المقالات

مسارات المعرفة

في النصف الأول من القرن العشرين هيمنت الوضعية المنطقية على المجال المعرفي حيث تم حصر المعرفة المعتَبَرَة بما يمكن التحقق منه تجريبيا كما أسهمت أيضا الفلسفة التحليلية في تضييق مجال التحقق وازداد التضييق بظهور فلسفة فتجنشتاين والإمعان في ما بات يسمَّى المنعطف اللغوي فاختنقت الاختيارات المعرفية حيث تم استبعاد الفلسفة التأملية والاستخفاف بالأدب وبالعلوم الاجتماعية والإنسانية لأنها في العُرف الذي كان سائدًا آنذاك تفتقر إلى الضبط والتحقق والدقة ……
وفي ظل هذا المناخ المعرفي المأزوم تم الاستخفاف بالعقل واستحكم في علم النفس الاتجاه السلوكي الذي يستبعد الوظائف العقلية ويحصر اهتمامه بالظواهر السلوكية التي يمكن إخضاعها للقياس وفي هذا الجو المرتبك قام عالم الفيزياء تشالز بيرسي سنو بمهاجمة الأدب والأدباء لأنهم في نظره يفتقرون إلى التفكير العلمي بدقته وانضباطه وصرامة أحكامه فكتب مقالا بعنوان (الثقافتان) وهو يعني بذلك: الثقافة العلمية بالمعنى الضيق للعلم كطرف أول أما الطرف الثاني فيعني به الأدب والتاريخ وكل المعارف الاجتماعية والإنسانية فحصر الثقة في العلوم الفيزيائية القابلة للقياس وللتحقق التجريبي ….
سنو طوَّر مقالته إلى كتاب وهو مترجم ومتاح باللغة العربية ومع هذا الهجوم على الأدب والأدباء فإن سنو رغم أنه عالم فيزياء إلا أنه أديب بل إنه مبدع في المجال الأدبي لكن هذا لم يمنعه من مهاجمة الأدب والأدباء لأن المناخ الفكري الذي خلقته الفلسفة الوضعية والفلسفة التحليلية هو مناخٌ يدفع إلى هذا النوع من التضييق الفكري والتحجر المعرفي ……
ثم حصلت تحولات كبرى في علم الفيزياء نفسه فظهرت النسبية كما ظهرت نظرية اللايقين وعدم التحديد فاتسع مجال الرؤية وأصبح علم الفيزياء ذاته فاقدًا للدقة المتوهَّمة وبذلك انفرجت الأزمة وعادت الثقة بالأدب وبالعلوم الاجتماعية والإنسانية …….
ثم حصلت تحولات نوعية نحو العناية بالظواهر العقلية وتم التركيز على دراسة الدماغ والتعرف بدقة على أنواع نشاطه وكيفية قيامه بهذا النشاط فتكاثرت المقالات والكتب التي تتحدث عن تكوين الدماغ وأجزائه المختلفة وعن الوظائف التي يقوم بها كل جزء وأسباب الاضطرابات التي تنتابه فنحن الآن نعيش في عصر الاهتمام الشديد بالدماغ والتعرف على آليات نشاطه والكيفية التي تضطرب بها هذه الآليات ……

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى