المقالات

في اليوم العالمي لمكافحة الفساد… «المملكة لا تقبل فساداً على أحدٍ ولا ترضاه لأحدٍ، ولا تعطي أياً كان حصانة في قضايا الفساده»

يُصادِف التاسع من ديسمبر من كل عام اليوم الدولي لمكافحة الفساد وفق إعلان الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي جاء بعد توقيع اتّفاقية مكافحة الفساد في 31 أكتوبر 2003 ودخولها حيز التنفيذ في ديسمبر 2005 والتي تُعتبر الإطار العالمي الرئيسي لمكافحة الفساد وتعزيز النزاهة والشفافية. ويُوافق التاسع من ديسمبر من هذا العام الذكرى الواحدة والعشرين لهذه الاتفاقية. وقد عرّف البنـك الـدولي الفسـاد بأنّه: ” إسـاءة اسـتعمال الوظيفـة العامـة للكسـب الخـاص.” كما عرّفته منظمة الشفافية الدولية بأنّه “سوء استعمال المرء للسلطة التي أُؤْتُمِنَ عليها لتحقيق مكاسب خاصة.” وعلى هذا الأساس يُعدّ الفساد ظاهرة إجرامية خطيرة متعددة الأشكال ذات آثار سلبية على جميع الأصعدة؛ إذ أنّه يهدم مؤسسات الدولة وسيادة القانون والمبادئ والقيم الأخلاقية، ويؤثّر سلبا على الحياة السياسية وعلى اقتصاديات الدول وتنميتها ويؤدي إلى عدم الاستقرار. وهو أحد أكبر الإنتهاكات والتهديدات لحقوق الإنسان بصورة مباشرة أو غير مباشرة ذلك أنّ كل حقّ من حقوق الإنسان المدنية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية يمكن إنتهاكه بسبب الرشوة والمحسوبية وإساءة إستغلال النفوذ والوظائف وغيرها من أشكال الفساد. ولا يزال الفساد أحد أكبر التحديّات التي تواجه التنمية الاقتصادية والإجتماعية ويُقوِّض أجندة التنمية المستدامة لعام 2030. ولهذا يُمثّل اليوم العالمي لمكافحة الفساد مناسبة للتوعية بمخاطر الفساد وأهمية محاربته والقضاء عليه على المستويات الوطنية والدولية، وتسليط الضوء على الجهود المبذولة لمكافحته. وتُعتبر المملكة العربية السعودية بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وصاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء -حفظهما الله- رائدة النزاهة ومكافحة الفساد على الصعيد الوطني والإقليمي والدولي حيث قدّمت إلى العالم، خلال السنوات القليلة الماضية، نموذجًا، يُعدّ الأبرز، في مكافحة الفساد المالي والإداري بشتى صوره والقضاء على مظاهره والتخلص من آثاره السلبية على المجتمع، وتعزيز مبادئ التنمية الإقتصادية والإجتماعية وسيادة الأنظمة، من خلال تنفيذ سياسات حكومية قوية، وتعزيز المساءلة والشفافية في العمليات المالية والإدارية، وحماية المبلغين عن الفساد؛ معتبرة أن اجتثاث جذوره مهمة وطنية للحفاظ على المال العام وحماية المكتسبات الوطنية؛ لتكون في مقدمة دول العالم في مكافحة الفساد. وهو ما أكّده سمو ولي العهد – حفظه الله- بأنّه “يهمّنا أن نكون في مقدّمة الدول في مكافحة الفساد”، وأنّه “لن ينجو أي شخص دخل في قضية فساد أيًا من كان.”
وفي هذا الإطار وإلتزاما منها بالمبادئ الدينية والأخلاقية السامية النابعة من الشريعة الإسلامية وكذلك إيمانا بأهداف ومبادئ ميثاق جامعة الدول العربية وميثاق الأمم المتحدة والاتفاقيات والمعاهدات العربية والإقليمية والدولية في مجال التعاون القانوني والقضائي والأمني، للوقاية ومكافحة الجريمة ذات الصلة بالفساد، والتي تكون المملكة طرفا فيها، فقد صادقت المملكة على اتّفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد واعتبرت أنّ الفساد هو الآفة الأولى التي يجب محاربتها والوقوف ضدها. كما جاء في الكلمات الخالدة لخادم الحرمين الشريفين – حفظه الله- بكلماته الخالدة التي جاء فيها أنّ “المملكة لا تقبل فساداً على أحد ولا ترضاه لأحد ولا تعطي أياً كان حصانة في قضايا فساد.”
ومن هذا المنطلق شهدت مكافحة الفساد في المملكة العربية السعودية تطوّرا واضحا وحقّقت إنجازات هامّة في حماية النزاهة ومكافحة الفساد وبالتالي تعزيز وحماية حقوق الإنسان وتحقيق النمو الاقتصادي والتنمية المستدامة تماشيا مع جهود الإصلاح التي تشهدها المملكة في جميع المجالات ضمن رؤية السعودية 2030. وفي هذا السياق وبمناسبة اليوم العالمي لمكافحة الفساد يستعرض هذا المقال بكل فخر وإعتزاز جهود المملكة ودورها الريادي والقيادي في محاربة الفساد وتعزيز النزاهة.
فعلى الصعيد الوطني، تمثّلت هذه الجهود في الإعلان عن الإستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد في عام 2007م، التي اكتملت بموافقة مجلس الوزراء على تنظيم الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد بتاريخ 2011/05/02م، وهي هيئة مستقلة ماليا وإداريا وتتمتع بالشخصية الاعتبارية، ترتبط بالملك مباشرة، وتؤدي عملها بكل حياد دون تأثير من أي جهة كانت، وليس لأحد التدخل في مجال عملها. كما توالت الجهود العظيمة لمكافحة الفساد بصوره وأشكاله وأنماطه المختلفة، بتبني المملكة العديد من الأنظمة والتطويرات والتعديلات وتطبيق إجراءات وتدابير تنظيمية فاعلة، بما في ذلك عقابية رادعة للفاسدين خلال السنوات القليلة الماضية وبالتحديد منذ أن تولى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز-حفظه الله- مقاليد الحكم في البلاد في عام 2015. فقد صدر في 2017/11/04م، الأمر الملكي المتعلّق بتشكيل لجنة عليا برئاسة سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- للقيام بحصر المخالفات والجرائم والكيانات المتعلقة بقضايا الفساد في السعودية واتخاذ ما يلزم من الإجراءات مع المتورطين. كما صدرت مجموعة من التنظيمات الهيكلية والمتمثِّلة في ضم “هيئة الرقابة والتحقيق” والمباحث الإدارية إلى الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وتعديل اسمها ليكون “هيئة الرقابة ومكافحة الفساد.” وإنشاء وحدة تحقيق وادعاء جنائي، في جهاز واحد ووضعها تحت مظلة واحدة مع هذا الجهاز، ومنحها الصلاحيات اللازمة لملاحقة الفاسدين ومحاسبتهم، وإعادة الأموال المنهوبة للخزينة العامة، بما يكفل تعزيز مبدأ سيادة القانون، ومُساءلة كل مسؤول مهما كان موقعه. ومنذ ذلك الوقت والمملكة تُحقق نتائج مبهرة غير مسبوقة في مجال مكافحة الفساد. وتتويجاً لتلك الجهود، تمكنت المملكة خلال الثلاث سنوات الماضية من إستعادة أموال عامة منهوبة بلغت 247 مليار والتي تمثل 20% من إجمالي الإيرادات غير النفطية، هذا بالإضافة إلى أصول أخرى تقدر بعشرات المليارات تم نقلها لوزارة المالية.
كما شكل التحول الرقمي في المملكة وتبني الإدارة الإلكترونية أحد الوسائل المهمة لمكافحة الفساد بكافة أشكاله وصوره. ومن بين الجهود الوطنية أيضا تسهيل الإجراءات الإدارية والتوعية بها، وإتاحتها للراغبين، وعدم اللجوء إلى السرية إلا فيما يتعلق بالمعلومات التي تمس السيادة والأمن الوطني، وتوضيح إجراءات عقود مشتريات الحكومة والمؤسسات العامة وإنشاء منصة “إعتماد” لنشر كافة المنافسات الحكومية للمزيد من الوضوح. كما عملت المملكة على مشاركة مؤسسات المجتمع المدني في حماية النزاهة ومكافحة الفساد وحثّ موظفي الدولة في مختلف القطاعات في الإبلاغ عن الفساد مع الاحتفاظ بسرية المبلغين وحمايتهم. إلى جانب تنظيم قاعدة معلومات وطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد تشمل جميع الوثائق النظامية والإدارية، وتزويد الأجهزة الضبطية، والرقابية، والتحقيقية، والقضائية، بالإمكانات المادية، والبشرية، والخبرات، والتدريب، والتقنية، وإجراء تعديلات على العديد من الأنظمة، واستحداث أنظمة أخرى للإسهام في الحد من الفساد، وغيرها من الإجراءات، وغيرها من الإجراءات والمجهودات التي لا يتسع المجال لذكرها كلها.
وبما أن حماية النزاهة ومكافحة الفساد بجميع أشكاله من المبادئ الثابتة في الشريعة الإسلامية والأنظمة الدولية؛ فقد حرصت المملكة على مشاركة المجتمع الدولي اهتمامه في محاربة الفساد من خلال إبرام الاتفاقيات وحضور المؤتمرات والندوات وتعزيز التعاون الدولي في هذا الإطار. كما تقدمت المملكة خلال رئاستها لمجموعة العشرين في عام 2020م بمبادرة الرياض الهادفة لإنشاء منصة عالمية تربط بين أجهزة مكافحة الفساد حول العالم وتوفر قاعدة بيانات موثوقة تعزز المعرفة وتفضح الفاسدين وتوثق جرائمهم، وساهمت بـ 10 ملايين دولار لإنشاء الشبكة، ممّا يؤكد حرصها، وعزمها على معالجة التحديات التي تؤثر سلباً في جهود المكافحة، ومنها الملاذات الآمنة، ومتابعة جرائم الفساد العابرة للحدود. ومثلما حظيت المبادرة بتأييد قادة مجموعة العشرين، فقد اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة مبادرة الرياض لمكافحة الفساد دولياً (GlobE) في دورتها الإستثنائية المخصصة لمكافحة الفساد. وجدير بالذكر أن أكثر من 45 دولة انضمت للشبكة منذ تدشينها شهر يونيو من العام الجاري، وتم إختيار المملكة نائبًا لرئيس الجمعية العامة ونائبًا لرئيس اللجنة التوجيهية للشبكة.
وامتدادا لدورها في قيادة جهود المجتمع الدولي في مكافحة الفساد، تقدمت هيئة الرقابة ومكافحة الفساد السعودية خلال المؤتمر العالمي لتسخير البيانات من أجل تحسين قياس معدلات الفساد، الذي عقد ضمن مبادرة نزاهة العالمية لقياس الفساد، في سبتمبر 2023 في فيينا بمبادرة نزاهة العالمية لقياس معدلات الفساد حيث أكدت المملكة أهمية تنويع الأطر القانونية والسياسية لمكافحة الفساد، وأهمية التعاون من أجل تطوير آليات وأدوات قياس الفساد بالاستفادة من أفضل الممارسات الدولية. وحظي المؤتمر بإشادة دولية بدور هيئة الرقابة ومكافحة الفساد في المملكة في قيادة جهود المجتمع الدولي في مكافحة الفساد سواءً من خلال مبادرتها في تأسيس شبكة مبادرة الرياض العالمية لسلطات إنفاذ القانون أو من خلال مبادرة نزاهة العالمية لقياس الفساد.
وبذلك ورغم التحديات التي تواجه العالم في مكافحة الفساد وفق ما ذكرته منظمة الشفافية الدولية في عام 2022 حيث لم تحرز 95% من البلدان أي تقدم يذكر منذ عام 2017؛ فإنّ المملكة أحرزت تقدّمًا ونجاحات هامّة. فقد حققت المملكة أعلى درجات الالتزام بالتوصيات الـ40 المتعلقة بمكافحة غسل الأموال، والتوصيات الخاصة الـ9 المتعلقة بمكافحة تمويل الإرهاب؛ وفقاً للتقرير المعتمد من قبل مجموعة العمل المالي” FATF “، ومجموعة العمل المالي لدول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا “MENA-FATF” مما وضع المملكة في المرتبة الأولى عربياً، وأحد المراكز العشرة الأولى في ترتيب دول مجموعة العشرين. كما أحرزت المملكة تقدماً بـ 7 مراكز عالمية في ترتيب مؤشر مدركات الفساد CPI لعام 2019م، والذي أصدرته منظمة الشفافية الدولية، محقّقة بذلك المركز الـ51 عالمياً من أصل 180 دولة، وذلك بدعم لا محدود من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وسمو ولي عهده الأمين حفظهما الله.
ويتضّح مما تقدّم أنّ جهود المملكة الوطنية والدوليّة الرائدة في مكافحة الفساد حقّقت نجاحات كبيرة حيث ساهمت في ترسيخ مكانة المملكة وتعزيز دورها القيادي والمحوري والثقة الدولية التي تحظى بها والتي مكّنتها، مؤخراً في سبتمبر 2024، من الفوز بالإجماع برئاسة شبكة «غلوب إي» العالمية لمكافحة الفساد في إنتخابات رئاسة الشبكة للفترة من عام 2025 إلى 2027. وهو ما يعكس ثقة المجتمع الدولي بجهود المملكة ممثلة بهيئة الرقابة ومكافحة الفساد في مكافحة جرائم الفساد العابرة للحدود وتطوير الآليات اللازمة لمواجهتها. هذه المكانة العالمية والثقة الدولية جعلت من المملكة أيضا وجهةً مثاليةً لاستضافة أبرز المحافل العالمية لعل أهمها معرض إكسبو الدولي 2030 وكأس العالم 2034. كما أنها عززت بيئة العمل ومناخ الإستثمار في المملكة وأكّدت أنّ المملكة هي قوة إستثمارية في قلب الإقتصاد العالمي.
وختاما وإذ نفخر بريادة المملكة عربيا وتفوّقها عالميّا ونشيد بجهود ومساعي كافة الهيئات والجهات المعنية بمكافحة الفساد، وكافة الوزارات والمؤسسات لتعاونها على كافة الأصعدة، في سبيل تعزيز مبادئ الشفافية والنزاهة؛ فإنّنا نؤكد على أهميّة استمرار الجهود الرامية لاجتثاث الفساد من جذوره وعلى ضرورة التعاون الدولي بتكثيف وتكاتف الجهود وتكاملها وتوجيهها نحو تحقيق مكافحة حقيقية للفساد.
ونسأل الله أن يحفظ المملكة وحكومتنا الرشيدة ويديم عليها نعمة الأمن والأمان والإزدهار.

• أستاذ القانون الدولي المشارك، بجامعة جدة
رئيس قسم القانون العام ووكيل الكلية للتطوير والتنمية المستدامة سابقاً
X:@HAMZAHALSULAMI

د. حمزة بن فهم السلمي

أستاذ القانون الدولي العام - رئيس قسم القانون العام بجامعة جدة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى