في كل مرة أقوم فيها بزيارة المدينة المنوّرة –مسقط رأسي وفيها نشأت ووالدي وأهلي وأحبابي- مدينة تبهرني تفاصيلها الآسرة في كل شيء؛ هدوئها، سكينتها، جمالها. قد تكون رؤية تلك الجبال الراسخات المنتشرة وسط المدينة المنورة أمرًا عاديًا؛ إذ يراها الزائر حتى عندما يخرج من باب سيدنا عمر- وهو أحد أبواب المسجد النبوي الشريف- يراها بشموخها الذي يروي حكايا البطولات والفتوحات في عهد النبوة، بلونها الزاهي الذي لا يحاكيه لون من جبال العالم، بحجارتها شديدة السواد. لكن ما أبهرني في آخر زيارة لها هو ما جادت به هيئة تطوير المدينة المنورة التي ركزت جهودها في السنوات الأخيرة على تعزيز الهوية العربية والإسلامية في كل جانب من جنبات هذه المدينة الأجمل والأبهى، المدينة التي اختارها الله تعالى لتكون مهجرًا وموطنًا ومضجعًا لنبيه الكريم ﷺ وحبّبها إلى أصحابه الكرام، وشرّفها بفضائل عظيمة، فلقد سمى رسول الله ﷺ هذه البلدة المباركة بعد إقامته بها “المدينة”، فصارت علمًا على مدينته ﷺ وسماها طيبة، وطابة، لاشتقاقهما من الشيء الطيب، وقيل: لطهارة تُربتها، وقيل: لطيبها لساكنها، وقيل: من طيب العيش بها كما ذكرت ذلك مراجع لغوية وتاريخية كثيرة.
وأما عن تسميتها فعن أبي حُميد الساعدي رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ في غزوة تبوك ـ وساق الحديث ـ وفيه: ثم أقبلنا حتى قدمنا وادي القرى ـ فقال رسول الله ﷺ: «إني مسرع، فمن شاء منكم فليسرع معي، ومن شاء فليمكث، فخرجنا حتى أشرفنا على المدينة، فقال: هذه طابة، وهذا أُحُدٌ، وهو جبل يحبُّنا ونحبّه» متّفق عليه، واللفظ لمسلم. وعن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها، عن رسول الله ﷺ في قصة حديث الجسَّاسة (الدجال) وفي آخره: «قال: ـأي الدجال ـ: وإنّي مخبركم عني، إني أنا المسيح، وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج، فأخرج، فأسير في الأرض فلا أدعُ قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة، غير مكة وطيبة، فهما محرّمتان عليَّ كلتاهما، كلما أردت أن أدخل واحدة أو واحدا منهما استقبلني ملك بيده السيف صلتا، يصدُّني عنها، وإنّ على كلّ نقب منها ملائكة يحرسونها». قالت: قال رسول الله ﷺ وطعن بمخصرته في المنبر: «هذه طيبة ـ هذه طيبة، هذه طيبة…» رواه مسلم.
ولذا ينبغي للمسلم أن يسمّي المدينة بهذا الاسم (المدينة، أو طيبة، أو طابة) فهي الأسماء الشرعيّة لها. كما قد ورد في السنّة ما يشير إلى النهي عن تسميتها بـ “يثرب” فعن أبي هريرةَ رضي اللَّه عنه قال: قال رسولُ اللَّه صلَّى الله عليه وسلَّم: (أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ القُرَى، يَقُولُونَ يَثْرِبُ، وَهِيَ المدينةُ) رواه البخاري، ومسلم. قال ابن عبد البرّ رحمه الله تعالى: “وفي هذا الحديث دليل على كراهية تسمية المدينة بيثرب على ما كانت تسمّى في الجاهلية. ” كما قال القرطبيّ -رحمه الله تعالى-: ( يقولون: يثرب، وهي المدينة)؛ أي: تسمّيها الناس: يثرب، والذي ينبغي أن تُسمَّى به: المدينة. فكأن النبي ﷺ كره ذلك الاسم، على عادته في كراهة الأسماء غير المستحسنة، وتبديلها بالمستحب منها. ذلك: أن يثرب لفظ مأخوذ من الثرب، وهو الفساد، والتثريب: وهو المؤاخذة بالذنب، وكلّ ذلك من قبيل ما يُكره، وقد فهم العلماء من هذا: منع أن يقال: يثرب. حتى قال عيسى بن دينار: مَن سمَّاها يثرب كُتِبت عليه خطيئة. لذا نهيب بأمانة المدينة النبوية متابعة أسماء المعارض والمحلات التي بدأت في استخدام اسم يثرب على ما فيه من كراهة وذلك للتأكيد على المحافظة على الهوية العربية والإسلامية لهذه المدينة المباركة التي تشع نورًا وسكينة.
ولأن المدينة النبوية تعيش اليوم أجمل وأزهى أوقاتها تحت إِمرة صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن سلطان بن عبد العزيز آل سعود، وهو خير خلف لخير سلف بارك اللهم بهم جميعا وأيدهم بتأييده- الحريص كلّ الحرص على توفير وتطوير كافة الخدمات للمواطنين وعلى العمل لتكون المدينة المنورة في مصافّ المدن ليس فقط محليًّا وإنما عالميًا؛ وكان له ذلك، فقد اختيرت في مؤشّر أفضل 100 وجهة سياحية في العالم للعام 2024م من حيث الأداء الاقتصادي والتجاري، والأداء السياحي، والبنية التحتية السياحيّة، والسياسات والجاذبية السياحية، والصحة والسلامة، والاستدامة، إنها مثال فريد للمدن المؤنسنة المعاصرة، وإلى مزيد من التقدم والازدهار في هذا العهد الميمون المبارك.