من المنطق البنائي المحكم والدقيق، يأتي الاهتمام بالبدايات، إذ تمثل الأسس والمنطلقات. فالبداية عنوان النهاية، وبينهما منعطفات وزوايا واتجاهات، لكنها في النهاية تمثل لحمة واحدة لا يمكن فصل بعضها عن بعض. ومن أخطاء أفلاطون إغراقه في المثالية حتى النخاع من خلال “جمهوريته الخيالية”، وتبعه الفارابي في “مدينته الفاضلة”، التي غرقت بدورها في المثالية.
هذه المحاولات، رغم جديتها في البحث عن العيش الأمثل للإنسان، وقعت في خطأ بنيوي بسبب افتقارها للواقعية. لو كان لهذين الفيلسوفين نصيب أوفر من الواقعية لأصابا الهدف وطبقا المفصل. إلا أن الإشكالية تكمن في القفز على المسلمات والبديهيات العمرانية، ما أدى إلى منح المدينة والمدن نصيب الأسد على حساب القرية والقرى، وهو ما يعد عوارًا واضحًا في فلسفة الإصلاح العمراني.
الإصلاح يبدأ من القاعدة
خلافًا لهذا النهج، فإن المنطق الصائب يؤكد أن الإصلاح الناجح يبدأ من القاعدة إلى الأعلى. يقول الله تعالى في كتابه العزيز: “قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ” (سورة الحجرات: آية 14).
الآية الكريمة تشير إلى أهمية التدرج والانتقال من طور إلى آخر، وعدم القفز على المنطلقات والأسس. وهذا يدعونا إلى قراءة جديدة لفلسفة العمران، التي يجب أن تبدأ من القرية والقرى، لتكون مصدراً لإمداد المدينة والمدن بالكوادر والقدرات الوطنية، ما يسهم في تعزيز تكامل حضاري يمتد ليشمل جميع أرجاء الوطن.
التحديات الحالية
رغم التطور الذي شهدته القرى السعودية بفضل دعم القيادة الرشيدة، من توفير الخدمات الأساسية مثل:
1. الطرق المعبدة.
2. الكهرباء.
3. المياه النقية.
4. خدمات الاتصالات.
5. مراحل التعليم ما قبل الجامعي.
6. الخدمات الطبية الأولية.
7. المراكز الأمنية.
إلا أننا نشهد هجرة متسارعة من القرى نحو المدن، ما يترتب عليه تبعات مالية باهظة. ومن أهم الأسباب:
1. التعليم الجامعي العالي
قلة توفر التخصصات الحيوية مثل الطب والهندسة في المحافظات، وتركزها في المدن، مما يدفع القرويين للانتقال بحثًا عن هذه الفرص.
2. ضعف استغلال الموارد الطبيعية
القرى والمحافظات تعاني من غياب الاستغلال الأمثل لمواردها الطبيعية، مثل الزراعة، الرعي، تربية العسل، والصناعات اليدوية، ما يحد من فرص البقاء فيها.
3. نقص الخدمات الطبية
ضعف الخدمات الطبية في القرى والمحافظات يؤدي إلى التكدس في مستشفيات المدن وإطالة مواعيد العلاج، مما يزيد من معاناة القرويين.
4. ضعف الدعم السكني
ضعف أو انقطاع الدعم السكني للبناء في القرى أدى إلى قلة عمارة المخططات المعتمدة، وبالتالي دفع السكان للانتقال إلى المدن.
الخاتمة
هذه أبرز التحديات التي تواجه تطوير القرى والقرى في السعودية. ومعالجتها تتطلب تكاملاً في الخدمات بين القرى والمحافظات، لتحقيق التوازن والحد من الهجرة نحو المدن.
وللحديث بقية.
رؤية حضارية عميقة واعية