كثير من المحللين يقفون عاجزين عن التحليل مما يحدث في سوريا، كما حدث لحزب الله في لبنان، رغم ان الطرفان لم يستهدفا أمن إسرائيل، لكن تبعيتهما لإيران، وتحالفهما معه جعل منهما استهداف لإسرائيل وللفصائل المسلحة السورية، لكن السؤال المنطقي لماذا أمريكا وإسرائيل الذين مكنوا إيران الآن ينقلبوا عليها؟.
إسرائيل وأمريكا خلقتا الأجواء في لبنان وسوريا بالقضاء على حزب الله في لبنان وضرب قادة الحرس الثوري في لبنان وسوريا، بالطبع يتساءل كثير من المحللين، أن أمريكا منعت السعودية من الانتصار للثورة السورية ضد نظام بشار الأسد الذي قتل أكثر من مليون سوري، وهجر أكثر من 12 مليون سوري داخليا وخارجيا، كذلك منعت السعودية من الانتصار للشرعية اليمنية ضد الحوثيين المدعومين إيرانيا في اليمن بعدما وضعت أمريكا خط احمر لتحرير صنعاء والحديدة، كيف تحولت أمريكا رأسا على عقب وأصبحت تحقق ما كانت السعودية تنوي العمل به؟.
استثمرت السعودية تغيرات موازين القوى لتحجيم الهيمنة الأمريكية، أو جعلها أحد القوى في منطقة الشرق الأوسط، ووجدت ان السياسة الواقعية لا تقدم حلول لأزمة المنطقة، واتجهت السعودية إلى اتباع نظرية اللعبة التي يتمثل هدفها الرئيسي في التحليل الرسمي لإجراءات صنع القرار والعلاقات بين لاعبين أو أكثر من أجل تفسير التفاعلات بين الجهات الفاعلة، ونظرية اللعبة لا توفر فقط وسائل محددة لفهم الحقائق المختلفة، بل وأيضا للتأثير على التفاعلات ذات الفوائد الواسعة، إذ تعتمد نظرية اللعبة أو الصراع بين أطراف اللعبة على تحليل استراتيجية مواقف الصراع أي اعتماد استراتيجية أحد الجوانب بشكل عام على توقعات استراتيجية الجانب الآخر وذلك للتمكن من الحصول على أفضل النتائج الملائمة حتى يجنبها صراعات الحروب، وهي تسمى بنظرية الصفر، باعتبارها أكثر فاعلية يعتمد تحقيقها على مهارة السياسيين يجعل السعودية تستعيد لعبة الصراع دون حروب.
جعل السعودية تبحث عن فاعل دولي جديد كضامن بين السعودية وإيران وهي الصين، ونجحت في تحقيق هذا الهدف أربك استراتيجية الولايات المتحدة رأسا على عقب، في المقابل قدمت السعودية لأمريكا والغرب إغراء لاحتواء الصدمة التي أصابت الولايات المتحدة باقتراح ممر هندي أوروبي مستثمرة أزمة إمدادات يمر بها العالم نتيجة جائحة كورونا وتهديد الحوثي ممرات البحر الأحمر، فأعلنت السعودية وأمريكا هذا الممر في قمة العشرين في نيودلهي، يتطلب هذا الممر إقامة دولة فلسطينية.
لكن إيران قامت بطوفان الأقصى لوقف تحقيق الدولة الفلسطينية الذي يقضي على مشروعها، وكانت تنظر إسرائيل وأمريكا والغرب أن طوفان الأقصى ليس فقط دعمته إيران بل والصين وروسيا لأنه ممر يهدد الحزام والطريق.
سقطت دمشق بعد صدمة حماة بوحلب ومفاجئات متسارعة، خصوصا بعد اتصال أردوغان بالأمين العام للأمم المتحدة والتأكيد له بأن هناك حل سياسي يجري داخل سوريا، هناك تبدلات حدثت، واجتماع بغداد كان خارج الزمن حتى لو ضغطت إيران على بغداد للزج بمقاتلين لدعم سوريا، فإن مقتدى الصدر سبق أي قرار إيراني بحيادية بغداد لما يجري في سوريا، كذلك انسحبت قوات النظام من دير الزور والميادين إلى داخل المدن، وسيطرت قوات قسد على معبر البوكمال، وهناك قاعدة عسكرية أمريكية في التنف على الحدود الأردنية العراقية، فسيتم قصف كل من يعبر تلك الحدود، كذلك زيارة وزير خارجية إيران لأنقرة ولم يحصل على أي نتيجة، وكذلك سيكون اجتماع استانا، وأجلت الجامعة العربية اجتماعا لوزراء الخارجية بطلب من بشار الأسد، ما يعني أن الجامعة العربية احتضنت بشار الأسد، لكنه تلكأ أو لم يتمكن من إخراج المليشيات الإيرانية.
ترى أمريكا أن نظام الأسد هو من مكن إيران وروسيا من التحكم في مفاصل الدولة السورية بعدما كانت يسيطر النظام السوري فقط على 18 في المائة عام 2014 بعد الاستعانة بروسيا بشكل خاص أصبح لديها 63 ألف جندي في سوريا ونحو أكثر من 30 طائرة عسكرية في قواعدها في طرطوس وحميميم، وأصبح يسيطر على نحو ثلثي سوريا، ولكن مقابل تهجير السوريين من أراضيهم بعد الاستيلاء عليها من قبل المليشيات الإيرانية على غرار ما تعمله إسرائيل مع الشعب الفلسطيني تماما، فلابد من إسقاطه، ومكنت الجولاني من الترويج له وعمل لقاء له مع قناة الcnn .
والآن المعارضة السورية تطبق على النظام من الشمال والجنوب، وفتح جبهة في ريف دمشق، وهو بمثابة تكتيك عسكري لإرباك النظام السوري، وتشتيت قدراته، ولتخفيف الضغط على حمص، ووقف نفوذ ايران التي ترى أن سوريا نطاق نفوذها وشريان متسلسل يربطها بحزب الله والجماعات العراقية.
وقتلت أمريكا قاسم سليماني الذي كان يدير جماعات مليشياوية في سوريا للاستعداد لحرب مع واشنطن، وروسيا ترى الوجود العسكري لها في سوريا ليس فقط يحقق لها الوصول إلى المياه الدافئة تاريخيا بل أيضا يتحدى قوة الولايات المتحدة في المنطقة، كما تدرك أمريكا أن طرق التجارة الاستراتيجية يجعل موقع سوريا من أهميته للتجارة الإقليمية، لما تتمتع سوريا بموقع مركزي وأهمية جيوسياسية وهي مفترق طرق بين آسيا وأوروبا وأفريقيا، بما في ذلك طرق خطوط الأنابيب المحتملة للنفط والغاز القادمة من مصر وإسرائيل، ولا تود إيران وروسيا تسيطران عليها تتفق تركيا مع أمريكا في أن ذلك يضر بمصالحها، مما يؤثر على الاستقرار الإقليمي وديناميكيات القوة العالمية، باعتبار أن سوريا دولة عازلة بين القوى المتنافسة وخاصة الولايات المتحدة وتركيا وإيران وروسيا.
ما يعني أن الصراع في سوريا إقليمي وعالمي، تعد سوريا قلب الصراع على السلطة في الغرب الأوسط، وما يدور في سوريا بالغ الأهمية ضمن معركة القوة في الغرب الأوسط، كما تهدف أمريكا إلى حماية إسرائيل.
روسيا أعلنت أنها لن تتدخل خصوصا وأن الجيش السوري ينسحب من مواقعه، وطلبت من مواطنيها الخروج من سوريا، وكذلك إيران لأن مستشار ترمب مسعد بولس أوضح في مقابلة معه مع مجلة فرنسية بقوله أن هناك اتفاق شامل مع إيران بعد عوة ترمب حول برنامج إيران النووي والصاروخي وأنشطة الجماعات الوكيلة في المنطقة ولم يتحدث عن تغيير النظام فالجميع رفع الغطاء عن نظام بشار الأسد، بل حتى وزير خارجية روسيا لافروف في لقاء معه قال لا يتنبأ بمصير الأسد، وصرح بايدن وجود أمريكا في سوريا ضروري من اجل ضمان عدم عودة داعش، وان الأسد لم يسعى لتحقيق القرار الأممي 2254 أدخل سوريا في أزمة وجعل الشعب السوري مهجر في الداخل والخارج، فيما ترمب يرى تركه الجميع يتصارعون، المهم ان يكون التواجد الأمريكي غير مكلف في سوريا، لذلك ما يقوم به بايدن خدمة لأمريكا العظمى.
ما تقوم به تركيا لتقليص النفوذ الإيراني توافق عليه أمريكا والعرب، وما اتفاق استانا إلا انه كان متوترا، ولم يكن توافقيا لأول مرة، وتحاول تركيا التوصل مع روسيا إلى توافق بعيدا عن إيران لأنها جزء من المشكلة وليست جزء من الحل، وإن كانت روسيا تبحث عن ضمانات ما بعد نظام الأسد لقواعدها في سوريا، وأردوغان يطالب النظام السوري بتسليم السلطة سلميا من اجل الحفاظ على البنية السياسية والمؤسساتية، ولأول مرة يحضر بعض وزراء خارجية عرب استانا 22 في الدوحة، باعتبار أن سوريا دولة عربية لابد ان يكون للعرب دور في الشأن السوري، وكان تصريح وزير خارجية قطر أن بشار الأسد لم يتم انتهاز فرصة الهدوء لكي يبدأ تصحيح علاقته بشعبه،
د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب
أستاذ الجغرافيا السياسية والاقتصادية سابقا بجامعة أم القرى