المقالات

عندما تصنع الفوضى إبداعًا؟

في البدء:
في عالم يتوق إلى النظام والبساطة، يقف الفن شاهداً على جمال الفوضى وعبثيتها المذهلة. ربما تُفهم الفوضى، في السياقات العامة، على أنها مرادف للارتباك أو اللامنطق، لكن في الفن والإبداع، تتجاوز الفوضى تلك النظرة السطحية لتصبح مسرحاً تنبثق منه أعظم الأعمال وأكثرها تأثيراً وخلودا. إنها هنا ليست غياب للنظام، بل مصدرٌ للدهشة، وفضاءٌ لاكتشاف الحقيقة من خلال تفكيكها أولاً.
الفوضى والإبداع: علاقة أزلية
يبدأ الفن، في جوهره، من تساؤلات غير منتظمة، وقلق غير مفسر. لم يكن (فان جوخ) ليبدع لوحاته المليئة بالدوامات والألوان المضطربة لو لم يكن يرى العالم بعدسته الفريدة، حيث الفوضى تسبق النظام. ومن خلالها قدّم للعالم تصورات جديدة عن الضوء والحركة والمشاعر. كذلك، فإن الروائي الروسي (فيودور دوستويفسكي)، في روايته الشهيرة “الجريمة والعقاب”، استخدم شخصيات غارقة في الفوضى الأخلاقية والنفسية ليُبرز التوترات البشرية ويُعيد تعريف مفاهيم العدالة والذنب.
الفوضى ليست عدوًا للإبداع؛ إنها جزء أصيل من العملية الإبداعية. كثيرًا ما تتطلب لحظات الإلهام الأولى انطلاقًا حرًا غير مُقيّد، حيث تتزاحم الأفكار وتتضارب، حتى يُولد النظام منها. الشاعر ويليام بليك عبّر عن هذا بقوله: “النظام هو مجرد فوضى تم ترويضها”، وفي هذا الإطار، تحمل الفوضى إمكانية اكتشاف الجديد والمذهل.
جمال الفوضى في الفنون البصرية
في الفنون البصرية، تعد الفوضى وسيلة جمالية بحد ذاتها. لنأخذ على سبيل المثال حركة التعبيرية التجريدية، التي يمثل الفنان الأمريكي (جاكسون بولوك) أحد أبرز رموزها. (بولوك )كان يمارس الرسم بطريقة غير تقليدية تماماً: يرش الألوان ويسكبها عشوائيًا على القماش. للوهلة الأولى، تبدو أعماله فوضوية وعشوائية، لكنها تكتنز قوة عاطفية هائلة، تعبر عن الطاقة والحيوية غير المرئية للعالم.
تقول الناقدة الفنية (ليندا نورتون) عن أعمال المدهش (بولوك):
“لا يكتفي برسم اللوحة؛ بل يترك طاقة الحياة تتدفق عبره، ليصبح هو واللوحة جزءًا من مشهد حي يلتقط نبض الفوضى الكونية.”
الفوضى هنا ليست غياباً للمعنى، بل بحثٌ عن شكل جديد للتعبير يتجاوز القواعد التقليدية التي تحدد ما هو جميل أو منطقي.
الموسيقى والفوضى المنسجمة
ليس الفن التشكيلي وحده ما يحتفي بالفوضى، بل الموسيقى أيضاً. السيمفونية الخامسة لبيتهوفن، على سبيل المثال، تبدأ بمقدمة قصيرة ومضطربة من أربع نغمات شهيرة، لكن هذه الافتتاحية “الفوضوية” تشكل نواة للعمل بأكمله. تتطور القطعة لتُظهر كيف يمكن للفوضى أن تُنظم لتصبح نصًا موسيقيًا مهيبًا يعكس عمق التجربة الإنسانية.
كذلك، نجد الموسيقى التجريبية في القرن العشرين، مثل أعمال (جون كيج)، تعتمد على الفوضى والصُدف. فقد استخدم أصواتًا عشوائية وغير متوقعة، مثل هدير الرياح أو طرق الأبواب، ليكسر حدود ما يُعتبر موسيقى. فكانت رسالته واضحة: الجمال قد يكمن في غير المتوقع وغير المنتظم.
الأدب بين الفوضى والنظام

الأدب ليس إلا ابنًا لعالم يعج بالفوضى، ولكنه لا يعاديها، بل يحتفي بها، يذيب قوالبها ويعيد تشكيلها. إنه نهر جارف يتدفق بلا توقف، لا يسير وفق قوانين الطبيعة أو خرائط الإنسان، بل يصنع مجراه الخاص، تاركًا خلفه آثارًا لا يمحوها الزمن. كيف يمكن للإبداع أن يُقيّد، وهو في أصله تمرّد على كل قيد؟ وكيف للفن أن يخضع لنظام صارم، وهو في جوهره صوت الروح التي ترفض السلاسل وتعشق الانطلاق في فضاءات لا نهاية لها؟
الفن، بكل أشكاله، يرفض النظام لأنه يرى فيه نهاية الاحتمالات. إنه بطبيعته انسيابي، لا يعترف بحدود الزمان أو المكان. الأديب، حين يمسك قلمه، لا يتعامل مع الكلمات كعناصر جامدة، بل ككائنات حية يحررها من سجن اللغة، يكسوها أجنحة، ويطلقها نحو فضاءات لا يستطيع الجسد بلوغها. كأن الكتابة فعل هروب من الضيق إلى الاتساع، من العالم المرئي إلى عالم أعمق، أكثر غموضًا وسحرًا.
رواية (عوليس) لـــــ (جيمس جويس) مثال بارز على ذلك. قد تبدو الرواية، للوهلة الأولى، فوضوية وغير مترابطة، حيث تتنقل بين الوعي الداخلي للشخصيات وتدفق الأفكار غير المرتبة. لكن تلك الفوضى تعكس واقع الحياة، حيث لا تسير الأفكار والمشاعر وفق خط مستقيم.
في المقابل، تُظهر الشاعرة غادة السمان في قصيدتها “إلى رجل”، كيف يمكن للفوضى العاطفية أن تكون مصدراً للإبداع. تقول:
“أريدكَ شريكاً.. في جريمة عشقٍ لا تُغتفر.
دعنا نكسر القواعد..
ونعبر الأسوار مثل المجانين.”
هذه الكلمات تعكس كيف يمكن للفوضى أن تُلهم التمرد الجميل، الذي لا يخشى كسر التقاليد لصناعة تجربة جديدة ومتفردة.
الروح ….. السر الأعظم:
الإبداع يأتي من الروح، والروح تتجاوز القيود ولا تعبأ بالزمان ولا بالمكان، وترفض “المسافة والسور والحارس”، وعليه والحالة هذه يكون الإبداع فوضويا بشكل أو بآخر. لنفصل أكثر هذه الفكرة المهمة .
حين ننظر إلى أعماق الروح البشرية، نجدها تنبض برغبة مستمرة في التحرر والنمو والتوسع. إنها ليست محكومة بالقوانين المادية التي تضبط أجسادنا، بل هي طاقة تسعى إلى الانطلاق نحو أفق لا متناهٍ. في هذا السياق، يشير علماء النفس والتطوير الذاتي إلى أن الإنسان لا يحقق ذاته إلا بالسعي نحو ما يتجاوز قدراته الظاهرة. يقول أبراهام ماسلو: “إن الإنسان لا يمكن أن يشعر بالرضا دون أن يسعى إلى تحقيق إمكاناته الكامنة.”
الروح، إذًا، لا تعرف الثبات. إنها تشبه البحر، دائم الحركة، تحمل أمواجًا جديدة في كل لحظة. وعندما يستجيب الفنان أو الأديب لندائها، فإنه يطلق العنان لنفسه ليبتكر، ليعيد تشكيل العالم من حوله، وليفتح للآخرين أبوابًا إلى رؤى جديدة لم يكونوا يتخيلونها من قبل.

ختام:
الفن يعكس الحياة، وحياتنا مليئةٌ بالفوضى. من أحلامنا المتناقضة إلى قراراتنا المتسرعة، تبدو الحياة نفسها عملًا إبداعيًا فوضويًا. لكن هذا لا يُقلل من قيمتها، بل يجعلها أكثر إثارةً وغنىً. الفن، في جوهره، يُعلمنا تقبل تلك الفوضى كجزءٍ من التجربة الإنسانية.
الفوضى، في نهاية المطاف، ليست نقيض الجمال، بل أحد أوجهه الأكثر عمقًا. إنها أداةٌ نكسر بها الأنماط التقليدية، ونتحدى بها حدود المعقول، لنبتكر ونبدع. وكما قال ألبرت أينشتاين: “من قلب الفوضى، تولد النجوم.”
فلننظر إلى الفوضى لا كفوضى مجردة، بل كمساحةٍ خصبةٍ للإبداع والتعبير عن ذواتنا بأكثر الطرق أصالةً.
* استعنت في إعادة تحرير وتدقيق هذه المقالة بالذكاء الاصطناعي.

خلف سرحان القرشي

مؤلف ومترجم ومدرب في الكاتبة الإبداعية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى