضل لجميع شعوب العالم.
• أستاذ القانون الدولي المشارك، بجامعة جدة
•رئيس قسم القانون العام، ووكيل الكلية للتطوير والتنمية المستدامة سابقاً