المقالات

«الشاعرةُ والطيف النُّوراني» تأملات في معزوفة الشاعرة الدكتورة/أفراح مؤذنة

تقديم :
علاقة الشعراءوالشاعرات بطيف الخيال علاقة عميقة وطيدة ضاربةٌ في جذور التاريخ الشعري.
وقد تجلَّت الحفاوة به والتشبث بخطراته السرابية ومواعيده النديَّة اللاهية
في العديد من التجارب الوجدانية القديمة النَّابضة بالحياة كتجارب الشريف الرضي وابن المعتز وأبي تمام والطغرَّائي وغيرهم.
ويعدُّ الشاعر البحتري أكثر هؤلاء الشعراء استنهاضاً لفكرة الطيف واستثماراً لدلالاته المعنوية والحسيَّة حتى أطلق عليه بعضهم :«شاعر الطيف والخيال».
ويحسن بنا قبل المُضيِّ في معايشة نص الشاعرة هنا أن نشير إشارات خاطفة لدلالة “الطيف” عند بعض أساطين اللغة القدماء ممن بسطوا الحديث عنه كما في السطورالتالية:
جاء في كتاب العين للخيل بن أحمد الفراهيدي أنَّ الطيف: هو «كل شي‌ء يغشی البصر من وسواس الشيطان فهو طيف وما في الأشعار من الطيف نحوقوله: «أرّقنی زائرُ طيف أرقا» يعني أنّه يری خيالها في منامه فذلك طيفها».
ولإمام اللغة “الأزهري” صاحب كتاب «تهذيب اللغة» تفسير تكتنفه الغرابة ولايتساوق في اعتقادي مع مرامي الشعراء وتصوراتهم النَّاعمة للأطياف الهائمة الناقلة إليهم رسائل الأحبة
أنقله هنا في مقام اتِّساع المعنى ليس إلَّا إذ يقول:
«إنّ الطيف في كلام العرب هوالجنون، وكذلك قيل للغضب طيف، لأنَّ عقل من غضب يعزب حتی يتصور في صورة المجنون الذي زال عقله».
وللإمام «ابن حزم الأندلسي» في كتابه “طوق الحمامة” إشارات ألمعية عن الطيف على قدر عال من الأهمية إذ يقول تحت عنوان «القنوع»:
«لابدّ للمحبّ ، إذا حُرم الوصل، ‌من القنوع بما يجد!
وإنّ في ذلك لمتعللاً للنفس، وشغلاً للرجاء ، ‌وتجديداً للمنی، وبعض الراحة»
إلى أن يقول:«ومن القنوع الرضا
«مزار الطيف»، وتسليم الخيال
وهذا إنما يحدث عن ذكرٍ لا يفارق، ‌وعهدٍ لا يحول وفكرٍ لا ينقضي. فإذا نامت العيونُ وهدأت الحركاتُ سری الطيف»
وتجدر الإشارة إلى أنَّ السيد الشريف المرتضي: علي بن الحسن أخ الشاعر المعروف بالشريف الرَّضي أفرد كتاباً مستقلَّاً أطلق عليه «طيف الخيال» ، تناول فيه ورود ذِكْر الطيف في نصوص العديد من شعراء العربية الكبار.
والذي لاخلاف عليه أنَّ طيف الخيال هو :ما يراه النائم فيما يعرف «بالأحلام المنامية» وفيها يلتقي الشعراء العشاق محبوباتهم بمعزل عن عيون الرُّقباء والوشاة ومن إليهم،يتطارحون أثناءها أحاديث الغرام وعذابات الوجد والهيام وشكاوى البين
هذه المرحلة التي يأتلق فيها الطيف يصفها بعض الباحثين بقوله: «حالة برزخية بين عالم الیقين وعالم الرؤيا».
ولله الشاعر الذي يقول:
لـو كنتُ آملُ أن ألقاكِ في الحُلمُ
لمـا قَرعـتُ عليـك السـِّنَّ من نَدمِ

يَحمــي وصـالكَ أعـداءُ لهـم رَصـَدٌ
ويصـرفُ الطَّيـفَ أنِّـي بـتُّ لم أنَم!

يـا مُرسـلاً سـَهْمَ عينيـه ليقتُلنَي
من ذا أباحَ لذاك اللحظِ سفكَ دمي
__________________________
عرض النص:

لمحتُ طيفكَ في الآفاق مُنسدلا
طهراً ومن قبساتِ الشوق مكتحلا!

وسورةُ النورِ في عينيكَ تقرؤني
وتوقظ الغيمَ و الأشواقَ والمُقلا

أراكَ كالوحي قد نُزِّلتَ في قَدَرٍ
ضوءاً على قسمات الوجه مكتملا!

أنرتَ روحي إيماناً ومغفرةً
والقلب يخشع إن ناديتَ ممتثلا!

يازائرَ الليل هل حلمٌ نحققه
فالحلم مازال في العينين متصلا!
__________________________
جوُّ النص :
تستهلّ الشاعرة نصَّها الخُماسي المكثف هذا بالحديث عن طيفٍ معين يحتلّ لديها مكانةً وجدانيةً عالية معتمدةً على الفعل الماضي المتصل بضمير تاء الفاعل : «لمحتُ» والمفعول التالي له المقرون بكاف الخِطاب في:«طيفك».
فنحن إذن تبعاً للانطلاقة تلك في حضرة الشاعرة وخطابها الوجداني والمخاطَب المتمثل في الطيف.
وفي هذه المضمار النفسي إنْ صحّ التعبير تدور حركة النص وتداعياته وانثيالاته وشُحناته الانفعاليَّة.
ونستطيع القول في ضوء ذلك الحدث الشفيف إنَّ نظرةً عاجلةً من الشاعرة -في مكان ما وزمان ما وقعتْ بصورةٍ مباغتة- على طيف الحبيب الغائب..
فماذا أسفر عن تلك اللمحة؟!
يوحي النص بأنَّها لم تكن مجرد لمحة خاطفة فحسب بل تمخضتْ عنها صورة
الطيف لتراه كالستار المنسدل أوكالبناء القائم ماثلاً أمام عينيها ،مالئاً الآفاق الرَّحبة من حولها وإنَّها -والحالة هذه- مضتْ مستغرقةً معه لتستشفَّ من وراء ذلك الانسدال المرئي طُهراً منبعثاً من الطيف ذاته شكلاً ومضموناً وترافق مع ذلك المشهد في التوقيت نفسه
أنْ استكنهتْ الشاعرة نقاءً مستمدَّاً من إشعاعات الشوق المتقدة في أعماقها الولهى،وفقاً لما تمليه عبارة : «قبسات الشوق المكتحلة»
ولعلَّ «الاكتحال» المجازي هنا ترمز به إلى أنَّ الشوق الصَّاهر واللوعة المتَّقدة وزلزال الحنين المتفجر في ملازمتها لها باتتْ أشبه ماتكون بالكحل في العيون ،فكما أنَّ الكحل مستقرّه العيون كذلك الشوق ودواعيه مستقرها وجدانها المتلهف المشبوب.
وتستكمل رصد ملامح تلك النظرة العجلى العميقة في مسارٍ وجداني آخر حيث تجلَّى لها النورُ المشعُّ الوضَّاء من الطيف ذاته بمثابة القارئ لأفكارها المستنبط لأخيلتها وخفاياها الكامنة.
ومالبثتْ تلك القراءة البصرية أن أيقظتْ لواعج النفس ونوازعها وخزائنها المختبئة في ذاكرة الشاعرةوفي أعماقها مما تضمنه هذا الشطر:« وتوقظ الغيمَ والأشجان والمقلا» .
ولاريب أن اليقظة هنا تصبّ في نهر المجاز الفني لا الحقيقة المباشرة.
ثم تنتقل خلال البيت الثالث من رواية الحديث عنه إلى ذاتها وطبيعة المناجاة التي وجدت نفسها في بحرها في ضوء مايسمى بالالتفات .
وبواسطة الفعل المضارع والتشبيه المتعلق بالضمير المقترن به تصدح بهذا القول الوصفي الذي كان مُضمراً في النفس قبل هنيهة:
«أراكَ كالوحي قد نُزِّلتَ في قدرٍ
ضوءاً على قسماتِ الوجه مكتملا».
إنَّها هنا وقد أيقنتْ من صواب لمحتها يتبدَّى لها مرأى الطيف شديد الشبه بالوحي على مستوى الإشارة، والإيماء، والصوت، والإلقاء فى الروع إلهاماً.
كلُّ هذه المعاني المحتشدة أحسَّت بها الشاعرة في قرارة نفسها وامتزجت بها امتزاج الروح بالجسد.
في خضم ذلك عملتْ عدستها التخييلة على تجسيد صورة الوحي المنزّل إليها من ذروة شاهقة العلوّ أثناء رؤيتها البصرية فوصفته بالضوء المكتمل الذي غمرت أشعَّته وجهها ووجه الطيف معاً في آنٍ واحد.
وفي هذا البيت تعزيز وتقوية للمعاني السابقة الجارية في ميادين الطهر والنقاء والصفاء والبراءة والأمل المنتظر.
وعندما اتَّضحت معالم ذلك الطيف الموشَّاة بجماليات النقاء التي تجسدتْ في وصفها التشكيلي واستحال إلى ملَك أو إنسانٍ أقرب إلى صنف الملائكة المصطفَين يشاطرها النقاء،هنالك اطمأنتْ إليه واشرأبَّتْ عاطفتها الجيَّاشة لتلقي إليه مقاليدها شاحذةً السمع والبصر والفؤاد بهذا البوح الآسر المتضمن اعترافها وانجذابها الوجداني الحي:
أنرتَ روحي إيماناً ومغفرةً
‏ ‎والقلب يخشع إن ناديتَ ممتثلا!
إنَّها هنا تتوجه إليه بالخطاب مباشرةً بواسطة الفعل :«أنرتَ» مشيرةً إلى المنطقة المستقبلة ذلك النور وهي «روحها» الداخلية الخفية عن الأنظار والتي هي بالنسبة لها مستودع الأحاسيس المرهفة والتطلعات المستقبلية الحالمة، كاشفةً عن طبيعة تلك الإنارة التي منحتها «إيماناً ومغفرة » “يقيناً وثواباً”.
وهاتان اللفظتان عليهما مسحة دينية
و ينسجمان بالطبع مع صورة الوحي المذكورة سابقاً بما يشي أنَّنا أمام إلهام ربَّاني بالغ القداسة هبط عليها من سماء نورانية الجنَبَات والأروقة مما أدَّى إلى خشوع قلبها وامتثاله التام لنداءات ذلك الطيف الاستثنائي.
وتختتم نصَّها الوجداني بهذا النداء :
يازائر الليل هل حلمٌ نحققه
فالحلمُ مازال بالعينين متَّصلا؟!
والملاحظ في تركيب: «زائر الليل» حضور المنادى«زائر» والزمن الذي باغتها فيه وهو :«الليل ».
ولإيمان الشاعرة العميق بمكانة هذا الطيف وقدراته وصفاء معدنه واتصالها الوجداني بأضوائه السحرية وهالاته الحريرية تمَّ لها الإفضاء إليه بمطلبٍ يُؤرِّقها أمره في رحلة الحياة وهو أن يصبح الحلمُ حقيقةً ماثلةً للعيان مبديةً استعدادها لمشاركته حتى النّهاية..
ويلاحظ تكرار ذكر لفظة: «حلم»
في البيت مرة بالتنكير ومرة بالتعريف في معرض التساؤل «بهل الاستفهامية»،إلى جانب الفعل المضارع المقترن بالنون الدالَّة على اشتراك الطرَفين في مهمة إنجاز الحلم الغائب.
ويُستنبط من وراء هذا البيت والتكرار المشار إليه شعور الشاعرة بالقلق
خشية انهيار سقف الأمل ومخافة تجهّم الليالي والأيام قبل بلوغ مرافيء الحلم المنشود.
على أن التعبير (بمازال) يوحي إلينا باستمرار الشاعرة في مسعاها الجادّ بحثاً عن الحلم الذي يتراءى لها ،بل إنَّه بات نُصب عينيها كلما طلّ صباح أوحلّ مساء،على أنَّ عدم الإفصاح عن نوعيَّة الحلم وطبيعته جاء متساوقاً مع مطلع نصِّها القائم ابتداء على فكرة التلميح .
وهي بهذه النهاية الانسيابية البديعة القائمة على مناجاة :«زائر الليل» تحملنا على الإشادة بانفتاح أفقها المتطلع إلى التنقيب عن مناطق الحلم المختبئ القادم لامحالة ولكن بعد تجاوز سلسلة
الصِّعاب الكأداء المعترضة محطتها الحالمة الآمنة.
__________________________
بعض سمات النص وخصائصه:
1-اعتمد النصّ على الأسلوب الخبري باستثناء بيته الأخير.
2-انسيابية لغة الشاعرة وعمق الدلالات التركيبية المستخدمة في بناء النص.
3-استثمارها فن التشبيه والمجاز
في العديد من الإيماءات .
4-التزام الشاعرة بالوحدة العضوية .
5-امتازت عاطفة الشاعرة بالتفاؤل المشوب بشئ من التوجّس .
6-استدعاء الشاعرة للطيف بطريقتها التشكيلة المختلفة عن تناولات الشعراء القدماء.
7-استخدمت الشاعرة بحر البسيط لرصانته واستيعابه المعاني الشعرية الكثيفة.
8-السياقات الدينية قريبة من وجدان الشاعرة وفكرها لذلك استعملت بعضها بمقدار دقيق «كالإيمان والمغفرة»و«وسورةُ النورِ».
9-في حضرة الطيف توهج خيال الشاعرة إلى حدود بعيدة.
10-التشخيص والتجسيم واضحان في النص وضوح الشمس .
__________________________
الخاتمة:
تلك كانت مقاربة يسيرة حاولتُ فيها معايشةَ تجربة الشاعرة في نصِّها الخماسي المكثف وتسليط الضوء على بعض جوانبه الفنيةراجياً أن أكون قد وفقت في إضاءة بعض دلالاته.
والحمد لله أولاً وآخراً.

محمد سلطان الأمير

شاعر - معلم لغة عربية - مكة المكرمة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى