“ليس هناك حقائق، بل هناك تأويلات”يبدو أن نيتشه قد آمن حقًا بصلاحية التّنوع من خلال تقرير التّأويلات الّتي لا تعتمد على حقيقةٍ واحدة، وبهذا تنعدم الحقيقة المطلقة أمام تيار الاختلاف، وتأتي التّفسيرات المتعددة فتشكل حقائق متعددة بدلاً من حقيقةٍ واحدة، هنا يكمن سبيلنا الأول نحو تحقيق منهجيةٍ لإصلاح الكون والحياة، وبما أنَّ هذه المنهجية تبدأ بالاختلاف؛ فالتّقبل ينبع منه، إذ لا يقوم التّقبل إلا بوجود الاختلاف. وهنا تنشط الفطرة السّليمة في تحقيق التّعارف والتّمازج، وتفعيله في زحام الأفكار والمعتقدات ووجهات النّظر بين الأفراد والمجتمعات.
يمنحنا التّنوع سلمًا نحو التّعددية، الّتي تنتج عن خلفياتٍ ثقافية، وتجارب شخصية، وتربيةٍ وتعليم، ومجالاتِ عملٍ متنوعة، مما يؤدي إلى ظهور مجموعةٍ غنيةٍ من الأفكار، ووجهات النّظر الّتي تُضيف إلى فهمنا للعالم شكلًا جديدًا وتصوّرًا آخر يُمهد الطّريق نحو الرّيادة، والمعرفة، والسّمو الحضاري.
التّنوع ليس مجرد تباينٍ في الأفكار، بل هو عاملٌ أساسيٌ يُسهم في تطور المجتمعات وتقدمها، حيث يمنح النّاس فرصةً لرؤية الأمور من زوايا متعددة، ويوفر بيئةً خصبةً للتّفكير النّقدي والإبداعي وتحفيز الابتكار نحو أفكارٍ جديدةٍ وحلولٍ أكثر جرأةً وحداثة، حيث يمكن للآراء المختلفة أن تندمج لتشكّل رؤى أكثر إبداعًا وإنتاجية. فالأفراد الّذين يحملون خلفياتٍ وتصوراتٍ فكريةً متنوعة يمكنهم الوصول إلى أفكارٍ لا يمكن الوصول إليها بالتّفكير الواحد.
يعزز التّنوع قاعدة التّشكيك في كلّ شيء، وتحدّي الافتراضات ومناقشتها؛ فعندما تتعرض الأفكار لوجهات نظرٍ متنوعة، يضطر الأفراد إلى النّظر في الأدلة والتّفكير بعمقٍ قبل إصدار الأحكام. وهذا، بحد ذاته، حصيلةٌ تستحق الجهد والبحث. كيف وقد تعاضد معها تحقيق التّفاهم والانسجام وبناء جسور الاحترام المتبادل بين أفراد المجتمع مما يقلل من فرص النّزاعات وأشكال الحروب المتنوعة.
يدفع التّنوع رواده نحو التّكيف مع المتغيرات. فعلى الصّعيد الشّخصي، يصبح الفرد نقطةً للتّطور بلا تكلف. وعلى صعيد المجتمعات، يشكّل أرضيةً خصبةً للوعي المجتمعي المنشود والّذي بدوره يساهم في بناء الحضارات وفق الأساس الكوني تحت مبدأ الشّراكة نحو البناء.
في مجتمعاتنا العربية، كما في غيرها، يمثّل التّعصب وقلة الفهم وضعف التّواصل سببًا في ضعف التّنوع، مما يقوّض النّتائج المرجوة منه. إذا استطعنا أن ننبذ التّعصب بكافة أشكاله ونفتح نافذةً لقبول الآخر تحت أيِّ صفةٍ أو بند، فقد نتجاوز التّحديات المعيقة، ونحقق ما ندعو إليه من نسخةٍ مُحسّنةٍ شاملةٍ من تعارفٍ يُفضي للقبول، وقبولٍ يُفضي للتّقبّل، وتقبّلٍ يوصلنا للحكمة أيّاً كان مصدرها.
ختامًا. التّنوع الفكري ليس مجرد اختلافٍ في الأفكار؛ بل دعوةً تتبنى الاحترام المطلق والوقوف على تلك الاختلافات بعين (فرصة للتّعاطي) والاستفادة، وحينها سيكون ترياق العافية لكلّ أمةٍ أرهقها مرض التّخلف وأرّقتها حياة الظّل.