المقالات

أوراق اعتمادي

«زاوية منفرجة»

هكذا: “أوراق اعتمادي” توحي بالثراء والدسامة، ولهذا ارتبطت العبارة بالسفراء، وهم يطلبون الاعتماد في البلد المُضيف، بعكس “ورقة اعتمادي” التي تعكس رقة الحال. ونحن نقول في السودان: “اللي ماسك القلم ما يكتب نفسه شقي”، ونعني بذلك أن من بيده القرار (ويُرمز إليه بالقلم) في شأن ما، سيحرص على أن يعود عليه بالفائدة. وبما أن القلم في يدي الآن، فلا بد أن أعبئ أوراقي تلك بما يشي بأنني كاتب جليل الشأن وألف من يتمناه.

في ديسمبر من عام 1979، اتصل بي مدير تحرير جريدة الراية القطرية. كنت وقتها مترجمًا مع مجلة الدوحة الثقافية، حيث أترجم بين الحين والآخر مواد من الصحف البريطانية والأمريكية. ذهبت إلى مبنى الجريدة في الخامس والعشرين من ذلك الشهر، في نفس التوقيت الذي اجتاحت فيه الدبابات السوفيتية أفغانستان. ومنذ ذلك اليوم ارتفع توزيع الصحيفة وتحولت من أسبوعية إلى يومية.

عرفني القارئ السعودي كاتبَ عمود يومي في الوطن وعكاظ واليوم، وقبلها في مجلة المجلة. ولكنه قد لا يعرف أنني صحفي “خطير”. أو، دعوني أكون أكثر تواضعًا: “صحفي فيه البركة”. وإليكم بعض الدليل: كان يومي الأول في مؤسسة الاتحاد للصحافة والنشر في أبوظبي في 22 سبتمبر 1980. دخلت المبنى ولم يحفل بي أحد. سألت عن المدير العام فقالوا لي إنه في اجتماع سيطول مع هيئة التحرير. لجأت إلى جماعة الشؤون الإدارية وعرفتهم بنفسي فما “عبّروني”. لجأت إلى مطبخ صغير يُعد فيه الشاي أحد “الرفاق”، الذي أكرم مثواي بأكواب من الشاي الأحمر والكرك.

لم يكن التجاهل والطناش استخفافًا بي؛ ففي ذلك اليوم بدأت الحرب العراقية-الإيرانية. وعندما التفت أهل الحل والعقد في الصحيفة إلى أمري اعتبروني شخصًا “مبروكًا”، فكما قال كبير المحررين -وكان مصريًا-: “على كدا ما عندناش مشكلة مانشيت لشهور ويمكن سنين”. والصحف، كما يقول المصريون، “عايزة جنازة عشان تشبع لطم”. لربط السابق باللاحق، كما يقول جماعة الحسابات، لا بد من القول هنا إنني من مواليد الأول من سبتمبر من سنة كبيسة. وفي مثل ذلك اليوم من عام 1939 اجتاحت قوات ألمانيا النازية بولندا واشتعلت أكبر حرب مدمرة عرفها التاريخ (الحرب العالمية الثانية).

وثمة دليل آخر على أنني صحفي “فلتة”: فقد كنت أول صحفي عربي يحاور أدموند ماسكي، وزير الخارجية الأمريكي في عهد الرئيس جيمي كارتر. كلفتني بالمهمة جريدة الاتحاد الإماراتية. ذهبت إلى الرجل في الفندق، حيث أجلسوني والمصور في صالة أنيقة. كنت منتفش الريش كطاووس لأنني سأناطح ماسكي، وكنت قد أعددت له ما استطعت من عدة باستذكار دروسي عن السياسة الخارجية الأمريكية، خصوصًا موضوع الرهائن الذين احتجزهم الإيرانيون في السفارة الأمريكية في طهران بعد سقوط النظام الشاهنشاهي. نبشت سنام ذاكرتي واستخلصت منه مفردات إنجليزية عيار 24 قيراط.

جاء الرجل، وكان كهلاً ودودًا هاشًا باشًا. شرعت في السؤال الأول، وحرصت على استعراض عضلاتي اللغوية والثقافية، وتدفقت الكلمات من فمي سلسة حتى كدت أصفق لنفسي طربًا، ثم التقطت أنفاسي في انتظار الإجابة. ولكن ماسكي لم ينطق بكلمة. عندها مال نحو المصور الباكستاني وقال لي هامسًا: “هادا نفر في نوم”. ثم قال: “انت في صبر شوي”، وأتى بالكاميرا وقربها من وجه الرجل وأمطره بسيل من الفلاشات، فانتفض الرجل مستيقظًا ومعتذرًا. عندها أدركت أنني لم أطرح عليه سؤالًا بل “محاضرة”. حرصت بعدها على طرح أسئلة تلغرافية قصيرة الجمل.

عدت إلى الصحيفة حيث قمت بتفريغ شريط التسجيل الذي يحوي المقابلة وترجمة محتواه، ثم دفعت به للنشر. في اليوم التالي تم استدعائي إلى مكتب الأستاذ محمد يوسف، مدير التحرير. قلت لنفسي: “صبرت ونلت يا أبو الجعافر، أكيد مكافأة مالية توازي روعة الحوار مع الوزير الأمريكي”. دخلت عليه بادئًا برجلي اليمنى، ووجدت معه الملحق الثقافي الأمريكي في سفارة الولايات المتحدة في أبوظبي. قلت لنفسي: “أبشر، المكافأة بالدرهم والدولار”.

بادرني الأستاذ محمد بالقول إن الدبلوماسي الأمريكي جاء ليحتج بأن الحوار الذي نشرته الصحيفة في ذلك اليوم فيه أجزاء مفبركة. استأذنت منهما على الفور، ثم عدت بعد دقائق حاملاً جهاز التسجيل. قلت للدبلوماسي: “استمع إليه كله، ثم احكم بنفسك”. خرجت. وبعد نحو ساعة تم استدعائي مجددًا لمكتب مدير التحرير، حيث تم إبلاغي بأن الدبلوماسي الأمريكي يعتذر عن اتهامه لي بفبركة الحوار. أخبرت محمد يوسف أن ماسكي ربما لم يكن كامل التركيز وهو يتكلم معي، لأنه نام عند سؤالي الأول الذي كان “معلقة جاهلية”.

بعدها بنحو سنة زارت الإمارات مارغريت ثاتشر، رئيسة وزراء بريطانيا وقتها. كلفني محمد يوسف بمحاورتها، ثم أضاف: “والله لو نوَّمتها لأردّك إلى السودان على سيكل (دراجة)”. أراد الله بي وبثاتشر خيرًا عندما طلبت أن تأتيها أسئلتي مكتوبة لترد عليها هي كتابة. لم أخبر هيئة التحرير بأنها لن تلتقي بي. أرسلت أسئلتي وتلقيت الأجوبة التي رأت النور في اليوم التالي، وقوبلت بالاستحسان. فزت بلقب “الرجل الذي حاور المرأة الحديدية” (ولم يكن أحد يدري أنني شاهد ما شفش حاجة). نلت حافزًا ماليًا على الحوار لأن كبريات وكالات الأنباء نقلته عن جريدة الاتحاد.

جعفر عباس

كاتب صحفي (ساخر)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى