المقالات

الدُّنيا في مرآة الشعراء !!

نصُّ (الدنيا) الذي سيحتلُّ المساحة الكبرى في مقالتي هذه يسلّط الضوء على مقدارِ ولَعنا بزخارف الدنيا وأوهامها إلى درجة الاستماتة
في محاولات استمالتها إلينا ومناشدتها الانصياع إلى أهوائنا وشهواتنا اللامحدودة.
كما أنَّه يكشف لنا فصولاً من مغرياتها الناعمة،وقراراتها الدراماتيكية المتوارية في ضمير الغيب.
إننا -وفقاً لما يمليه النص الشعري الآتي- نكاد نغضّ الطرف ونتناسى الحَيطة كثيراً عن مقدرة الدنيا على إجادة صناعة فنون اللهو و الإغراء، والتأنّق في عرض بضائعها المكشوفة والمغلفة على حدٍّ سواء أمام المتكالبين عليها من بني الإنسان.
في بحر عشقها اللانهائي ارتكزتْ موعظة الشاعر هذه التي بين أيدينا وقد شاء لها أن تخلو من البهرجة الشكلية والتعقيدات الموغلة في التعمية، وحسبه أنَّه شخَّص لنا وكشف لأعيننا بعض خفاياها وتحولاتها المُريبة وارتدائها أزياءها الحريرية البرَّاقة في كل زمان ومكان.
وفي تصوري أنَّ رحلة الشاعر العقلية هنا تقتضي أن نتناولها برفق وتؤدة وليس بالضرورة أن نحاكم نصَّه هذا محاكمة فنيَّة تصرفنا عما انطوى عليه من تنبيهاتٍ ضوأتْ لنا بعض مسالك الدنيا المُعتمة
و ماوراء سطور صفحاتها المبهمة من مفاجآت.
وستتجلَّى لأعيننا رؤية الشاعر المتّزنة للدنيا ومعرفته العميقة بأسرارها
في ضوء ما أسفرت عنه مواقفه الزُّهدية الحاسمة الناتجة عن تجرّعه كؤوسها المترعة بالخيبات غير مرَّة ..
ومن أمعن النظر وأرهف السمع من المتلقين إلى واقع الحياة الدرامي المعاش تيقَّن من صواب كلام الشاعر واتساع أفقه المعرفي تجاه هذه العروس الفاتنة ومن ثمَّ جدْولَة افتتاننا بجمالها السحريّ الفائق باعتدال شديد بعيداً عن التشنُّج والسوداوية والاتِّكال المطلق.
ولست هنا باللائم شاعرنا على إشادته بالحظ في تلميحه الوارد في ثنايا قصيدته،فالله تعالى يختصُّ برحمته من يشاء من عباده،والحظوظ طوع أمره وحده.
ومع إيماننا بسلامة نظرة الشاعر وكِياسته ورأفتنا به لامفرّ من أنْ يباغتنا سؤال يتمحور حول غاية الشاعر من وراء معانيه التي ساقها
في قصيدته هذه
ويتلوه سؤال آخر عن درجة تقمَّص الشاعر ثوب الواعظ والمساحة الفنية التي استطاع القبض عليها ..
الواضح للعيان من دلالات فلسفته هذه أنَّه يريد شحذ الانتباه واليقظة إزاء مكر الدنيا المتوقَّع وخداعها البيِّن الملحوظ.
وعلى المفتونين بغرامها السَّاحر أن يتقبلوها على علَّاتها قبولاً حسناً ،وأن يتوازنوا في مطالبهم الحيوية منها غير آمنين على أنفسهم من تنكّرها لهم أو انصرافها عنهم بين عشية وضحاها إلى جانب استقبال مسرَّاتها المتاحة المتسقة مع صوت الحكمة الذي به تستقيم الأمور.
وفي هذا الصدد أتذكر بيت الشاعرالأمير خالد الفيصل حفظه الله في قصيدته الشهيرة التي حملت اسم :«من بادي الوقت»:
‏إلى صفالك زمانك علّ يا ظامي
اشرب قبل لايحوس الطين صافيها.
إنَّ هذا البيت اللامع ليدلّنا دلالة ساطعة على كيفية معايشة الدنيا وزمانها الدوّار وذلك باغتنام سويعات صفائها فيما يعود على الإنسان ومجتمعه بالخير والسعادة.
لاجدال -إذن- أنَّ الشاعر البصروي وعلى الرغم مما يبدو من جفاف الموضوع المطروق لم تخذله بوصلته الفنية أو تتجهم في وجه معانيه ولغته المُشعَّة ومن هنا بقي ماء الشعر لديه صافياً رقراقاً.
وتجدر الإشارة إلى أنَّ الشاعر البصروي -الذي كان حيا
‏‎في القرن الخامس الهجري،
‏‎والمتُوفِّى سنة 443
للهجرة –
وصف أخلاق مجتمعه «بالنّفار» المتمثِّل في عدم الاتعاظ بما يرون ويسمعون من حوادث الدنيا الجارية ومشاهدها الدراماتيكية الحيَّة ،فكأنَّ الخطاب يشمل عصرنا هذا.
فنحن -السواد الأعظم منا- نستجيب إلى الدنيا مذعنين منقادين انقياداً كليَّا إلى ماتهوى النفوس وتستريح إليه القلوب من متعٍ ولذَّات مما تقع عليه أعيننا ،فإذا أعرضتْ عنا حيناً من الدهر نقمنا عليها وجزعنا وسلقناها بألسنةٍ حِداد.
ولأننا نصدقها الصُّحبة ونستكين إليها طامعين في لذائذها نغفل في أحايين كثيرة عما وراء وداعتها وسكونها ونعومة ملمسها من مكرٍ خفي.
وتجدر الإشارة أيضاً إلى أنَّ البصروي في نصَّه هذا تحامل على أهل زمانه ولاسيَّما من أُصيبوا ببعض الأمراض الاجتماعية الفتَّاكة.
أمام هذه المفارقات التي هي من طبيعة الدنيا وصميمها لم يجد بدَّاً من أن يقرع الأجراس المرنانة مُدلياً بآرائه المستنيرة شأنه شأن الحكيم الألمعي.
بيد أنَّ شفقة الشاعر على بني الإنسان (بني جنسه) أملتْ عليه أنْ يرسم لهم بواسطة مصباح وعيه طريقاً لاحباً آمناً للسير المطمئن حتى بلوغ النجاة!!
والذي أجمع عليه أصحاب الفكر والنباهة على مرِّ التاريخ أنَّ مصالحة الدنيا وكفّ الملام والسخط عن الزمان ودورانه المُحكم وسائل ضرورية جداً للعيش الكريم المطمئن.
ولا سبيل لتحقيق تلك المعادلة التصالحية المتزنة إلا بواسطة الرضى والقناعة و التحلِّي بقيم الخير والجمال والفضائل الحميدة ومواصلة رحلة العطاء والبناء الحضاري المنفتح على آفاق المستقبل المشرق.
ولاتعزب عن البال مقولة ابن عمر رضي الله عنهما الخالدة: كُنْ في الدُّنْيا كأَنَّكَ غريبٌ، أَوْ عَابِرُ سبيلٍ.
وخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لمَرَضِكَ، ومِنْ حياتِك لِمَوتِكَ»
والتوسّط في الأمور كلها كالّذي ألمح إليه أبوالعلاء المعرّي هو الميزان المنضبط وذلك في قوله الذَّائع :
فإن كنْتَ تَبْغي العِزّ فابْغِ تَوَسّطاً
فعندَ التّناهي يَقْصُرُ المُتطاوِل!
______________________
نصُّ البصروي:
نرى الدنيا وزهرتَها فنصبو
وما يخلو من الشهواتِ قلب!

ولكنْ في خلائقنا نفارٌ
ومطلبُها بغير الحظِّ صعب!

كثيراً ما نلوم الدهرَ فيما
يمرُّ بنا وما للدهر ذنبُ!

ويعتب بعضُنا بعضاً ولولا
تعذُّرُ حاجةٍ ما كان عتب!

فضولُ العيش أكثرها همومٌ
وأكثر ما يضرُّك ما تحبُّ!

فلا يغرركَ زخرفُ ما تراه
وعيشٌ ليِّنُ الأعطافِ رطْب!

فتحت ثيابِ قوم أنت فيهم
صحيح الرأي داءٌ لا يطبُّ

إذا ما بُلغةٌ جاءتك عفواً
فخذها فالغنى مرعى وشرب!

إذا اتفق القليلُ، وفيه سلمٌ
فلا ترد الكثيرَ وفيه حرب!
______________________
فإذا تجاوزنا شاعرنا البصري تبدَّى لنا
على مقربة منه الشاعر المتنبي مشمخرّاً كالطود الباذخ يتلو بعض آياته عن الدنيا وموقفه منها وعلمه القديم الراسخ في وجدانه عن أطوارها وعن علاقة الأناسيِّ بمسارح لهوها ومرابع أنسها كما في لمحته الوضاءة هذه:
وَمَن لَم يَعشَقِ الدُنيا قَديماً
وَلَكِن لا سَبيلَ إِلى الوِصالِ!

نَصيبُكَ في حَياتِكَ مِن حَبيبٍ
نَصيبُكَ في مَنامِكَ مِن خَيالِ

فالمتنبي هنا -بما أُوتي من حكمة وحصافة وسداد رأي- لايكتفي بذكر عشقنا المصروف بسخاء إليها
بل يذهب بنا إلى عشق الناس الأبديّ المتوارث جيلاً بعد جيل لها والذوبَان الشديد في محبتها ،ساخراً في الوقت ذاته من صلَفها وتمنعها من أن تستجيب
لمحبيها فتمنحهم شيئاً من أطايبها وأشذائها وعناقيدها الزَّاهية المثمرة.
ومن هذا التذبذب الدنيوي والجزاءات غير المتكافئة يحسن بنا أن نصغي إلى قيثارة أمير الشعراء شوقي المنبعث من نسيج بردته العصماء الخالدة في ذاكرة الزمن كما في هذا النداء الزَّاكي ونبرته العالية المصطبغة بالأسى :
يا نفسُ دنياكِ تخفي كلَّ مُبكيةٍ
وإن بدا لك منها حسنُ مبتسم. !

فُضِّي بتقواك فاها كلما ضحكتْ
كما يفضُّ أذى الرقشاء بالثرَم.!

ونلحظ هنا أصداء صرخات أمير الشعراء شوقي وهي تتردد على مسامعنا ونستشف خلجات نفسه الساخطة على دنياه اللعوب التي استطاعتْ بذكاء ودهاء السيطرة عليه ردَحاً من الزمان و مخاتلته والتدليس عليه والتفنن في إخفاء نوازعها المتمردة المتوارية خلف نقابها الزائف إبَّان مسيرته الطويلة معها،
لكنَّه في خضم بحرها المائج استطاع النجاة بنفسه والخروج من تلك البوتقة الصَّاهرة ليُطلِع الأجيالَ من بعده على السرّ الإلهي الذي بفعله الناجع المؤكد يتمّ الانتصار على الدنيا والحدّ من طوفانها المستبدّ،ألا وهو مفعول( التقوى ) وحدها المستمدَّة من مخافة الله العليِّ الخبير،ومراقبته في السرّ والعلن.
لذلك نراه في موضع دُنيويّ آخر يرفض فكرة التمني القائم على الاتِّكالية المفتقرة إلى العزيمة الصادقة ،
كما في قوله:
و ما نيل المطالب بالتمني
ولكن تؤخذ الدنيا غلابا

فلتكن علاقتنا بالدنيا وزينتها علاقة اليقظ المتبصر لا الساخط المتضجر غير ناسين بطبيعة الحال نصيبنا المفروض منها كما قال جلّ ذكره :
{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}

والله من وراء القصد.

محمد سلطان الأمير

شاعر - معلم لغة عربية - مكة المكرمة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى