لقد تقاتل الناس قديماً حول الغذاء، والماء، والملجأ، ثم أصبحت الحروب تندلع بسبب الأديان والمعتقدات. أما في وقتنا الحاضر، فأصبحت الحروب تندلع بسبب التقدم العلمي والمعرفة.
فالبشرية تعيش حالياً فيما يسمى بـ”القرن الأمريكي”، الذي يعني الهيمنة الأمريكية في النواحي المعرفية، والسياسية، والاقتصادية، والثقافية، منذ منتصف القرن العشرين بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. وهو مشابه تماماً لوصف الفترة الزمنية الممتدة من 1815م إلى 1914م بأنها كانت “القرن الإمبراطوري البريطاني”.
إن الكثير من المؤشرات حول زعامة القرن الميلادي القادم في مجال التقنية والاقتصاد المعرفي تتجه بشكل متزايد نحو دولة الهند. فقد استثمرت الهند في العقول بدلاً من الحقول، وأصبحت تملك كنزاً ثرياً بما يُعرف برأس المال البشري المبدع والمفكر، الذي تكون عبر عشرات السنين.
وحسب نشرة حديثة لمجلة فورتشن الأمريكية، التي تُعنى بقضايا المال والأعمال، أظهرت قائمة تضم أكبر 500 شركة في الولايات المتحدة الأمريكية من حيث إجمالي الإيرادات المالية أن 11% من رؤساء الشركات المدرجة في هذه القائمة تعود أصولهم إلى الهند. كما أن 30% من مهندسي وادي السيليكون للتقنية في ولاية كاليفورنيا من الجالية الهندية. إضافة إلى ذلك، تُدار شركات كبرى مثل مايكروسوفت، وجوجل، وأدوبي، وآي بي إم، من قبل مهندسين هنود تخرجوا من المعهد الهندي للتكنولوجيا في مدينة كارا جبور.
كما اتخذت بعض الشركات التكنولوجية الكبرى خطوات واسعة للتحول نحو الهند. فعلى سبيل المثال، وضعت شركة “أبل” الهند بصورة استراتيجية كمركز تصنيع محوري ضمن إطار استراتيجيتها “الصين+1”. وقد أدى ذلك إلى تحقيق أرقام قياسية للإيرادات خلال السنة المالية 2023م، حيث سجلت الشركة نموًا سنويًا ملحوظًا بنسبة 48%، وقفزت إيراداتها إلى 6.9 مليار دولار أمريكي. إذن، الهند تقود حالياً أكبر شركات التكنولوجيا العالمية، وتنتج أبرز المبتكرين، وتخلق مواهب عالمية المستوى، مما يجعلها قوة ناعمة لمستقبل الهند.
منذ العام 2013م وحتى 2018م، كانت الهند أسرع اقتصاد كبير في النمو في العالم، متفوقة على الصين. تاريخياً، كانت الهند أكبر اقتصاد في العالم في معظم الألفيتين، منذ القرن الأول حتى القرن التاسع عشر. فقد كان يُقال: “الاقتصاد لليهود والهنود”.
في عام 2019م، كانت اليد العاملة في الهند تمثل ثاني أكبر قوة عاملة في العالم، بإجمالي 500 مليون عامل. وتشير الدراسات إلى أنه بحلول عام 2030م، ستكون الهند صاحبة أكبر قوة عاملة مؤهلة في العالم. وسيزداد الطلب العالمي على المواهب الهندية، مما سيخلق فرصاً وظيفية غير مسبوقة، وستشهد العقود القادمة منافسة شرسة على المهنيين الهنود المهرة.
فالعالم اليوم يعيش عصر تصدير العقول البشرية المبدعة بدلاً من المنتجات الصناعية. وكلمة “الحيوية” أقل مما تستحقه دولة الهند في أيامنا هذه، حيث التطور التقني مستمر، والاستثمار في العقول على قدم وساق، والإنتاج في ازدياد. إنها الهند، القوة القادمة.