تطورت السيرة الذاتية في الأدب العربي على مسارين: الأول يشبه كتابة المذكرات ويستخدمه العلماء والرؤساء، والثاني يعتمد على السرد الروائي ويعتبر صنفاً أدبياً، والأدب العربي يعادل نظيره العالمي من حيث الجودة والكم، لكن في الغرب، تشمل السيرة الذاتية مختلف الفئات الاجتماعية، في المقابل، تقتصر في العالم العربي على فئات معينة بسبب التواضع ونكران الذات، يؤكد النص على ضرورة أن تكون السيرة الذاتية صادقة وموثقة، وتدعو للتغلب على العقبات للحفاظ على تأثيرها في الكتابات العربية.
عندما تلقيت نسخة مهداة من كتاب سيرواية “السيل” للدكتور عبد الخالق القرني، أثارت كلمة “سيرواية” فضولي، ليعدنا الى إمكانيات اللغة العربية، التي تمتاز بقدرتها على نحت كلمات جديدة من كلمتين أو أكثر، لتعبر عن معانٍ جديدة، “سيرواية” هو مصطلح يجمع بين السيرة الذاتية والرواية، اتخذه المؤلف ليمزج بين مذكراته الشخصية وسيرته الذاتية، مقدماً للقارئ تجربة غنية بالفصول والأحداث، مما يعزز هذا النوع الجديد من الكتابات في الأدب العربي.
تجربة قراءة سيرواية “السيل” هي بمثابة رحلة تأملية في حياة الدكتور علي عبد الخالق القرني، تتيح للقارئ الشعور بروح الزمن واستنشاق عبق الأماكن الموصوفة بدقة متناهية، إنه كتاب يستحق القراءة لكل من يهتم بالسير الذاتية والموصوف الاجتماعية العميق.
بدءاً من نشأت الكاتب في بيشة والمناطق المحيطة بها، مروراً بتجربته في الدراسة والعمل في السعودية وأمريكا، بأسلوب فلسفي غني بالمعاني، يصف القرني رحلته في طلب العلم والصعوبات التي واجهها، مشيراً إلى أهمية الكتابة كوسيلة للتوثيق ونقل التجارب عبر الأجيال، الكتاب يعكس حب القرني العميق لبيشة وأهلها، ويظهر شغفه بالتعلم والمثابرة، حيث انتقل من معهد المعلمين إلى مراحل عليا في التعليم، محققاً إنجازات مهنية متميزة، ليدرج خلاصة تجربته المهنية في المجال التربوي في المنطقة.
وفي مقطع عميق الجمال والعاطفة يظهر عظمة الطبيعة وصلابة مسارها، اتخذ الوادي فيه رمز للحياة بحيويتها وطاقتها المتجددة، واعتبره كأنه شريان ينبض بالحياة والأماني، غير مبالٍ بكل التطلعات التي ترافقه، تصوير بديع يجعلنا نتأمل في قوة الطبيعة وجمالها الذي لا ينتهي.
ولم يغيب الحب في مجموعة من فصول الرواية، كيف وهو موضوع غني وعميق عند العرب بالفطرة، وهذا ما يشعرك به الكاتب في روايته لتجده حاضرا في محطات مختلفة كحب الام، والاسرة، والأصدقاء، والزوجة التي تنظمها تقاليد وأعراف دقيقة، تعزز من احترام العلاقة بين الرجل والمرأة وتُقدّر المودة والرحمة كركائز أساسية، وينقل القارئ بالشغف وبالرومانسية كقوة غامرة تؤثر على العقل والقلب، ليترك نهايتها مفتوحة، لا تشبهه قصص العشق قيس وليلى وعنتر وعبلة.
اذ لا يمكن اغفال دور المرأة عاطفياً في روايته، مما يؤكد انها أساس في حياة الرجل الشرقي عبر مختلف مراحل حياته، في مرحلة الطفولة، تكون الأم هي المصدر الأول للأمان والحنان، تشكل مشاعره وتوجهه في طريقه إلى النضوج، عندما يكبر ويصبح شاباً، تصبح المرأة التي يحبها محور اهتمامه، تُلهب مشاعره وتقوده في رحلة العشق والغرام، وخلال فترة النضج والزواج، تصبح الزوجة شريكة الحياة والدعم العاطفي، تقف إلى جانبه في السراء والضراء، تشاركه أفراحه وأحزانه، وتكون مصدر قوته وسنده، وبمرور الوقت، يتحول الرجل إلى أب، وتصبح ابنته رمزاً جديداً للحب والحنان، يرى فيها امتداداً لعاطفته وحبه.
سبت العلاية، وبيشة، والحجاز، وال كمال، الفسطاط الغربي، بلاد خثعم، جبل البلس، قرية الفوقا، قرية حوالة، جبال الصلبات، الطائف، بلاد غامد، ابها، الطائف، الرياض، الحجاز، ماء المهمل، الروشن عاصمة بيشة، خميس مشيط، أبها، وادي فج.
أسماء يقدمها الكتاب في رحلة شاملة عبر الزمن، موثقاً لتاريخ المدن والأماكن في السعودية، بما في ذلك أسماء الجبال والسهول والبرك المائية والعوائل التي كانت تسكنها، ويبرز التحديات الاجتماعية والعلاقات والروابط التي تشكل المجتمع السعودي، ويسلط الضوء على التجارب الإنسانية التي مر بها، من دفء العائلة إلى الصداقات والتجارب المهنية.
إلا إن إغفال الكاتب لذكر التواريخ للأحداث بدقة في روايته، يضيع على القارئ فرصة ثمينة لفهم السياق الزمني والتمييز بين الحقب التاريخية المختلفة، ويمكن ان تكون فجوة تجعل من الصعب تقدير المسافة الزمنية التي تفصلنا عن الأحداث المروية، فتوثيق التاريخ يتيح للقارئ قياس سرعة تطورات المجتمع وتحولاته عبر الزمن، وهو ما يعتبر جوهرياً لفهم الأحداث وسياقاتها بشكل أعمق.
في زمن يتضاءل فيه وقت القراءة وتحل التكنولوجيا محل الكثير من عاداتنا، تأتي سيرواية “السيل” كتوثيق لحياة الدكتور علي القرني، حيث يسجل تجاربه في مراحل مختلفة من حياته، مستعرضاً التفاصيل الدقيقة للحياة اليومية والعلاقات الاجتماعية في المملكة العربية السعودية عبر العصور، يرسم القرني في هذه السيرة صورة حية للحياة السعودية، مصوراً تفاصيل المدن والمناطق، ومعرفاً القارئ على طبيعتها وجغرافيتها وعادات سكانها.
يركز القرني على أهمية الكتابة كوسيلة للتوثيق والمعالجة، مستعرضاً تفاصيل حياته الشخصية والمهنية، حيث لا تعد “السيل” مجرد سيرة ذاتية، بل هي توثيق شامل لتجربة حياتية مميزة، تنقل الخبرات والأحاسيس عبر الأجيال، من خلال سرد دقيق وشامل، وأهمية الكتابة في حفظ التاريخ ونقل التجارب للجيل القادم.
السيرة الذاتية برأيي، هي المرآة الحقيقية لحياة الإنسان، تقدم خلاصة الأفكار والأمل، وتحفز القارئ على الاستمرار والتعلم من الماضي للتخطيط للمستقبل، والحفاظ على إيجابيات التربية التقليدية وعلاقة الاسرة والاحترام والحفاظ على تعاليم الدين الإسلامي ومواكبة الحياة المعاصرة، هذا النوع من الكتابة يعزز فهمنا للماضي ويساعدنا على بناء المستقبل والتواصل مع الجيل الجديد، مقدماً بذلك مغامرة أدبية مليئة بالاكتشافات.ق