المقالات

محمد بن سلاّم وطبقات فحول الشعراء

أبو عبد الله محمد بن سلاّم بن عبيد الله الجمحي مولده بالبصرة في سنة 139هـ ووفاته ببغداد 232هـ من علماء أواخر القرن الثاني الهجري وأوائل القرن الثالث أحد الإخباريين والرواة ونقدة الشعر والنفاذ فيه صاحب كتاب (( طبقات فحول الشعراء )) وهي التسمية الصحيحة لأنه اختار عدداً من الشعراء الفحول المعلومين وعددهم 114شاعراً فحلاً , ولقوله في كتابه (( فاقتصرنا من الفحول المشهورين على أربعين شاعراً فألّفنا من تشابه شعره منهم إلى نظرائه فوجدناهم عشر طبقات أربعة رهط متكافئين معتدلين )) انظر : طبقات فحول الشعراء 1/ 24, وهذه كلمة دالة وهي مطابقة لما فعل , وأما تسمية طبقات الشعراء فإن ذلك ثوب فضفاض لا يطابق ما في كتابه , ومن يميل إلى هذه التسمية فإنما هي على سبيل الاختصار .
كان ابن سلاّم بصرّياً عدّه الزبيدي الأندلسي صاحب طبقات النحويين واللغويين في الطبقة الخامسة من اللغويين البصريين فعرف يونس وخلفاً وأبا عبيدة والأصمعي والمفضل الضبي عرف كل هؤلاء معرفة علمية وتربى في بيئتهم وعلى أذواقهم وخاض في كل ما خاضوا فيه من المسائل الأدبية كالخوض في مذاهب الشعراء وفي منازل بعض منهم وفي الأشعار التي تسند إلى غير قائليها وفي النظر إلى الأدب نظرات متصلة ببيئته وكانت أحكاماً ذاتية انطباعية وجزئية غير معللة إلا أنه تفرّد عنهم بأنه أول من نظّم البحث في هذه الأفكار ,وعرف كيف يعرضها ويبرهن عليها ويستنبط منها حقائق أدبية بالإضافة إلى أنه صبغ هذه الأفكار بالصبغة العلمية وأودعها كتابه القيّم (( طبقات فحول الشعراء )) أقدم وثائق النقد المدونة فهو بذلك من الذين أفسحوا ميادين النقد وهو بذلك أول المؤلفين فيه .
إن أول ما يسترعي انتباه الدارس مفهوم الطبقة , ومادة { طبق } تؤول أكثر معانيها في لسان العرب إلى تماثل شئين إذا وضعت أحدهما على الآخر ساواه وكانا على حذو واحد فقيل منه : تطابق الشيئان إذا تساويا وتماثلا ,وسمّوا كل ما غطى شيئاً { طبقاً } لأنه يغطيه حتى يكون مماثلاً له. وسمّوا أيضاً مراتب الناس ومنازل بعضهم فوق بعض طبقات .
والطبقة النظراء المتكافئون والمتقدمون والمبرزون , فجعل الشعراء طبقات ,وجعل الأربعة الجاهليين أولَّ طبقات الجاهلية والثلاثة الإسلامين أول طبقات الإسلام مضيفاً إليهم الراعي النميري .. وهكذا .
والتشابه عند ابن سلام لا يعني التطابق فهذا باطل لا يقبله العقل وإنما يعني وجوهاً من الشبه في المناهج والمذاهب مع اختلاف ظاهر يتميز به كل واحد منهم عن صاحبه وبهذا الاختلاف يكون كل واحد منهم رأساً في هذا المذهب من مذاهب الشعر .
ولم يفسر لنا ابن سلاّم هذه المذاهب وهذه المناهج ولم يدلنا على الأساس الذي بنى عليه ما ذهب إليه من تشابه المناهج , وترك لنا نحن استخراج أسلوبه في النظر حتى انتهى إلى ما انتهى إليه من تشابه هؤلاء الأربعة النظراء من الفحول في مناهجهم , وحمّلنا عبء النظر حتى نعرف ما هي هذه المناهج العشرة من مناهج الشعر من خلال قراءة أشعار هؤلاء الفحول .
وينقسم الكتاب إلى قسمين كبيرين الأول لفحول الشعراء في الجاهلية , والثاني لفحول شعراء الإسلام مدرجاً في طبقاتهما الشعراء المخضرمين ,ثم خصص طبقة لشعراء القرى العربية , المدينة ومكة والطائف والبحرين واليمامة , ومع أنه تحدث عن شعراء المدينة في الطبقة السابقة إلا أنه أفرد طبقة أخرى لشعراء يهودها قائلاً : (( وفي يهود المدينة وأكنافها شعرٌ جيد )) انظر : طبقات الفحول 1/ 279, وخصّص كذلك طبقة لشعراء المراثي
ويشتمل الكتاب على مقدمة ناقشت القضايا الآتية :
أولا : مفهوم الشعر ، فقد جعل ابن سلام الشعر صناعة لا يحسنها إلا من كان على دراية واسعة بها ، فشأن الشعر عنده كشأن سائر الصناعات . يقول : (( وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات ، منها ما تثقفه العين ، ومنها ما تثقفه الأذن ، ومنها ما تتثقفه اليد ، ومنها ما يتثقفه اللسان … فكذلك الشعر يعلمه أهل العلم به )) انظر : طبقات فحول الشعراء 1/ 5.
وقد لاحظ ابن سلام أن بعض الشعر الجاهلي الذى يتناقله الرواة مصنوع ، واستدل على ذلك بدليلين ، أولهما : عدم وجود قرينة على انتماء بعض ما يتداوله الرواة مكتوباً إلى العصر الجاهلي ، فهو لم يأت مروياً عن أهل البادية ، ولم يعرض على علماء العربية الثقات . وثانيهما : يعود إلى ضعف مستوى ذلك الشعر ، يقول (( وفي الشعر مصنوعٌ مُفْتَعَلٌ موضوعٌ كثير لا خيرَ فيه ، ولا حُجَّةَ في عَرَبِيَّة ، ولا أدبٌ يُستفاد ، ولا معنىً يُسْتخرج ، ولا مَثَلٌ يُضْرَب ، ولا مديحٌ رائعٌ ، ولا هجاءٌ مُقْذِعٌ ، ولا فخرٌ مُعْجِبٌ ، ولا نسيبٌ مُسْتَطْرَفٌ )) انظر : طبقات الشعراء 1/4.
ويشير إلى أن هذا الشعر لم يؤخذ شفاهاً وإنما أخذ عن الصحف وهي عرضة للتحريف والتبديل والنسخ والإزالة يضاف إلى ذلك أنه لم يعرض على علماء الشعر لتصحيحه وتوثيقه يقول : (( وقد تداوله قوم من كتاب إلى كتاب لم يأخذوه عن أهل البادية ولم يعرضوه على العلماء , وليس لأحد إذا أجمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء منه أن يقبل من صحيفته , ولا يروى عن صحفي )) انظر : طبقات فحول الشعراء 1/ 4
ثم يمثل للشعر الموضوع الذي نسبه إلى محمد بن إسحق صاحب السيرة ، إذ يرى أنه هجَّن الشعر وأفسده وحمل كل غثاء فيه وأورد في كتابه أشعاراً لأناس لم يقولوا شعراً قط ، وأشعار النساء فضلاً عن الرجال , بل جاوز ذلك إلى أن أورد أشعاراً ترجع إلى قوم عاد وثمود ، قال : (( فكتب في السِّيَر أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعراً قط ، وأشعار النساء فضلاً عن الرجال ، ثم جاوز ذلك إلى عادٍ وثمودَ ، فكتب لهم أشعاراً كثيرة ، وليس بشعر ، إنَّما هو كلامٌ مؤلَّفٌ معقودٌ بقَوَافٍ )) انظر : طبقات فحول الشعراء 1/ 8.
الأمر الذى جعل ابن سلام ينفى هذا الشعر ، ويرفضه ؛ مبيناً الأدلة التي تستدعى رفضه ، وهى :
1 ـ دليل نقلي : ويتمثل فيما جاء في القرآن الكريم من آيات عديدة تتحدث عن الأمم السابقة وانقطاع دابر بعضها ، قال تعالى : (( وأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الأُولَى وثَمُودَ فَمَا أبْقَى )), وقال في عاد : (( فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِن بَاقِيَةٍ )) فإذا كان الله قد أهلك قوم عاد وثمود جميعاً فمن إذن حمل هذا الشعر ؟ ، ومن أدَّاه منذ آلاف من السنين؟. انظر : طبقات فحول الشعراء 1/ 8
2ـ أن اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم واستعملت في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – وهي العربية الفصحى لغة عرب الشمال أبناء إسماعيل – عليه السلام – لم تكن موجودة في عهد عاد وثمود ، وليس يصح في الأذهان أن يوجد شعر بلغة لم توجد بعد . فأول من تكلم بالعربية هو إسماعيل بن إبراهيم وإسماعيل كان بعد عاد وثمود. وعليه فإن الشعر الموضوع المنحول الذى نسبه الرواة إلى قوم عاد لا يمثل لغة عاد ، فعاد من اليمن ولسان اليمنيين يختلف عن هذا اللسان العربي ، ويستدل ابن سلام على ذلك بقول أبى عمرو بن العلاء)) العرب كلُّها وَلَدُ اسماعيلَ ، إلاّ حِمْيَرَ وبقايا جُرْهُم )) طبقات فحول الشعراء 1/ 9 . وقوله : (( ما لسانُ حِمْيَرَ وأقاصِي اليمن اليوم بلساننا ولا عربيَّتهم بعربيَّتنا )) انظر طبقات فحول الشعراء 1/ 11
ويقيم الحجة على رواة تلك الأشعار الموضوعة فيقول : (( فكيف بما على عهد عاد وثمود ، مع تداعيه وَوَهْيِه ؟ فلو كان الشعر مثل ما وُضِع لابن إسحاق، ومثل ما روى الصُّحُفِيُّون ، ما كانت إليه حاجة ، ولا فيه دليل على علم )) طبقات فحول الشعراء 1/ 11.
3ـ أن تاريخ الأدب العربي لا يذهب بالشعر الجاهلي إلى ذلك العصر الموغل فى القدم ، بل إن ازدهار الشعر لم يكن قبل الإسلام بكثير ، (( ولم يكن لأوائل العرب من الشعر إلا الأبيات يقولها الرجل فى حَاجتِه ، وإنَّما قُصّدَتْ القصائد ، وطُوِّلَ الشعر فى عهد عبد المطلب وهاشم بن عبد مناف وذلك يدل على إسقاط شعرِ عادٍ و ثمودَ وحِمْيَرَ وتُبَّع)) طبقات فحول الشعراء 1/ 26.
4- ولم يقتصر ابن سلام في تناول ظاهرة وضع الشعر على هذه الأدلة بل أضاف إلى ذلك دليلاً فنّياً يتثمل في النقد الداخلي لنص هذا الشعر الموضوع والكشف عن خصائصه الفنية واللغوية ويبدو هذا بوضوح من وصفه الشعر المنسوب لعاد وثمود بأنه ضعيف الأسر قليل الطلاوة وهو أقرب إلى النظم منه إلى الشعر (( فهو كلام مؤلف معقود بقواف )) أي نظم يخلو من المتعة والإحساس وإثارة الوجدان .
و يرجع ابن سلام قضية الانتحال في الشعر الجاهلي إلى سببين :
أولا : العصبية في العصر الإسلامي : فقد حرص كثير من القبائل العربية على أن تضيف لإسلامها ضروبا من المكانة والمجد . والشعر الجاهلي ضاع منه الكثير كما يرى أبو عمرو بن العلاء ، وكما فطن إلى ذلك من قبله عمر بن الخطاب – رضى الله عنه – إذ قال : كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه . انظر : طبقات فحول الشعراء 1/ 24.
يقول أبو عمرو بن العلاء : (( ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله ، ولو جاءكم وافرًا ، لجاءكم علمٌ وشعرٌ كثير )) طبقات فحول الشعراء 1/ 25.
أما أسباب ضياع ذلك الشعر فقد بيَّنها ابن سلام فى قوله : (( فجاء الإسلام ، فتشاغلت عنه العرب وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم ، ولَهَتْ عن الشعر وروايته . فلما كثر الإسلام وجاءت الفتوح ، واطمأنَّت العرب بالأمصار راجعوا رواية الشعر ، فلم يؤولوا إلى ديوان مُدوَّن ولا كتاب مكتوب ، وألّفوا ذلك وقد هلك من العرب مَنْ هلك بالموت والقتل ، فحفظوا أقل ذلك ، وذهب عليهم منه كثير )) طبقات فحول الشعراء 1/ 25.
لذلك لاحظ ابن سلام قيام بعض القبائل التى قَلَّ نصيبها فيما بقى من شعر بالوضع على ألسنة شعرائهم (( فلما راجعت العرب رواية الشعر ، وذِكر أيامها ومآثرها ، استقلَّ بعض العشائر شعر شعرائهم ، وما ذهب من ذكر وقائعهم . وكان قومٌ قلَّتْ وَقائعُهم وأشعارهم فأرادوا أن يلحقوا بمن له الوقائع والأشعار ، فقالوا على ألسنة شعرائهم ثم كانت الرُّواة بعد ، فزادوا فى الأشعار التى قيلت )) طبقات فحول الشعراء 1/ 46.
ونحن نتفق مع ابن سلام في أن كثيراً من الشعر الجاهلي قد ضاع ومات كثير من رواته لكننا نختلف معه في ادعائه بانشغال العرب بعد الإسلام بالفتوح عن قول الشعر فالمتأمل في تراثنا الشعري بعد الإسلام يتضح له أن الشعر لم ينضب معينه ,لكنه وُجّه في بداية الدعوة الإسلامية وجهة أخرى نحو خدمة العقيدة الإسلامية وظهر فيه نوع من التمسك بالقيم الإسلامية . وهذا يفسر لنا سرّ وصف الأصمعي شعر حسان بن ثابت في الإسلام باللين والضعف بالقياس إلى شعره في الجاهلية .
ثانيًا : ويتمثل ذلك في الرواة أنفسهم ، وزيادتهم في الأشعار ، ويذكر ابن سلام الجمحي مثالين للرواة المتزيدين وهما ؛ داوود بن متمم ، وحماد الراوية ، ويبرهن على ذلك بطرفة بن العبد ، وعبيد بن الأبرص ، فهما مقدمان مشهوران ، والمروى لهما عند المصححين قليل ,فعبيد بن الأبرص قديم عظيم الذكر عظيم الشهرة ، وشعره مضطرب ذاهب ، لا يعرف ابن سلام الجمحي له إلا قوله :
أقفر من أهله ملحوب *** فالقطبيات فالذنوب
ولا أدري ما بعد ذلك . انظر : طبقات فحول الشعراء 1/ 139
(( وحسان بن ثابت كثيرُ الشعر جيده ، وقد حُمل عليه ما لم يُحمل على أحد ، لما تعاضهت قريش واستتبت ، وضعوا عليه أشعارًا كثيرة لا تنقى )) طبقات فحول الشعراء 1/ 215.
(( وعدّي بن زيد كان يسكن الحيرة ويراكن الريف ، فلان لسانه ، وسهل منطقه ، فحمل عليه شيء كثير وتخليصه شديد )) طبقات فحول الشعراء 1/ 140.
(( وكان أبو طالب شاعرا جيد الكلام ، أبرع ما قاله قصيدته التي مدح فيها النبي – صلى الله عليه وسلم – :
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه *** ربيع اليتامى عصمة للأرامل
وقد زيد فيها وطولت )) طبقات فحول الشعراء 1/ 244. (( ولأبي سفيان بن الحارث شعر كان يقوله في الجاهلية فسقط ولم يصل إلينا منه إلا القليل )) طبقات فحول الشعراء 1/ 247.
وابن سلام الجمحي في هذه القضية يدّون الحقائق العلمية الشائعة في عصره ، ويلم بالفكرة من أطرافها ، ويأخذها أخذ العلماء بالنظر والتحليل .
** صنف ابن سلام شعراء الجاهلية عشر طبقات ، في كل طبقة أربعة شعراء متكافئين معتدلين ، وبذلك اختار من الشعراء الجاهليين أربعين شاعرًا ، وكذلك أربعين في طبقات الشعراء الإسلاميين ، وأربعة شعراء في طبقة أصحاب المراثي ، واثنين وعشرين شاعرا في طبقة شعراء القرى العربية ، وثمانية في طبقة شعراء اليهود ، فهم جميعا 114 شاعرًا .
يقول : (( ففصلنا الشعراء من أهل الجاهلية والإسلام والمخضرمين الذين كانوا في الجاهلية وأدركوا الإسلام فنزلناهم منازلهم واحتججنا لكل شاعر بما وجدنا له من حجة وما قال فيه العلماء )) انظر : طبقات فحول الشعراء 1/ 24
وقد نبَّه ابن سلام ـ وهو يُقْدِم على وضع الشعراء فى طبقات على أن ذكره شاعر قبل قرنائه فى الطبقة الواحدة لا يعنى أنه الأعلى مكانة المُقَدَّم على باقي شعراء الطبقة ؛ بل إن هذا الأمر لا يخضع لأى معيار نقدى ؛ لأنه لا بد أن يبدأ بذكر أحدهم ، يقول : (( وليس تَبْدِئَتُنا أحدَهُم فى الكتاب نحكُمُ له ، ولا بُدَّ من مُبْتَدَأٍ )) طبقات فحول الشعراء 1/ 50.
ومع ذلك فإننا نجد ابن سلام فى كثير من الأحيان يوازن بين شعراء الطبقة الواحدة ، أو بين شاعر وآخر داخل الطبقة ، فيورد رأى العلماء فيهم ,ويختار من شعرهم ما يؤكد هذا الرأي ، ثم يفسر بعض الكلمات الغريبة التى قد ترد فى الشعر ـ وهذا قليل ـ أو يورد آراء علماء اللغة فيها ، وفى حالات قليلة يبيِّن رأيه ، وشواهد ذلك فى طبقاته كثيرة ؛ من ذلك ـ مثلاً ـ ما نراه فى المفاضلة بين شعراء الطبقة الأولى من الجاهليين ؛ وهم : امرؤ القيس والنابغة الذبياني وزهير بن أبى سلمى والأعشى ، حيث يورد العديد من آراء العلماء واختلافهم فى المفاضلة بين شعراء هذه الطبقة ، ورتّب ابن سلام الشعراء داخل الطبقة الواحدة وفقا للأهمية ، وكان يبدأ بالحديث عن نسب كل منهم ، ويعرض ما قاله العلماء فيهم وما كان من تفضيل شاعر على آخر ، وفي بعض الأحيان نراه يفسر الكلمات الغريبة التي تأتي في قصائد الشعراء ، وآراء علماء اللغة فيها ، وكانت له آراء خاصة في مزاعم هؤلاء اللغويين ؛ فقد كان يختلف معهم أحيانا ، ويتفق معهم أحيانا أخرى .
وأخضع تقسيمه لأسس أربعة حصرها في الزمان المتمثل في { الجاهلية والإسلام وفترة الخضرمة بينهما } والمكان { شعراء البادية وشعراء القرى العربية ) والفنّ الأدبي كطبقة شعراء المراثي – وإفراده لهذا الفن لإدراكه أهمية هذا الفنّ وقيمته الفنّية والتعبيرية – وطبقة الغزليين وطبقة الرّجاز والناحية الدينية كمعتقدات الجاهلية وتعاليم الإسلام والديانة اليهودية , وأما المسيحية فلم تكن ذات شان في الجزيرة إذا استثنينا اليمن ونجران التي قرّر ابن سلام في مقدمته أن لغة اليمن ليست بلغتنا ولسانهم غير لساننا .. وهذه الأسس أوصلته إلى اختيار المقاييس النقدية لتقديم الشاعر وتأخيره .
وجعل الفحولة هي الأساس الأول لاختيار الشعراء والمفاضلة بينهم فكل من ذكرهم في كتابه شعراء فحول صرح بذلك لدى ذكره شعراء الجاهلية يقول : (( هم فحول إلا أن الفحولة تتفاوت .. )) وهذا بلا شك اختيار نقدي قائم على الفحولة وتساوي الأشعار عند شعراء الطبقة الواحدة . فابن سلام يجعل الشعراء المشهورين فحولاً ولكن الفحولة تتفاوت بينهم ومن هنا جاء التقسيم إلى طبقات بين التقديم والتأخير خاضعاً لمبدأ تفاوت الفحولة بين الشعراء .
يقول : (( كان أوس فحل مضر .. )) طبقات فحول الشعراء 1/ 97, ويقول عن خداش بن زهير : ((هو أشعر في قريحة الشعر من لبيد، وأبي الناس إلا تقدمة لبيد)) طبقات فحول الشعراء 1/ 144. وقال أيضاً: (( الكميت بن معروف، وهو شاعر، وجده الكميت بن ثعلبة شاعر، وكميت بن زيد الآخر شاعر. والكميت بن معروف الأوسط أشعرهم قريحة، والكميت بن زيد أكثرهم شعراً)) طبقات فحول الشعراء 1/ 195.
ويقول : (( غير أن الفحول قد استجازوا في موضع نحو قول جرير )) ويقول : (( وكان أبو ذؤيب شاعراً فحلاً لا غميزة فيه ولا وهن )) طبقات فحول الشعراء 1/ 131.وقد وضع مقاييس نقدية لفحولة الشاعر جاءت على النحو التالي :
1 – جودة الشعر فلم يورد المهلهل في طبقاته مع أنه سبق الشعراء الفحول إلى تقصيد القصائد وذكر الوقائع ؛وذلك لأن شعره مضطرب ومختل كان سبباً في إهماله ومن هنا سمّي مهلهلاً لهلهلة شعره , فلو كان ابن سلام يورد كل شاعر من الفحول المتقدمين لأنه شاعر فقط لأورد المهلهل ولكنه أخضع الشعراء السابقين لمقاييس نقدية .
وجَعْلُه امرأ القيس أول الطبقة الأولى لإجماع أهل العلم على تقديمه ,ويعلل ابن سلام هذا التقديم بأنه سبق العرب إلى أشياء ابتدع ها واستحسنتها العرب , وهذا الاستحسان قائم على الجودة يقول ابن سلام: (( فاحتج لامرئ القيس من يقدمه قال : ما قال ما لم يقولوا، ولكنه سبق العرب إلى أشياء ابتدعها ، واستحسنتها العرب واتبعته فيها الشعراء : استيقاف صحبه ، والبكاء على الديار ، ورقة النسيب، وقرب المأخذ ، وشبّه النساء بالظباء وبالبيض، وشبه الخيل بالعقبان والعصي وقيّد الأوابد، وأجاد في التشبيه ، وفصل بين النسيب وبين المعنى) طبقات فحول الشعراء 1/ 55.
ويعني : ( إخلاص القول في النسيب ) أي لا يخلطه بصفة ناقته أو فرسه أو صيده أو مآثره، فإذا فرغ من النسيب الخالص، أخذ في أي معنى من هذه المعاني) هامش 1/ 55
ويعد هذا الفصل أمارة نضج في القصيدة العربية، فهو تحرير لأغراضها ليكتمل شكلها . يقول في التشبيه :
كأن قلوب الطير رطباً ويابساً *** لدى وكرها العناب والحشف البالي
وقوله : مكر مفر مقبل مدبر معا *** كجلمود صخر حطه السيل من عل
وقوله : له أيطلا ظبي وساقا نعامة *** وإرخاء سرحان وتقريب تتفل
ومن مظاهر الجودة الجزالة يقول عن شعر النابغة : (( وقال من احتج للنابغة: كان أحسنهم ديباجة شعر، وأكثرهم رونق كلام، وأجزلهم بيتاً، كأن شعره كلام ليس فيه تكلف، والمنطق على المتكلم أوسع منه على الشاعر، والشعر يحتاج إلى البناء والعروض والقوافي، والمتكلم مطلق يتخير الكلام )) طبقات فحول الشعراء 1/ 56. ونستنتج من هذا النص إن لغة الشعر تمتاز بالجزالة وحسن الديباجة وكثرة الرونق أي (جودة النسج واستوائه) .
وقد وصف ابن سلام بهذه الأوصاف الغامضة وغيرها لغة عدد من الشعراء مثل البعيث والقطامي , انظر : طبقات فحول الشعراء 2/ 535. وأشار إلى فصاحة عدد من الشعراء مثل ذي الرمة 2/569, وعمرو بن أحمر 2/ 580, وأشار إلى شدة أسر شعر عدد منهم مثل عبدالله بن قيس الرقيات ، وابن الزبعرى 2/ 648. وأشار إلى لين شعر عدي ابن زيد 1/ 140 وكذلك لين أشعار قريش 1/ 245. وأشار أيضاً أن لغة الشعر تفترق عن سائر الكلام بثلاثة عناصر هي : البناء، والعروض والقوافي .
وأضاف ابن سلام أن الشعر لا يقوم بالوزن والتقفية فقط ، فقد يتحققان فيه ، ولا يعد بذلك شعراً، مثال ذلك ما يرويه ابن إسحاق لعاد وثمود: (( فكتب لهم أشعاراً كثيرة، وليس بشعر، إنما هو كلام مؤلف معقود بقواف)) طبقات فحول الشعراء 1/ 8. ويكشف وصفه لشعر زهير عن سمات المعنى الجزئي من معاني الشعر يقول ابن سلام : ( وقال أهل النظر: كان زهير أحصفهم شعراً، وأبعدهم من سخف ، وأجمعهم لكثير من المعنى في قليل من المنطق ، وأشدهم مبالغة في المدح وأكثرهم أمثالاً في شعره) طبقات فحول الشعراء 1/ 64.
وتشير عبارته السابقة إلى إحكام الشعر ، والصياغة الموجزة التي تكتنز الكثير من المعنى وتصيب الهدف منها ، وبالتالي تكثر شوارد الأبيات والأمثال السائرة ، التي تختزن التجارب في قليل من اللفظ , ولذلك امتدح الأخطل بأن (في كل بيت له بيتين) انظر : طبقات فحول الشعراء 1/ 488.
ويتفق وصفه بالمبالغة في المدح مع ما روي عن عمر بن الخطاب أنه كان يفضل زهيراً ؛لأنه ( لا يمدح الرجل إلا بما فيه ) طبقات فحول الشعراء 1/ 63.
ويكشف وصفه لشعر الأعشى عن جانب من جوانب المعنى في القصيدة العربية، هو أغراضها، يذكر ابن سلام: (( وقال أصحاب الأعشى : هو أكثرهم عروضاً ، وأذهبهم في فنون الشعر، وأكثرهم طويلة جيدة ، وأكثرهم مدحاً وهجاء وفخراً ووصفاً كل ذلك عنده)) وكان أول من سأل بشعره، ولم يكن له مع ذلك بيت نادر على أفواه الناس كأبيات أصحابه) طبقات فحول الشعراء 1/ 65. ويقول عن شعر الحطيئة : ( وكان الحطيئة متين الشعر شرود القافية )) 1/ 104, ويقول عن علقمة : (( ولابن عبدة ثلاث روائع جياد لا يفوقهن شعر ) 1/ 139وهنّ :
ذهبت من الهجران في كل مذهب *** ولم يك حقا كلُّ هذا التجنب
طحا بك قلب في الحسان طروب *** بُعيد الشباب عصر حان مشيبُ
هل ما علمت وما استودعت مكتوم *** أم حبلها إذ نأتك اليوم مصرومُ
ويقول عن عدّي بن زيد : (( وله أربع قصائد غرر روائع مبرزات )) انظر : طبقات فحول الشعراء 1/ 140.
ويقول عن الأسود بن يعفر : (( وكان شاعراً فحلاً وله واحدة رائعة طويلة لاحقت بأجود الشعر لو كان شفعها لمثلها قدّمناه على مرتبته ) ) طبقات فحول الشعراء 1/ 147يريد قصيدته :
نام الخلي وما أحس رقادي *** والهم محتضر لديّ وسادي
ويقول عن طرفة : (( فأما طرفة فأشعر الناس واحدة وهي قوله :
لخولة أطلال ببرقة ثهمد *** وقفت بها أبكي وأُبكي إلى الغد
وتليها أخرى مثلها وهي :
أصحوت اليوم أم شاقتك هرّ *** ومن الحب جنون مستقر
ومن بعد له قصائد حسان جياد )) طبقات فحول الشعراء 1/ 138. ويقول عن سويد بن أبي كاهل : (( وله شعر كثير ولكن برّزت هذه على شعره )) يريد قصيدته :
بسطت رابعة الحبل لنا *** فوصلنا الحبل منها ما اتسع
انظر : طبقات فحول الشعراء 1/ 153:
2- وفرة الشعر أو كثرته شريطة أن تقرن بالجودة يقول : (( وللمخبل شعر كثير جيد )) انظر : طبقات فحول الشعراء 1/ 150. ويقول : (( بكى متمم مالكا فأكثر وأجاد )) طبقات فحول الشعراء 1/ 209. ويقول عن شعراء المدينة : (( أشعرهم حسان بن ثابت وهو كثير الشعر جيده )) طبقات فحول الشعراء 1/ 215.
والكثرة في مفهوم ابن سلام ليست بقصيدة أو قصيدتين أو أكثر ,وإنما الكثرة عنده هي كثرة ما تناقله الرواة من شعر الشاعر فهو يقول عن شعراء الطبقة الرابعة : (( وهم أربعة رهط فحول شعراء موضعهم مع الأوائل وإنما أخل بهم قلّة شعرهم بأيدي الرواة )) طبقات فحول الشعراء 1/ 137, فإذا جاءت الجودة في شعر قليل أخرّت الشاعر عن طبقته كالأسود , وإذا كثرت الجودة في الشعر قدمته , فإذا كثر الشعر بلا جودة لم يقدم صاحبه فالكثير الغثاء لم يقدم طرفة وعبيداً .
3- تنوع الأغراض التي نظم فيها الشعر يدلنا على اهتمام ابن سلام بالناحية الفنية عند الشاعر فإذا تعددت لدى الشاعر الفنون وجادت كانت سبباً لتقديمه وتفضيله فلا يقدم شاعرا اجاد في فن واحد فقط وخير مثال على ذلك عدم تقديم ذي الرمة الذي أحسن في التشبيه لأنه ليس له من الفنون وتعدد الأغراض ما لغيره من الشعراء ولأنه قصر شعره على وصف الصحراء وأبعار الإبل هذا الذي أخره عن مرتبة الفحول قبله .
قال البطين : أجمع العلماء بالشعر على أن الشعر وضع على أربعة أركان: مدح رافع، أو هجاء واضع، أو تشبيه مصيب، أو فخر سامق، وهذا كله مجموع في جرير والفرزدق والأخطل، فأما ذو الرمة فما أحسن قط أن يمدح، ولا أحسن أن يهجو، ولا أحسن أن يفخر، يقع في هذا كله دوناً، وإنما يحسن التشبيه فهو ربع شاعر وأهمل عمر بن أبي ربيعة لأنه قصر شعره على الغزل اللاهي .
كما أنه قدّم كثيراً على جميل لتعدد الأغراض عند كثير مع أن جميلا أغزل منه ومن أصحاب النسيب ) يقول : (( وكان لكُثَيِّر فى التشبيب نصيبٌ وافرٌ ، وجميلٌ مُقَدَّمٌ عليه ـ وعلى أصحاب النسيب جميعاً فى النسيب ، وله فى فنون الشعر ما ليس لجميل . وكان جميلٌ صادق الصبابة ، وكان كُثَيِّر يتقوَّل ، ولم يكن عاشقاً ، وكان راوية جميل )) طبقات فحول الشعراء 2/ 545.
وقال أصحاب الأعشى هو أكثرهم عروضاً وأذهبهم في فنون الشعر , وإذا تساوى شاعران في الإجادة ، وما روى عن أحدهما أقل من الآخر ، وضع صاحب الكثرة في طبقة أرفع ، أما إذا اتفق شاعران في الكثرة وتنوع الأغراض كان مقياس المفاضلة بينهما جودة الشعر .
وقد راح ابن سلام يوازن بين شاعر وآخر ، ولم يكتف بمعنى الموازنة ، بل نراه يفضل أحدهما ، وفي بعض الأحيان كان يوازن بين الأبيات المفردة والقصائد .
وكان اختياره لشعراء القرى قائما على البراعة الشعرية فهو يبين أن في مكة شعراء أكثر من الذين عدهم ولكنه لا يورد إلا أبرعهم شعراً يقول : (( وبمكة شعراء فأبرعهم شعراً … )) انظر طبقات فحول الشعراء 1/ 233. وقدّم أهل المدينة لأنها أشعرهن قرية ,ثم أتبعها مكة لأنها تليها جودة شعر ,وأخر الطائف لأنها أقلهن شعرًا وأتبعها بالبحرين لأنها أقل عدد شعراء وختم باليمامة لأنه ليس بها شعر مشهور .
ولم يقتصر ابن سلام في طبقات شعراء القرى على أربعة رهط كما فعل في طبقات الجاهليين والإسلاميين فهو يعد من شعراء المدينة خمسة : حسان وكعب بن مالك وابن رواحة وقيس بن الخطيم وأبي قيس بن الأسلت .
ويعد من شعراء مكة تسعة : ابن الزبعرى وأبو طالب والزبير بن عبد المطلب وأبو سفيان بن الحارث ومسافر بن أبي عمرو وضرار بن الخطاب وأبو عزة الجمحي وعبد الله بن حذافة وهبيرة بن أبي وهب .
ويعد من شعراء الطائف خمسة هم أبو الصّلت بن أبي ربيعة وابنه أمية بن أبي الصّلت وأبو محجن عمرو الثقفي وغيلان بن سلمة وكنانة بن عبد ياليل .
وعد في البحرين ثلاثة هم المثقب العبدي والمحزوق العبدي والمفضل بن معشر . كما عدّ من اليهود ثمانية منهم السموأل وكعب بن الأشرف .
4- الفن الأدبي ويقصد به التفوق في الفن الشعري الواحد كطبقة شعراء المراثي حيث فاضل بينهم على أساس تفوقهم في هذا الفن الشعري وجعل المقدم عليهم متمم بن نويرة . وأفردهم ولم يفعل ذلك مع طبقة الرجاز والغزليين لأمرين أحدهما : صدق العاطفة في فن الرثاء ,والثاني أن شعراء الطبقتين قد أجادوا في فنون أخرى
5- المقياس الخلقي أي الشعراء الذين خرجوا على الأخلاق والآداب كتعهر امرئ القيس وفساد الفرزدق وجشع الحطيئة وكثرة سؤاله وأثنى على عفة جرير , وأهمل شعراء الصعلكة لخروجهم على المقاييس الخلقية ولنهبهم وسلبهم .
6- مقياس اللين وقد ربطه بالبيئة وبين أثرها في الشعر وأن الشعر البدوي قوي جيد وأن شعر الحاضرة لين ضعيف يكثر فيه الخلط والانتحال , يقول عن شعر عدي : (( وعدي بن زيد كان يسكن الحيرة ويراكن الريف فلان لسانه وسهل منطقه فحمل عليه شيء كثير وتخليصه شديد واضطرب فيه خلف الأحمر وخلط فيه المفضل فأكثر )) انظر : طبقات فحول الشعراء 1/ 140
7- كون الشاعر مغلبا أي مغلوباً مؤخراً عن رتبته يقول عن أوس بن حجر : قال أبو عمرو بن العلاء : كان أوس فحل مضر حتى نشأ النابغة وزهير فأخملاه , وقال عن الراعي النميري : كان الراعي فحل مضر حتى ضغمه – أي ملأ فمه منه وعضه عضا شديدا دون النهش – الليث يعني جريراً . طبقات فحول الشعراء 2/ 503.
ويقول : (( وتميم بن أبي مقبل شاعر مجيد مغلب غُلّب عليه النجاشي ولم يكن إليه في الشعر وقد قهره في الهجاء )) طبقات فحول الشعراء 1/ 150. ويقول عن البعيث : (( كان شاعراً فاخر الكلام حُرّ الألفاظ وقد غلبه جرير وأخمله )) طبقات فحول الشعراء 2/ 535.
*= وكان الأولى والأجدر ألا يلزم محمد بن سلام نفسه بتقسيم شعراء الطبقة الواحدة إلى أربعة وأن يطلق نفسه من هذا القيد ويفعل كما فعل مع شعراء القرى العربية واليهود إذ كيف يجوز لنفسه هضم شاعر وتأخيره عن طبقته لأنه لا يريد أن يتجاوز الطبقة أربعة فقط فتأخيره أوساً إلى الطبقة الثانية الجاهلية ظلم له وهضم لحقه في التقديم وهو يشهد له بالتقدمة يقول : ( وأوس نظير الأربعة المتقدمين إلا أنا اقتصرنا في الطبقات على أربعة رهط ) انظر : طبقات فحول الشعراء 1/ 97, ولو نهج منهج العلماء والذي يرضاه المنطق والسواد فقسم الشعراء إلى ثلاث طبقات : مبرزين ومتوسطين ومتأخرين لكان أصوب . ولما اضطر في الطبقات الأخيرة أن يسرد الشعراء سرداً دون شاهد أو دليل .
*= داخل ابن سلام بين الجاهليين والمخضرمين فقد ذكر كثيرًا من الشعراء المخضرمين ضمن طبقات الجاهلية حيث جعل كعب بن زهير والحطيئة ضمن الطبقة الثانية من الجاهليين انظر : طبقات فحول الشعراء 1/ 99, 104, فليس من شك في أن الحطيئة جدير بأن يكون من شعراء الطبقة الثانية كما وضعه ابن سلام , ولكن جدارة كعب بن زهير بها ,فذلك موضع نظر فنحن لا نكاد نعرف لكعب إلا بانت سعاد .
وجعل أمية بن حرثان ضمن الطبقة العاشرة الجاهلية وله شعر في الجاهلية وشعر في الإسلام انظر طبقات فحول الشعراء 1/ 190, وكذلك حريث المازني وهو جاهلي إسلامي له في الجاهلية أشعار حيث عدّه أيضاً ضمن الطبقة العاشرة من الجاهليين . انظر : طبقات فحول الشعراء 1/ 192.
ومن المخضرمين الذين وضعهم ضمن شعراء الجاهلية لبيد والنابغة الجعدي وغيرهم ,ولعلّ ابن سلام قرن هؤلاء إلى الجاهليين لأحد سببين : أن شعرهم كان قوياً في الجاهلية فلما جاء الإسلام لَاَنَ وضعف كما حدث لشعر حسان . أو لأن بعضهم قد اعتزل الشعر في الإسلام كما فعل لبيد . وقد وضع لبيدا في الطبقة الثالثة ، وطرفة بن العبد في الطبقة الرابعة دون إبداء أسباب .
وكذلك وضع عمرو بن كلثوم ، والحارث بن حلّزة ، وعنترة العبسي ، وسويد بن أبي كاهل في الطبقة السادسة على حين وضع في الطبقة الخامسة شعراء دونهم شهرة ونباهة ذكر كخداش بن زهير , والمخبل السعدي , وتميم بن أبي مقبل مع أن ابن سلام يعرف أن الثلاثة الأولين من رجال القصائد السبع وأن ابن أبي كاهل هو صاحب اليتيمة .
وقد حدث ذلك أيضا في طبقات الإسلاميين فقد وضع الأحوص وعبيد الله بن قيس الرّقيات والأحوص في الطبقة السادسة ,ووضع في الطبقة الخامسة والرابعة مَنْ منهم دونهم جودة شعر وكثرة فنون كعمرو بن لجأ ونهشل بن حرى والشهب بن رميلة والعجير السلولي , وهذا يدل على اضطراب ابن سلام في ترتيب منازل الشعراء في طبقاتهم .
وأتسأل لم وضع ابن سلام بشامة بن الغدير وقراد بن حنش ضمن الطبقة الثامنة من الإسلاميين وهما جاهليان ؟ انظر طبقات فحول الشعراء 2/ 718, 733.
وقد انفرد بإضافة الرّاعي إلى الثلاثة الإسلاميين ، وعدّه في طبقتهم ، دون استناد إلى حجة أو دليل . انظر : طبقات فحول الشعراء 2/ 502.
كما أنه اضطر في الطبقات الأخيرة أن يسرد الشعراء سردًا دون شاهد أو دليل ، كما أنه لم يتعرض لمكانة شعراء القرى ، وقد أهمل كذلك مكانة بعض فحول الشعراء كعمر بن أبي ربيعة ، والطّرماح بن حكيم ، والكميت الأزدي .
ويؤسفني طغيان ملكته العلمية على ملكته التذوقية وغيابها في تحليل الشعر وتذوقه بل قد سار على ما سار عليه معاصروه أو من سبقوه , ولعل الذي صرفه عن التذوق انشغاله بأمر الطبقات . كما يزعجني إطلاقه الأحكام العامة كقوله :
(( فأبو ذؤيب الهذلي شاعر فحل لا غميزة فيه ولا وهن )) وعبد بني الحسحاس (( حلو الشعر رقيق حواشي الكلام )) والبعيث المجاشعي (( فاخر الكلام حر الألفاظ )) . ما هي حلاوة الكلام ؟ ما رقة الحواشي ؟ ما الغميزة والوهن في الشعر ؟
ويظل ابن سلام الجمحي من أكثر النقاد صحة ذهن ، ونفاذ بصيرة ، فقد كانت الأفكار في النقد مبعثرة لا يربطها رابط ، حتى جاء فضم أشتاتها ، وألّف بين المتشابه منها بروح علمية قويه . وكتابه يعتبر أقدم وثائق النقد المدونة فيه كثير من آراء الأدباء واللغويين التي انتفع بها فيما بعد كبار النقاد كالآمدي صاحب الموازنة بين الطائيين ، وأبي الفرج الأصفهاني صاحب كتاب الأغاني . وحسبُ كتاب طبقات فحول الشعراء أن يكون جماع القول في الشعر العربي في الجاهلية والإسلام …

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى