المقالات

ويليام برادلي و”مكتوب”: فلسفة القضاء والقدر في مواجهة الحياة

الإيمان بالقضاء والقدر ركيزة أساسية في العقيدة الإسلامية، وهو عقيدة تجمع بين التسليم لأمر الله والأخذ بالأسباب. تتجلى هذه العقيدة في حياة المسلمين على مر التاريخ، حيث كانت مصدر صبرهم وثباتهم في مواجهة الابتلاءات. ومن بين الرحالة الذين لاحظوا هذا الجانب العميق من الإيمان، يبرز اسم ويليام برادلي، الضابط البريطاني الذي زار الصحراء المغربية بعد الحرب العالمية وكتب عن سكانها في كتابه “في ظلال الصحراء” (Shadows of the Desert).

لفت برادلي انتباهه كلمة “مكتوب” التي كثيرًا ما يرددها أهل الصحراء، معتبرًا أنها ليست مجرد كلمة، بل هي تعبير عن فلسفة إيمانية تجعلهم أكثر صبرًا وتماسكًا رغم قسوة ظروفهم. ويقدم لنا هذا المفهوم اليوم درسًا عظيمًا في مواجهة أزمات العصر الحديث التي تزداد تعقيدًا وتؤثر على الصحة النفسية للإنسان.

“مكتوب”: فلسفة القضاء والقدر في الإسلام

“مكتوب” هي كلمة يستند معناها إلى الإيمان بالقضاء والقدر، إذ تعني أن كل ما يحدث في الحياة هو بتقدير الله وعلمه الأزلي. قال تعالى:

“إنا كل شيء خلقناه بقدر” [القمر: 49].

ويمثل هذا الإيمان مصدر راحة نفسية وفلسفية، حيث يدرك الإنسان أن كل ما يمر به هو جزء من حكمة إلهية، سواء كان خيرًا أو شرًا.

قال النبي صلى الله عليه وسلم:

“واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك” [رواه أحمد].

ويليام برادلي وشهادة “مكتوب” في الصحراء المغربية

في كتابه “في ظلال الصحراء”، كتب برادلي عن حياته بين الصحراويين المغاربة بعد الحرب العالمية. لاحظ قدرتهم العجيبة على التحمل رغم فقرهم وشدة بيئتهم القاسية، ورأى أنهم يعيشون وفق فلسفة “مكتوب”. يقول برادلي:

“إن كلمة ‘مكتوب’ ليست مجرد تبرير لأقدارهم، بل هي قوة نفسية جعلتهم قادرين على الصمود أمام ما كنا نعدّه مستحيلًا”.

أدهشه كيف أن الصحراويين، رغم الأزمات، لا يفقدون هدوءهم ولا يتذمرون، بل يواجهون مصاعب الحياة بثقة في حكمة الله، معتبرين أن كل ما يحدث مقدّر ومكتوب.

ويضيف في وصفه:

“كنا نحن نرتعد خوفًا من الغد ونفكر في كل ما يمكن أن يصيبنا، بينما هم يسيرون بهدوء وكأنهم يعرفون أن ما كتب لهم سيأتيهم لا محالة”.

البعد الفلسفي لـ”مكتوب” وأثره في الحالة النفسية

في ظل الحياة الحديثة، أصبح الإنسان يعاني من التوتر والقلق بسبب غموض المستقبل وكثرة التحديات. وهنا يبرز الإيمان بالقدر كحل فلسفي ونفسي يعالج هذه الأزمات:
1. التحرر من القلق:
القلق بشأن المستقبل أحد أبرز مشكلات العصر. الإيمان بـ”مكتوب” يحرر الإنسان من هذا القلق، لأن ما قدّره الله سيقع حتمًا. قال تعالى:
“قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون” [التوبة: 51].

هذا اليقين يهدئ النفس ويمنحها الراحة في مواجهة المجهول.
2. الصبر على الابتلاءات:
يعلّم الإيمان بالقضاء والقدر الإنسان كيف يصبر ويتحمل عند المصائب. قال تعالى:
“وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون” [البقرة: 155-156].

من خلال كلمة “مكتوب”، وجد برادلي أن أهل الصحراء قادرون على التعايش مع الصعاب دون أن تهتز ثقتهم.
3. التوازن بين السعي والتسليم:
يُعطي الإيمان بالقدر توازنًا بين العمل والرضا، إذ يسعى الإنسان لتحقيق أهدافه ويعلم أن النتائج بيد الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز” [رواه مسلم].

هذا التوازن يحمي الإنسان من الاستسلام أو الإفراط في القلق.

“مكتوب” في مواجهة أزمات العصر: الوحدة والتفكك النفسي

في عصرنا الحالي، باتت الوحدة والانعزال النفسي مشكلات تهدد الإنسان المعاصر. التكنولوجيا والعولمة زادت من عزلة البشر، وأصبحت الحياة مليئة بالتعقيدات التي تستهلك طاقته النفسية.
1. علاج الوحدة:
الإيمان بـ”مكتوب” يعيد الإنسان إلى صلته بالله، مما يشعره بالطمأنينة والأنس، ويخلصه من مشاعر الوحدة القاتلة. قال تعالى:
“ومن يؤمن بالله يهد قلبه” [التغابن: 11].
2. مواجهة الأزمات النفسية:
يعاني الكثيرون من القلق والاكتئاب نتيجة الضغوط الاقتصادية والاجتماعية. الإيمان بالقضاء والقدر يخفف من هذه الضغوط، لأن الإنسان يدرك أن رزقه وأجله مكتوبان. قال النبي صلى الله عليه وسلم:
“إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة” [رواه مسلم].

هذا الإيمان يعيد التوازن النفسي للإنسان ويمنحه قوة الصبر والرضا.

التاريخ الإسلامي: تجارب إيمانية عبر الزمن

عبر تاريخ المسلمين، كان الإيمان بالقضاء والقدر مصدر قوة نفسية وروحية:
• في معركة بدر، رغم قلة عدد المسلمين، نصرهم الله لأنهم آمنوا بقدره.
• في أوبئة مثل طاعون عمواس، واجه الصحابة المرض بالصبر والإيمان، مقتنعين بأن ما كتب الله لهم سيقع.

تاريخيًا، ظل الإيمان بالقدر دافعًا للعمل والأمل، ولم يكن أبدًا مدعاة للاستسلام أو السلبية.

الخاتمة

إن شهادة ويليام برادلي حول كلمة “مكتوب” في الصحراء المغربية ليست مجرد ملاحظة عابرة، بل هي تأكيد على قوة الإيمان بالقضاء والقدر كمنظومة نفسية وفلسفية. ففي عصر تتزايد فيه الضغوط النفسية ومشكلات الوحدة والتفكك، يبقى الإيمان بـ”مكتوب” ملاذًا يحقق التوازن الداخلي ويمنح الإنسان راحة وطمأنينة.

إن كلمة “مكتوب” ليست مجرد لفظ يردده المسلمون، بل هي عقيدة حياة تحميهم من قلق المستقبل، وتعينهم على الصبر والرضا، وتجعلهم أكثر قوة وصلابة في مواجهة صعوبات الحياة.

• عضو المجلس الأوربي للقيادات المسلمة

د. فايد محمد سعيد

عضو المجلس الأوروبي للقيادات المسلمة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى