“في اليوم الدولي لمكافحة الفساد 2024، التحديات والتقدم الدولي وجهود المملكة العربية السعودية في تعزيز النزاهة والشفافية لتحقيق رؤية 2030″
توطئة:
سبق مفهوم الفساد وجود الإنسان على الأرض؛ وفي ذلك تقول الملائكة لرب العزة والجلال “قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ”، الآية 30 من سورة البقرة. ولا يكاد يخلو عصر من العصور من هذه الظاهرة، فالفساد كغيره من مفاهيم الخير والشر كل منهما مرتبط بالنفس البشرية والطبيعة الإنسانية منذ بدء الخليقة.
الفساد في اللغة:
ولعل البدء بالمفاهيم اللغوية يساعد على الانطلاق في تفسير معنى الفساد إذ مصدر الكلمة في معاجم اللغة <فَسَدَ يـُفْسدُ فسادًا > وهو ضد الإصلاح ويقال فسد الشيء أي بَطُلَ واضمحل، والفساد: إلحاق الضرر بالغير ومنه قوله تعالى< وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا >، ويعنى أيضًا: الجدب والقحط، قال الله تعالى < ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ..>، وفسدت الأمور: اضطربت وأدركها الخلل، وفي ذلك يقول الله تعالى < لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ..>.
الفساد اصطلاحا:
على الرغم من اتفاق معظم الأدبيات على ارتباط معنى الفساد بما هو سيء فـي المجمل الا إن النظرة إلـى الفساد ومحاولة تعريفه مـن قبل القانونيون تشترك في وصفه بأنه إساءة استعمال السلطة العامة أو الوظيفة العامة في تحقيق كسب خاص والانحراف في أداء الوظيفة العامة من خلال الرِشوة والمحاباة.
لم يتطرق المنظم السعودي إلى تعريف مصطلح الفساد صراحة ولكننا يمكن أن نستنبطه من نطاق تطبيق النظام، حيث نصت المادة (2) من نظام هيئة الرقابة ومكافحة الفساد الصادر بالمرسوم الملكي الكريم رقم (م/25) وتاريخ 23/01/1446ه” بأنه، تُعد -لأغراض تطبيق النظام- الجرائم الآتية جرائم فساد:
1) جرائم الرشوة.
2) جرائم الاعتداء على المال العام.
3) جرائم إساءة استعمال السلطة.
4) أي جريمة أخرى يُنص على أنها جريمة فساد بناءً على نظام.
وتحيي الأمم المتحدة، اليوم الدولي لمكافحة الفساد، في 9 ديسمبر من كل عام، للتذكير بأهمية مواجهة الآثار السلبية التي يخلفها استشراء الفساد في المجتمعات.
الفساد ليس مجرد إساءة استخدام للسلطة، بل هو عامل رئيسي في تدمير الأوطان، وإعاقة التنمية، وضياع حقوق الإنسان.
وفقاً لإحصائيات الأمم المتحدة، تُقدر الأموال التي تُفقد بسبب الفساد عالمياً بما يتجاوز 5% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي سنوياً. هذه الخسائر تؤثر بشكل مباشر على جهود التنمية وتحقيق العدالة الاجتماعية، مما يجعل مكافحة الفساد ضرورة عالمية لا غنى عنها.
تم اعتماد اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد في اكتوبر 2003 م ودخلت حيز التنفيذ في ديسمبر 2005 م، بهدف تعزيز التدابير الوقائية ضد الفساد وتطوير التعاون الدولي، فضلاً عن تعزيز الشفافية والمساءلة في المؤسسات الحكومية والخاصة. المملكة العربية السعودية، باعتبارها دولة عضو في الأمم المتحدة، لعبت دوراً مهماً في دعم وتنفيذ هذه الاتفاقية، مما يعكس التزامها المستمر بمكافحة الفساد وتعزيز النزاهة على الصعيدين المحلي والدولي.
تأسست اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد في سياق تزايد الوعي العالمي حول الآثار السلبية للفساد على التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. تهدف الاتفاقية إلى إنشاء سياسات وإجراءات فعالة لمنع الفساد في القطاعين العام والخاص، وتجريم الأفعال المرتبطة به مثل الرشوة والاختلاس وغسل الأموال. كما تشمل الاتفاقية تعزيز التعاون الدولي في مجالات التحقيق والملاحقة القضائية واسترداد الأصول، إلى جانب توعية المجتمع وتثقيفه حول أهمية مكافحة الفساد. ومنذ دخول الاتفاقية حيز التنفيذ، حققت العديد من الدول الأعضاء إنجازات ملموسة في هذا المجال، أبرزها تطوير الأطر القانونية الوطنية لمكافحة الفساد بما يتماشى مع المعايير الدولية.
وفق تعريف البنك الدولي، يُعرف الفساد بأنه “إساءة استعمال الوظيفة العامة للكسب الخاص”، بينما تصفه منظمة الشفافية الدولية بأنه “سوء استخدام السلطة الموكلة لتحقيق مكاسب شخصية. ويؤثر الفساد سلبًا على استقرار الدول، ويؤدي إلى تراجع ثقة المواطن في مؤسساته، مما يُبرز الحاجة إلى جهود مكثفة لمعالجته عالميًا ومحليًا.
وفي هذا الإطار، أخذت المملكة العربية السعودية على عاتقها مسؤولية كبيرة في تنفيذ التزاماتها بموجب الاتفاقية. فقد اتخذت المملكة خطوات جادة لتعزيز مكافحة الفساد عبر إنشاء هيئات متخصصة مثل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد (نزاهة)، التي تهدف إلى تعزيز الشفافية والنزاهة في المؤسسات الحكومية. كما قامت بتطوير وتحديث التشريعات المتعلقة بمكافحة الفساد، بما في ذلك قوانين مكافحة الرشوة والاختلاس، وفرض عقوبات صارمة على مرتكبي هذه الجرائم.
علاوة على ذلك، عززت المملكة التعاون الدولي في مجال مكافحة الفساد من خلال توقيع العديد من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم مع دول ومنظمات دولية لتعزيز تبادل المعلومات والخبرات. وساهمت هذه الجهود في تحسين قدرة المملكة على مواجهة التحديات المرتبطة بالفساد، واسترداد الأصول التي تم الحصول عليها بطرق غير مشروعة. كما قامت المملكة بتنفيذ برامج توعوية وتعليمية تهدف إلى تعزيز الوعي العام حول الفساد وسبل الوقاية منه، من خلال حملات توعوية تستهدف فئات المجتمع كافة، بما في ذلك المدارس والجامعات، لتعزيز ثقافة النزاهة والشفافية.
تُعد جهود المملكة لمكافحة الفساد جزءاً أساسياً من رؤية 2030، التي تهدف إلى تحقيق تنمية مستدامة وازدهار اقتصادي واجتماعي. تتضمن الرؤية تعزيز مبادئ الشفافية والمساءلة في كافة قطاعات الدولة، بالإضافة إلى تعزيز دور المؤسسات الرقابية لضمان تطبيق القانون على الجميع دون استثناء.
وفي هذا الإطار، أكد مولاي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود -حفظه الله – “المملكة لا تقبل فساداً على أحد ولا ترضاه لأحد ولا تعطي أياً كان حصانة في قضايا الفساد”.
من المتوقع أن يشكل هذا الالتزام الراسخ الأساس لجهود المملكة في تعزيز مبادئ العدالة والمساواة، ويعكس رؤية القيادة السعودية في بناء مجتمع أكثر شفافية ونزاهة.
يعد دور سيدي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء -حفظه الله – محوريًا في تعزيز جهود المملكة العربية السعودية لمكافحة هذه الآفة، سواء كان الفساد إداريًا أو ماليًا. وهو يعكس رؤية المملكة الطموحة في محاربة الفساد وضمان نزاهة المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص. في هذا السياق، أطلق سمو سيدي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان مقولته الشهيرة التي أصبحت مرجعية في هذا المجال: “لن ينجو أي شخص دخل في قضية فساد أياً من كان لن ينجو، أياً من كان أي أحد تتوفر عليه الأدلة الكافية سوف يُحاسَب”.
وتأكيداً على هذا النهج، قال سمو سيدي ولي العهد: “الفساد في المملكة العربية السعودية أصبح من الماضي ولن يتكرر بعد اليوم دون محاسبة”.
من أبرز الجهود التي بذلتها المملكة في إطار مكافحة الفساد، أصدر مولاي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود – حفظه الله – في عام 2017 م تشكيل لجنة عليا برئاسة سمو سيدي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- بهدف حصر المخالفات والجرائم المتعلقة بقضايا الفساد، واتخاذ التدابير القانونية اللازمة بحق المتورطين. كما شهدت المملكة إعادة هيكلة الأجهزة الرقابية من خلال دمج “هيئة الرقابة والتحقيق” والمباحث الإدارية مع الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد تحت اسم جديد هو “هيئة الرقابة ومكافحة الفساد (نزاهة).” هذا الدمج عزز كفاءة هذه الهيئات عبر إنشاء وحدة تحقيق وادعاء جنائي موحدة تحت مظلة واحدة، مما أتاح صلاحيات شاملة لملاحقة المتورطين ومحاسبتهم، واسترداد الأموال المنهوبة لخزينة الدولة.
سمو سيدي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، من خلال رؤية 2030، لم يقتصر على محاربة الفساد في المجال الحكومي فقط، بل شمل أيضًا تعزيز مبدأ الحوكمة الرشيدة في جميع القطاعات، والعمل على إصلاح الأنظمة القضائية والرقابية بما يتناسب مع أحدث المعايير الدولية لمكافحة الفساد. كما يحرص سمو سيدي الأمير محمد بن سلمان على تعزيز التعاون مع المنظمات الدولية في هذا المجال، بما يسهم في تطوير آليات الرقابة والمتابعة التي تساعد في تحقيق رؤية المملكة لمستقبل أكثر شفافية ونزاهة.
لقد جاءت رؤية 2030 بمثابة خارطة طريق لتحقيق التنمية المستدامة، وتضمنت محاور رئيسية لمكافحة الفساد، من خلال تعزيز الشفافية والنزاهة في كافة قطاعات الدولة، وتحسين البيئة الاستثمارية لجذب الاستثمارات الأجنبية والمحلية.
بناءً على هذه المبادرات، أصبحت المملكة العربية السعودية نموذجًا يحتذى به في مكافحة الفساد على مستوى المنطقة والعالم، حيث أسهمت الحملة التي أطلقها سمو سيدي ولي العهد في تقديم رسالة واضحة مفادها أن أي شخص يثبت تورطه في الفساد لن يفلت من المساءلة القانونية.
ورغم هذه الإنجازات، لا تزال هناك العديد من التحديات التي تواجه جهود مكافحة الفساد على المستوى العالمي. من أبرز هذه التحديات ضعف الإرادة السياسية في بعض الدول لتنفيذ الالتزامات الواردة في الاتفاقية، إلى جانب التحديات التقنية والمالية التي تعيق تطبيق التدابير الوقائية وملاحقة الجرائم المرتبطة بالفساد. يمكن التعمق في طرح الحلول العملية للتغلب على هذه التحديات، مثل تعزيز الإرادة السياسية في الدول النامية، أو الاستثمار في تكنولوجيا المعلومات لتحسين الشفافية.
من هذه النقطة، يجدر بالذكر أن بعض الدول نجحت في التغلب على بعض هذه التحديات، مثل تحسين التنسيق بين السلطات القضائية والتنفيذية وتطوير نظم المراقبة الفعالة باستخدام التقنيات الحديثة. على سبيل المثال سنغافورة، نجحت في القضاء على الفساد بشكل كبير من خلال تعزيز أنظمة الشفافية والحوكمة الرشيدة، واستخدام التكنولوجيا لتعزيز الرقابة. كما أن دولاً كالنرويج وكندا تُعتبر نموذجاً في الشفافية بفضل نظمها القضائية المتينة والمستقلة. يمكن أن تستلهم الدول من هذه التجارب لتحسين نظمها الرقابية وتعزيز تعاونها الدولي.
تُعد الذكرى العشرون لإتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد مناسبة مهمة لتقييم الإنجازات التي تم تحقيقها في مجال مكافحة الفساد، فضلاً عن التحديات المستمرة التي تواجهها جهود مكافحة الفساد على مستوى العالم. ويجب أن تكون هذه المناسبة دافعاً لتعزيز التعاون الدولي وتبادل الخبرات والمعلومات بين الدول الأعضاء في الاتفاقية، فضلاً عن تعزيز الوعي بأهمية مكافحة الفساد. من الجدير بالذكر أن المملكة العربية السعودية تواصل جهودها في هذا المجال، وتتبنى استراتيجيات شاملة لمكافحة الفساد، وضمان تطبيق القانون بشكل عادل، وتعزيز دور المؤسسات الرقابية في مكافحة الفساد.
في الختام، يجب التأكيد على ضرورة الاستمرار في تعزيز جهود مكافحة الفساد على جميع الأصعدة، وتوسيع نطاق التعاون الدولي لتبادل الخبرات والمعلومات بما يساهم في خلق بيئة شفافة ونزيهة. إن مكافحة الفساد ليست مجرد هدف وطني، بل ضرورة عالمية لضمان التنمية والعدالة المستدامة.
إن تحقيق الأهداف المنشودة من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد يتطلب التزاماً جماعياً وجهوداً مستمرة لضمان عالم خالٍ من الفساد، حيث يسود فيه العدل والمساواة، وتُحترم فيه حقوق الإنسان ويتمتع الجميع بالشفافية والمساءلة في كافة جوانب الحياة. المملكة العربية السعودية، بقيادتها الحكيمة، ستظل رائدة في تعزيز النزاهة والشفافية، واضعةً نصب أعينها تحقيق أهداف رؤية 2030، التي تسعى لخلق مستقبل مزدهر ومستدام للأجيال القادمة.
حفظ الله المملكة وقادتها وشعبها، وأدام عزها ومجدها ووحدتها، وجعلها ذخراً للإسلام والمسلمين.
• أستاذ القانون الدولي – جامعة جدة # سياسي – دولي – دبلوماسي