في عام 1353هـ، في مكه المكرمة تحديداً الابطح كما يعرف الان بحي المعابدة شمال شرق المسجد الحرام الذي يعج بروحانية المكان وعبق التاريخ، ولد مسفر الذي كُتب له أن يكون نموذجًا للعطاء والخدمة في مجتمعه. نشأ يتيم الابوين في بيئة أصيلة تعكس قيم مكة وعراقة أهلها، وتلقى تعليمه الأول في مدرسة المحمدية الابتدائية، حيث بدأت تتضح ملامح شخصيته التي اتسمت بالإخلاص والاجتهاد وحب الخير و مساعدة الاخرين .
“العبود” بدأ مسيرته المهنية في خدمة مشروع تاريخي عظيم. حيث عمل في مشروع إدارة عين زبيدة، ذلك المورد المائي التاريخي الذي أُعيد إحياؤه بأمر من الملك عبدالعزيز – طيب الله ثراه – ليعود شرياناً يروي أحياء مكة المكرمة. كان الشيخ مسفر يعمل في ادارة العين والآبار التابعة لها، ويتابع أعمال الترميم لضمان تدفق المياه عبر مجارٍ صغيرة إلى كل حي وزقاق، متحملًا هذه المسؤولية بكل إخلاص واهتمام، ليكون رمزًا للتفاني في خدمة المجتمع.
لم تقتصر حياته المهنية (رحمه الله) على هذا العمل، بل انتقل إلى مجال التعليم، حيث شغل مناصب مؤثرة، منها العمل في أول كلية للشريعة والدراسات الإسلامية في المملكة (اول تعليم جامعي في المملكة)، التي أصبحت لاحقاً جزءًا من جامعة الملك عبدالعزيزشطر مكه. ثم تولى إدارة معهد اللغة العربية في جامعة أم القرى، حيث ساهم في تطوير المعهد وترسيخ مكانة اللغة العربية كلغة عالمية ذات عمق ثقافي وحضاري. خلال هذه المراحل، ترك بصماته في تطوير التعليم وتخريج أجيال مثقفة ومؤهلة لخدمة الوطن.
بعد تقاعده في عام 1416هـ، كان التقاعد بالنسبة له بداية لفصل جديد من العطاء. اختار الشيخ مسفر أن يكون قريباً من الناس، متلمساً احتياجاتهم، ومكرساً جهوده لخدمة المجتمع بصمت وإخلاص.
اتجه الشيخ “مسفر العبود” إلى العمل في بيع وشراء الأراضي وتطويرها، وتأجيرها، وبناء المشاريع العقارية، حيث كان لهذا القطاع دور بارز في تحقيق الاستقرار للعديد من الأسر وتحسين جودة حياتهم، تعامل مع هذا المجال بحس إنساني ومهني، فكان يبني ويرتب أمور العقارات بأمانة ونزاهة، مما أكسبه ثقة من تعاملوا معه.
ظل الشيخ “مسفر” مخلصاً لرسالة الخير التي حملها طوال حياته. عمل على بناء المساجد وترميمها، مؤمناً بأنها صدقة جارية تحمل أجراً يمتد إلى ما بعد الحياة. لم يتوقف عطاؤه عند ذلك، بل امتد ليشمل مساعدة الأسر المحتاجة، ودعم الأرامل والأيتام، وتقديم العون للطلاب لاستكمال تعليمهم. كثيرون لم يعلموا حجم أعماله الخيرية إلا بعد وفاته، حيث ظهرت قصص تروي كيف كان يسدد ديون المحتاجين، ويوفر المأوى للضعفاء، ويدخل السرور على بيوتٍ لم تتوقع أن تجد يداً تمتد إليها في صمت. كان يرفض الحديث عن أفعاله، معتبراً أنها بينه وبين الله، ليترك أثراً خالداً لا يُمحى.
قصص إنسانية مؤثرة ظهرت بعد رحيله -رحمه الله- ، تكشف عن رجولة أصيلة وكرم نادر. أسر بأكملها تحدثت عن دعمه لها في أصعب الظروف، وشباب أصبحوا اليوم أعمدة في مجتمعهم بفضل دعمه الخفي لهم. لقد عاش الشيخ مسفر العبود ليجسد قيم البذل والعطاء التي تُعرَف بها رجالات هذا الوطن.
هكذا هم أبناء هذا الوطن المبارك، رجال يعيشون ليبنوا، ويمنحوا الأمل، ويتركون إرثًا من الخير للأجيال القادمة. لقد كان الشيخ مسفر رمزًا للوفاء والتفاني، نموذجًا يُحتذى به، وذكرى باقية في قلوب من عرفوه وأحبوه؛ رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.وانا لله وانا اليه راجعون ..