ثمة أسئلة ملحة تفرض نفسها عبر السقوط المفاجئ لنظام بشار الأسد في سوريا: كيف تم هذا النصر الكبير الذي حققته المعارضة العسكرية السورية في بضعة أيام رغم أنها تمتلك أسلحة متواضعة في مقابل الأسلحة المدججة التي يمتلكها الجيش السوري المدعوم عسكريًا من إيران وروسيا؟ وما مصير القوات والقواعد الأجنبية في سوريا؟، وأي نوع من الأنظمة سيتولى الحكم في سوريا؟ وما موقع المعارضة السورية السياسية من هذا التطور الدراماتيكي الكبير الذي قلب الموازين والمعادلات في الشرق الأوسط؟ وما هو الموقف الإيراني تجاه تلك الأحداث؟… وأسئلة أخرى كثيرة ربما تحمل الأيام القادمة بعض الإجابات لها، لكن سيظل دائمًا أسئلة مهمة لا مفر من الإجابة عليها: كيف ستحافظ المقاومة المسلحة على ذلك النصر الكبير الذي حققته بإسقاط نظام الأسد الذي يحكم سوريا منذ قرابة نصف قرن؟ ومن سيحكم سوريا في حقبة ما بعد الأسد، وما هو مستقبل علاقات سوريا بمحيطها العربي، وخاصة العراق والأردن ولبنان؟ وكيف ستكون علاقات سوريا بكل من إيران وتركيا وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية بعد الإطاحة بنظام الأسد؟ وكيف سيتم التخلص من مئات القواعد العسكرية الأجنبية في سوريا، وهل ستشهد سوريا نزاع بين القوى السياسية التي شكلت المعارضة السياسية في الخارج والتي تنتظر هذه اللحظة بفارغ الصبر لتقاسم الحصص، مع وجود زعامات سياسية من الداخل كان لها الفضل في تحقيق هذا النصر، هذه الأسئلة وغيرها لابد وأن تشكل تحديات كبيرة أمام المعارضة السورية العسكرية .
ولكي نفهم أبعاد المعضلة السورية بدءًا من اختلال معادلة: “لا سلام بلا سوريا” مع غياب الدور السوري لعقود عدة، لابد من العودة إلى العام 2011 الذي يعتبر نقطة التحول في التاريخ المعاصر لسوريا، فقد كانت سوريا مع اندلاع ثورات الربيع العربي في بعض بلدان الشرق الأوسط نموذجًا مختلفًا، عندما فشلت تلك الثورة – عكس الدول العربية الأخرى كمصر وليبيا وتونس- في الإطاحة بالديكتاتور السوري بشار الأسد، لتشهد بعد ذلك حربًا أهلية شاملة أسفرت عن مقتل نحو نصف مليون شخص، وسلسلة من القمع الدموي الذي مارسه النظام ضد شعبه، بما في ذلك استخدام الغازات السامة وبراميل المتفجرات، والذي لم يسبق له مثيل في تاريخ سوريا المعاصر، مما ترتب عليه هجرة ملايين السوريين إلى دول الجوار والعديد من الدول الغربية. وتخلل تلك الأحداث سيطرة الجهاديون عام 2014على مساحات شاسعة من الأراضي شمال وشرق سوريا، وما تبع ذلك من استغلال الأسد لهذا الحدث بالقول إنه يخوض معاركه ضد الإرهاب.
ولم تمض بضع سنوات حتى وقعت سوريا تحت سيطرة العديد من الدول التي تقاسمت نفوذها في الأراضي السورية. وكان لإيران نصيب الأسد في السيطرة على البلاد يليها روسيا، إضافة إلى تركيا والولايات المتحدة عبر قوات التحالف الدولي التي تقودها، فيما خضعت حوالى ثلث الأراضي السورية لسيطرة قوات المعارضة السورية العسكرية. وسيطرت الدول الأجنبية الأربع على سوريا عبر مئات القواعد العسكرية التي غطت أرجاء البلاد والتي كان من أبرزها قاعدتي طرسوس البحرية وحميميم الجوية الروسيتين. والحقيقة لم يكن لهذه الدول أن تستفرد بسوريا لولا الضعف الذي آل إليه النظام الذي تركز همه في استمرار التفرد بالحكم. وكان لكل دولة من هذه الدول الأربع أهدافها من السيطرة على أجزاء من البلاد، فهناك مخطط إيران المسمى “الهلال الشيعي” الذي تسعى إيران من خلاله إلى استكمال السيطرة على الإقليم والمنطقة الواصلة بين طهران وبيروت مرورا ببغداد ودمشق.
من جهتها اعتبرت روسيا بقاء النظام السوري متعلقا ببقائها كنقطة ارتكاز لنفوذها في الشرق الأوسط وإفريقيا، إلى جانب ما يتيحه وجودها البحري العسكري في المياه الدافئة للبحر الأبيض المتوسط من ميزة إستراتيجية كبيرة.
وهكذا قامت روسيا بدعم النظام السوري منذ اندلاع الثورة ضده عام 2011 لوجستيا، واستعملت حق النقض ضد كل القرارات الدولية التي تدين النظام السوري، إلى أن سيطرت المعارضة السورية على ثلث البلاد، فطلب النظام من روسيا نهاية سبتمبر 2015 التدخل لوقف انتصارات المعارضة العسكرية التي هددت وجود النظام. وتغلغل القوات التركية في الأراضي السورية واستيلائها على عفرين أتاح لها تعزيز نفوذها في المنطقة الحدودية مع سوريا والتصدي للخطر الكردي المتمثل في قوات سوريا الديموقراطية التي تهيمن عليها وحدات حماية الشعب الكردية المدعومة أمريكيًا. كما أنه لم يعد خافيًا أن وجود القواعد العسكرية الأمريكية في شمال شرق سوريا هو لدوافع نفطية.
وقد كشفت أحداث سوريا الأخيرة عن تطور درامتيكي في الموقف الإيراني من حلفائه فيما يسمى محور المقاومة، فقد شكك البعض في حقيقية تخلي إيران عن حماس أولاً ثم عن حزب الله، ثم جاء تخلي إيران عن نظام بشار الأسد ليؤكد على حقيقة التطور الإيراني في موقفه من حلفائه في المنطقة بما لا يضع أي مجالاً للشك بأن إيران أوقفت تحالفها مع هذه الأطراف. واتضح هذا الدور بسحب إيران لقادته وخبرائه العسكريين وكبار المسؤولين من سوريا قبل أسبوع من سقوط النظام، بما أعطى المؤشر بأن إيران لم تعد تدعم سوريا كحليف إستراتيجي لها، وهو ما دعا إلى التساؤل هل هناك دورًا جديدًا لإيران في المنطقة؟ وما طبيعة وملامح هذا الدور الذي يبدو من الواضح أنه يتمحور حول التقارب مع الغرب وبشكل خاص مع الولايات المتحدة.
التحديات أمام المعارضة العسكرية السورية كثيرة، خاصة في ظل اتهام المعارضة السورية العسكرية بالسلفية الجهادية، لكن هيئة تحرير الشام التي تقود قوات المعارضة السورية العسكرية سبق وأن تخلت عن جبهة النصرة، ثم عن تنظيم الدولة، وأخيرًا عن القاعدة، ويبدو من السابق لأوانه القول إنها ستتولى الحكم في البلاد، كما أن احتفاظها برئيس الوزراء السابق زمن النظام القديم، وعدم حدوث فوضى واضطرابات ونهب على إثر دخول تلك القوات العاصمة دمشق يؤكد على تمتع المعارضة برؤية صائبة في القفز إلى المرحلة الانتقالية في الحكم بسلاسة، كما ينبغي التذكير بأنه ما زال الروس والأمريكيون والأتراك موجودين على الأراضي السورية، ولم يتم إجلاء كافة الفلول الإيرانية بعد، وتشير كافة المؤشرات إلى وجود مؤشرات على نجاح النظام السوري الجديد في استعادة سوريا لدورها العروبي بعد أن انتهى عهد البعث وسيطرة العلويين على مقدرات البلاد.
0