المقالات

تحديات جديدة أمام اللغة العربية

تعتبر اللغة العربية واحدة من أقدم وأهم اللغات في العالم، وهي أقدم اللغات السامية، ولديها ثروة من المعرفة التي لا يزال علماء الآثار حتى يومنا هذا يحاولون اكتشافها، وهي اللغة التي يتميّز الناطقون بها بالفصاحة والبيان، لكثرة ما فيها من أساليب لغوية وتعبيرية ولكثرة ما فيها من ألفاظ ومفردات ومترادفات. ومما زاد من عظمة هذه اللغة هو ارتباطها بالدين الإسلامي الحنيف الذي يعتبر ثاني أكبر الأديان السماوية انتشارًا في العالم. واللغة العربية غير قابلة للانقراض لأنها لغة القرآن الكريم الذي سيبقى في اللوح المحفوظ إلى الأبد. وتعتبر العربية اللغة السامية الوحيدة التي حافظت على وجودها حتى يومنا هذا، بينما لم يتبق من اللغات السامية الأخرى سوى آثار حروفها المنحوتة على الصخور، ويذكر أن اللغة العبرية انقرضت منذ عشرات القرون وأعيد أحياؤها في القرن التاسع عشر ق. م.
وتضمّ اللغة العربية ثمانية وعشرين حرفًا. وتعد خامس أكثر لغة من حيث عدد المتحدثين بها في العالم، فهناك أكثر من أربعمائة مليون نسمة يتحدثون العربية، وخمس وعشرين دولة تعتبر العربية لغتها الرسمية. ويطلق على اللغة العربية لغة الضاد، لأنها اللغة الوحيدة في العالم التي تضم ضمن حروفها حرف الضاد.
وقد تم اعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة اللغة العربية لغة رسمية (سادسة) لها عام 1973 بناءً على اقتراح قدمته المملكة العربية السعودية والمغرب خلال انعقاد الدورة 3190 للمجلس التنفيذي لمنظمة اليونسكو. وقد تقرر أن يخصص يوم 18 ديسمبر من كل عام يومًا عالميًا للاحتفال باللغة العربية، وكرس هذا التاريخ السنوي لإبراز إرث اللغة العربية ومساهمتها العظيمة في الحضارة الإنسانية. وتكتسب اللغة العربية أهميتها كونها لغة القرآن الكريم، ولغة أهل الجنة، وتعد اللغة العربية من أهمّ مقومات الهوية العربية، حيث عملت طويلاً على نقل تاريخ وثقافة الحضارات العربيّة عبر الزمن، وتعتبر من أهم العوامل التي حافظت على توحيد الأمة العربية، كما ساهمت في حفظ تاريخ العرب منذ العصر الجاهليّ ومن ذلك تاريخهم الكامل، وبطولاتهم، وشعرهم، وتراثهم الفكري والثقافي.
ونستذكر بهذا المقام قول خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز “إن من أجل النعم على أمة الإسلام نعمة القرآن الكريم الذي نزل بلسان عربي مبين (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)، فقد حفظ هذا الكتاب المبين لأمة العرب لغتها، ولأمة الإسلام طريق الخير والهداية وسائر الأحكام”.
ومن بين أهم أهداف الاحتفاء باليوم العالمي للغة العربية هي أن يتم لفت انتباه العالم إلى واحدة من بين أفضل اللغات التي كان لها أكبر الأثر في نهضة الغرب، من خلال ترجمة ما وصل إليه علماء العرب من أبحاث في كافة العلوم والفنون والثقافة.
وللغة العربية جمالها وسحرها نطقًا وحديثًا وقراءة ونثرًا وشعرًا وخطابة. وقد وصفتها المستشرقة الألمانية زيجريد هونكة بقولها: “كيفَ يستطيع الإنسان أن يُقاوم جمال هذه اللغة ومنطقها السليم، وسحرها الفريد؟، فجيران العرب أنفسهم في البلدان التي فتحوها سقطوا صَرْعى سحر تلك اللغة”، ووصفها المستشرق الفرنسي إرنست رينان بقوله: “من أغرب المُدْهِشات أن تنبتَ تلك اللغةُ القوميّةُ وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحاري عند أمّةٍ من الرُحّل، تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرةِ مفرداتها ودقّةِ معانيها وحسنِ نظامِ مبانيها، ولم يُعرف لها في كل أطوار حياتها طفولة ولا شيخوخة”، ويتحدث المستشرق الألماني كارل بروكلمان عن اتساع العربية قائلاً: “بلغت العربية بفضل القرآن من الاتساع مدى لا تكاد تعرفه أية لغة أخرى من لغات الدنيا”. ونوِّه المستشرق البريطاني ألفريد جيوم باستيعاب واتساع لغة الضاد قائلاً: “ويسهل على المرء أن يدرك مدى استيعاب اللغةِ العربيةِ واتساعها للتعبير عن جميع المصطلحات العلمية للعالم القديم بكل يسرٍ وسهولة، بوجود التعدد في تغيير دلالة استعمال الفعل والاسم”. أما المستشرقة البلغارية مايا تسينوفا فقالت عن اللغة العربية: “بعد دراستي للغة العربي اكتشفت أنه أصبح لفمي عقل”.
وقد سئل الكاتب العالمي غبريال غارسيا ماركيز في برنامج إذاعي ما هي اللغات التي سيستمر وجودها ولا تندثر؟ قال : الانجليزية ، الصينية ، الاسبانية ، العربية أما بقية اللغات فستندثر و تزول. سأله المذيع بعد حديثه عن اللغات الأخرى، ولماذا العربية؟ أجاب بحكم أنها لغة أخلاق وآداب، والعالم سيجد نفسه مضطرا إلى الرجوع اليها لاسترجاع قيمه الإنسانية بعد أن يكون قد فقدها بسبب النزعة المادية المتوحشة للحضارة الغربية.
ومن المعلوم أن الغرب بدأ بالاهتمام باللغة العربية منذ القرن العاشر للميلاد؛ ليطَّلع على ما فيها من العلوم الطبيعية والطب والفلسفة، وقد نقل أهم تلك الكتب إلى اللاتينية، وهو لسان العلم عندهم في ذلك الوقت.
ومن دلائل قوة اللغة العربية ورسوخها عبر التاريخ أن الكثير من اللغات الأخرى أخذت عنها العديد من المفردات، وهو ما نراه في اللغات التركية، والفارسية، والكردية، والأوردية، والهندية، والإسبانية والعبرية. وقد أخذت اللغتين الفارسية والعبرية من العربية طريقة كتابتها من اليمين إلى اليسار.
وتعرضت “العربية” للكثير من التحديات عبر العصور التاريخية، وخاصة في العصر الحديث، من ذلك محاولة إضعافها عبر الاستعمار بما في ذلك التتريك، والفرنسة (كما في لبنان والجزائر)، وطغيان استخدام العامية وتعدد لهجاتها بين الدول الناطقة بالعربية، من ذلك أيضًا العولمة، حيث بدأت العولمة تدخل الكثير من الألفاظ الإنجليزية إلى العربية، ويتم التعامل مها باعتبارها عربية (كنتاكي، ماكدونالدز، ببايز، فاست فود، سوبر ماركت، تلفون، إنترنت، إستراتيجية، أكاديمية، كمبيوتر، تاكسي، ماسج، موبايل، فورمات، …إلخ).
وقدّمت المجامع اللغوية في الوطن العربي خدمة جليلة للعربية، وعلومها، وآدابها، وأهلها، ولعبت دورًا كبيرًا الحفاظ على اللغة العربية، وتطويرها من كل الجوانب سواء العلمية واللغوية والأدبية وغيرها، وإضافة كلمات ومصطلحات جديدة لمواكبة تطورات العصر.
واليوم يبرز التحدي الأكبر أمام اللغة العربية في كيفية التعامل مع الذكاء الاصطناعي وتعزيز الابتكار مع الحفاظ على التراث الثقافي للغة العربية، وهو شعار اليوم العالمي للغة العربية هذا العام بعد أن أعلنت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونسكو” ومؤسسة سلطان بن عبد العزيز آل سعود الخيرية عن هذا الشعار ليكون عنوانًا للاحتفاء باليوم العالمي للغة العربية هذا العام. فقد أصبح من المعلوم أن الذكاء الاصطناعي، من أهم الأدوات التي يمكن أن تؤدي دوراً بارزاً في حفظ التراث وتعزيز التفاعل الثقافي بين الشعوب والثقافات المختلفة. ومن خلال مزيج من التكنولوجيا والإبداع البشري. يمكن للذكاء الاصطناعي أن يفتح آفاقًا جديدة لاستكشاف التراث وفهمه وتوثيقه، مما يجعل تجربة الإنسان مع تاريخه وثقافته أكثر إثراء وتجددًا. كما يفتح الذكاء الاصطناعي أفقًا جديدًا لتطوير أدوات مبتكرة تخدم اللغة العربية، وأهمية توظيف هذه التقنية لتعزيز استخدام اللغة وتسهيل تعلمها ونشرها عالميًا، وذلك في إطار رؤية شاملة تهدف إلى الحفاظ على هوية اللغة العربية الثقافية، مع الاستفادة من إمكانات الذكاء الاصطناعي لدعم تطورها واندماجها في عالم التقنية، مما يسهم في نقل التراث اللغوي للأجيال القادمة، ويعزز من حضور اللغة العربية في المجالات الأكاديمية والتقنية حول العالم.
ما تبذله المملكة العربية السعودية ممثلاً في جهود ومبادرات خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمين سمو الأمير محمد بن سلمان لخدمة الثقافة والتراث العربي، بما في ذلك الحفاظ على اللغة العربية وتطويرها ونشرها يعزز من مكانة المملكة كرائدة للنهوض العربي في كل صوره وأشكاله.

د. سونيا أحمد مالكي

طبيبة - مديرة إدارة الصحة المدرسية بتعليم جدة سابقًا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى