الجدل argumentation وأدواته المستخدمة في الديالكتيك dialect من طرح للفكرة وشرح ودعم بالأدلة المنطقية وتأويل مايلزم وصولًا لاستنتاج كانت وستظل المنهج العقلي الأقدر غلى استجلاء الحقائق وضبطها وبالمحصلة الوصول لنمو فكري ومعرفي رصين مبني على منهاج محدد لاعلى تراشقات يحاول فيها المتجادلون تمرير وإمضاء إرادات على حساب القضايا قيد النقاش!
لذلك نمت المعرفة بشكل مذهل مع سقراط وهو يحاور السفسطائيين ، وتطورت في محاورات أفلاطون ، واينعت في رياض المنطق الأرسطي وفي العقلية الرشدية ولدى الجدلية الهيجلية والماركسية بصرف النظر عن مضمونها ! نمت المعرفة لأنها جعلت الفكرة محور النقاش وليس القائم على الفكرة! نجحت لانها استهدفت الموضوع لا صاحب الموضوع ! ولذلك كان التراشق المعرفي ممتعًا ومحفزًا للتفكير وموصلًا لنتائج انعكس أثرها على نماء الإنسان وإزدهار المكان .
هذا السلوك الجميل في فترات متقافزة من تاريخ الجدل الإنساني قابله في العصر الحديث نكوص في هضم المعنى الحقيقي للمجادلة وتحولها من ابتغاء الحقيقة إلى صنع الانتصارات الكلامية. ولذلك أصبح للجدل في مجتمعاتنا العربية تعريف آخر يمكن اختصاره ووصفه بأنه حالة من المراهنة على استعداء الآخرين ! ووفقًا لهذا التعريف فإن الدخول مع بعض القراء والمثقفين العرب في حالة جدلية قد لايكون أكثر من مجازفة نفسية يحكمها قطبين مخيفين : السكوت عن إبداء الرأي حول الفكرة الرصينة موضع النقاش تجنبًا للاصطدام أو الانخراط في نزال ومعارك كلامية قد تسفر عن خسائر مفزعة!
ومن مظاهر سلبية الجدل لدى بعض المثقفين المشارقة أن يعمد أحدهم – عن قصد – إلى تسخيف كل فكرة تنبثق عمن يجادله دونما إبداء رغبة صادقة لفهم المواقف التي ينطلق منها مجادله! وفي هذه الحالة تحديدًا يصبح الجدل مشخصنًا بالكامل فيخفت الموضوع قيد النقاش ويتحول تدريجيًا لمساءلة تخصصات المتجادلين وخبراتهم وسلوكياتهم ودوائر اهتماماتهم وقراءاتهم ثم يستعر الموقف قليلًا ليتناول مواقفهم السابقة ويحاسب نواياهم المستترة ليصل في نهاية المطاف لتقاذف التهم والتلاسن المخجل وربما العراك بالأيدي في بعض المواقف الحية والمباشرة ! كل هذا يتم بعيدًا عن موضوع النقاش قريبًا من شخوص المتناقشين !
ولأن الجدل المنتج يعني المهنية والالتزام والتقبل للآخر بصرف النظر عن قبول مايطرحه ، فإن الخاسر الأكبر من الجدل العقيم هو المستمع والمشاهد لمسرح عمليات هذا النوع من الجدل المشين ! الخسارة حينها تصبح متعدية إلى المجتمع الذي ينتظر الفكر الرزين ، والفائدة المعرفية ، والمتعة اللطيفة لينتهي به الحال متفرجًا لجولة من المصارعة الكلامية المورثة لحالة مخجلة والتي لايمكن بحال أن تسمى حديثًا عوضا عن تسميتها نقاشًا أو جدالًا !
إنني على يقين أن لدينا معضلات ثقافية في عالمنا العربي والتي تعود في الأصل لعوامل نفسية وإجتماعية وايديولوجية افرزت مايمكن وصفه بحالة اعتلال ثقافي شامل Mass Cultural Deficiency وهي بالمناسبة حالة قابلة للعلاج إذا بذلت لها أسبابها !
ففي سبيل علاجها لابد من اصلاح عميق للفكر أولًا ولمناهج التعليم المتعلقة بالتخاطب الإنساني وأنواع التواصل وطرق الحديث ومآلات الكلام . جهد آخر لابد أن يبذل حول التوعية المجتمعية لمعاني التعايش مع الآخرين ليس على صعيد السكن والعمل بل على صعيد التعايش الفكري والثقافي والمعرفي . جهد مماثل لابد أن يبذل حول تحرير مفاهيم الانتصار والهزيمة من انغلاقها وأن الهزيمة تختلف عن الاقرار بالغلبة فقد يخال لأحدهم أن ظهور حجة خصمه هزيمة له بينما هي في حقيقتها انتصار للواقع وليس لخصمه والواقع ملك مشاع للجميع بما في ذلك كلا المتجادلين ! وأخيرًا ، فإن الحكمة ضآلة المؤمن وهي عبارة كريمة غاية في الرشد والعمق فنحن حينما نبحث عن ضآلتنا فإننا نعترف ضمنيًا بقيمتها الكبيرة وأثرها على ذواتنا ! وعليه فالقبول بجدل إيجابي يانع ومثمر هو تمثل لتلك الحالة التي يبحث فيها الإنسان عن الحق وعن الكمال وعن الرشد والجمال !