محمد إبراهيم
تعتبر السجون السورية واحدة من أشد الأماكن ظلمة في العالم، حيث تمثل رمزاً للقمع الوحشي الذي مارسه نظام بشار الأسد بحق المعارضين والنشطاء منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011. خلف الأسوار العالية والزنازين المعتمة، عاش المعتقلون تجربة مروعة، اتسمت بالتعذيب الوحشي والانتهاكات الجسيمة التي هزت ضمائر العالم.
في سجن صيدنايا، الذي وصفته منظمة العفو الدولية بـ”المسلخ البشري”، يُروى أن الموت كان ينتظر المعتقلين كل لحظة. ناجٍ من هذا السجن قال: “كنت أسمع صرخات زملائي تتعالى في الليل. كانوا يسحبون أحدنا فجراً، ولم يعد أبداً. عشنا تحت وطأة الخوف المستمر، وكنا ندرك أن النهاية قد تأتي في أي لحظة”. تحدث هذا الناجي عن إعدامات جماعية تمت بلا محاكمات، وعن أساليب تعذيب بدت وكأنها مصممة لقتل الروح قبل الجسد. كان الجوع والتعري والإهانة اليومية أدوات النظام لإذلال المعتقلين وكسر إرادتهم.
أحد الناجين، ويدعى خالد، روى عن الأساليب المستخدمة في التعذيب داخل السجون: “كانوا يجبروننا على النوم على أرضية متجمدة، بينما تُصب المياه الباردة على أجسادنا. كان الضرب متواصلاً لدرجة أنني فقدت الإحساس بأطرافي. في أحد الأيام، استيقظت لأجد أحد زملائي ميتاً بجانبي. لقد قضى بسبب التعذيب ولم يكلفوا أنفسهم حتى عناء إخراجه من الزنزانة”.
التنكيل بالنشطاء الحقوقيين
تحدثت إحدى الناجيات، وهي ناشطة حقوقية كانت محتجزة في أحد أفرع المخابرات، عن استخدام النظام للتعذيب الجنسي كسلاح ضد المعتقلات. تقول: “كانوا يهددوننا بالاغتصاب أمام أعين زملائنا المعتقلين. كنت أسمع صرخات النساء في الزنازين المجاورة، وأشعر بالعجز المطلق. كانت تلك الليالي تبدو بلا نهاية، حيث تداخلت الظلمة بالخوف والرعب”.
في تقرير لمنظمة “هيومن رايتس ووتش”، وُثّقت شهادات مروعة حول أساليب التعذيب التي كان من بينها الشبح، حيث يُعلق المعتقل من يديه لساعات طويلة، والدولاب، حيث يُحشر المعتقل داخل إطار سيارة ويتم ضربه بقضبان حديدية على جسده. أحد الناجين، واسمه سامر، وصف تجربته قائلاً: “كنت أشعر أن كل ضربة تقترب بي خطوة نحو الموت. كانوا يضحكون وهم يضربونني، وكأن التعذيب كان مصدر تسلية لهم”.
لم تكن الزنازين العادية هي الوحيدة التي تحوي المعتقلين؛ فقد كانت هناك الزنازين المنفردة التي مثلت أداة أخرى من أدوات التعذيب النفسي. تحدث معتقل سابق عن تجربته في زنزانة منفردة قائلاً: “كنت معزولاً عن العالم تماماً. لا ضوء، لا صوت، فقط الظلام المطلق. فقدت الإحساس بالزمن، وأصبحت أسأل نفسي إن كنت ميتاً أم حياً. كنت أحياناً أتحدث مع الحشرات التي تشاركني الزنزانة حتى لا أفقد عقلي”.
الاختفاء القسري.. شهادات حية
روايات أخرى جاءت عن معتقلين تعرضوا لما يُعرف بـ”الاختفاء القسري”. آلاف الأشخاص اختفوا في سجون الأسد، حيث لم تعرف عائلاتهم عنهم شيئاً لسنوات طويلة. إحدى الأمهات تحدثت عن اختفاء ابنها: “ابني كان يدرس الطب عندما اعتقلوه. منذ ذلك اليوم، لم أسمع عنه شيئاً. ذهبت إلى كل الجهات الممكنة، دفعت أموالاً لمخبرين، ولكن لا أحد يعرف أين هو. لا أستطيع أن أنام ليلاً وأنا أفكر في مصيره، هل هو حي؟ هل هو ميت؟”.
أحد المحامين الذين خرجوا مؤخراً من سجون الأسد تحدث عن الإهانات المستمرة التي يتعرض لها المعتقلون: “كانوا يجبروننا على ترديد شعارات تمجد بشار الأسد أثناء التعذيب. كنت أسمعهم يقولون إن حياتنا لا تساوي شيئاً، وإنهم قادرون على قتلنا دون أي عواقب”.
العديد من الشهادات تشير إلى استخدام النظام السوري للتعذيب كأسلوب ممنهج لانتزاع الاعترافات أو لتصفية الحسابات مع المعارضين. في سجن الفرع 215، المعروف بسمعته السيئة، قال أحد المعتقلين السابقين: “كانوا يجبروننا على كتابة اعترافات بجرائم لم نرتكبها. إذا رفضنا، كان الضرب والتعذيب ينتظرنا. في إحدى المرات، أُجبرت على توقيع وثيقة تحت تهديد الموت. لم أكن أعلم حتى ما كتبوا فيها”.
حتى الأطفال.. عاشوا في الظلام
أما عن الأطفال، فقد أفادت تقارير بأن النظام لم يتردد في اعتقال القُصّر واستخدامهم كأداة للضغط على عائلاتهم. أحد الأطفال المعتقلين سابقاً قال: “كنت في الثالثة عشرة من عمري عندما اعتقلوني. لم أفهم لماذا أتعرض للضرب أو لماذا كنت أُحرم من الطعام. كل ما كنت أريده هو العودة إلى منزلي”.
رغم كل هذه الشهادات، لا تزال آلاف القصص طي الكتمان بسبب خوف المعتقلين السابقين من الانتقام أو لأنهم لم يستطيعوا التحدث عن معاناتهم بعد. هذه السجون لم تكن فقط أماكن للاعتقال، بل كانت رمزاً لآلة قمعية تجرد الإنسان من كرامته وتدوس على حقوقه الأساسية.
مع تحرير بعض السجون بعد انهيار نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، خرج الناجون إلى الحرية، لكن ذكريات الاعتقال لا تزال تطاردهم. أحدهم قال: “الحرية شعور جميل، لكنني لا أستطيع أن أنسى ما رأيته هناك. كوابيس السجن تلاحقني كل ليلة، ولا أستطيع التوقف عن التفكير في أولئك الذين لم يخرجوا”.