المقالات

ورقة أخرى من ملفي الشخصي

«زاوية منفرجة»

عندما قدمت أوراق اعتمادي لقراء “مكة” الأسبوع الماضي، ركزت على تعداد مآثري الصحفية، ومن بينها، على سبيل المثال لا الحصر، تنويم إدموند ماسكي، وزير الخارجية الأمريكي على عهد جيمي كارتر، عندما حاورته، لأن سؤالي الأول كان من فئة أغنيات أم كلثوم: مقدمة طويلة، ثم “يا ليلي يا عيني، وهذه ليلتي وحلم حياتي بين ماضٍ من الزمان وآتِ”. وذاع أمر قدراتي الخارقة بدرجة أن المخابرات السوفيتية (كيه جي بي) طلبت يدي، وما كان واردًا أن أقبل عرضًا بالروبل، في وقت وضعتني فيه المخابرات الأمريكية (سي آي إيه) في القائمة السوداء.

وكي لا يحسبني القارئ مغرورًا، فإنني لم أكتب عن تكليفي بمنصب مدير تحرير جريدة “إمارات نيوز” الإنجليزية، التي كانت تصدرها مؤسسة الاتحاد للصحافة في أبوظبي، في دولة الإمارات (مع جريدة الاتحاد العربية، وزهرة الخليج النسائية، ومجلة ماجد للأطفال). وفي عهدي الميمون، ظل توزيع الجريدة في سقوط عمودي، فتم إبعادي عنها، ثم أبعدت نفسي عن أبوظبي، وأسلمت الجريدة الروح بعدها بقليل، إثر علة أمهلتها طويلًا.

كُتاب المقالات والأعمدة الصحفية يتقاضون مبالغ مالية نظيرها، ولكنني لست “ماديًّا”، لأنني، بحمد الله، سليل بيت عز ومال. فقد وُلدت وفي فمي ملعقة من ذهب. ففي عام غير كبيس، نال والدي، الذي كان بحارًا على البواخر النيلية، علاوة على الراتب قدرها ثلاثة جنيهات، وعاد إلى البيت منتشيًا، وفوجئ بأن زوجته أنجبت ولدًا، فما كان منه إلا أن صاح: “الولد دي مبروكة، نسميها جافر التيّار (لسانه النوبي لا يميز بين المذكر والمؤنث، وقصد تسميتي جعفر الطيار).

ثم كنت التلميذ الوحيد الذي يذهب إلى المدرسة الابتدائية على ظهر حمار، وأوقف الحمار في المكان (الباركينغ) المخصص لحمير المدرسين. وللحمير (ذوات الأربعة) في عائلتنا مكان أثير، فقد كان جدي لأبي مولعًا باقتنائها، ويقوم بقص شعرها بحيث تصبح في جمال كلاب ممثلات هوليوود. ومن فرط شغفه بالحمير، فقد كان كلما رأى حمارًا ممتلئًا عافية ورشاقة عند شخص آخر، قايضه بمساحة من الأرض الزراعية التي كان يملك منها عديد الأفدنة. ومات جدي ولم تبقَ من أراضيه إلا قطعة لا ينبت فيها حتى الصبار، الذي فاز بهذا الاسم لأنه يصبر على الجفاف وفقر التربة. وترك أيضًا 12 حمارًا للورثة، فما كان من عمي “الطيب”، أكبر عياله، إلا أن وزعها صدقة على روحه (اعترف عمي لاحقًا بأنه فعل ذلك تعبيرًا عن الغضب).

وعلى مدى سنوات صباي وشبابي الباكر واللاحق، ظل أهلي مقتنعين بأنني شخص “فيه البركة”. وعزز ذلك الاعتقاد عندهم أنني استخدمت الأسانسير الذي لم يروه هم إلا في الأفلام السينمائية، وعمري 24 سنة، وكان ذلك عندما صرت عميلًا لبريطانيا، بعد أن فزت بمنصب ضابط إعلام/ مترجم في السفارة البريطانية في الخرطوم. ولما صرت أرتدي ربطة العنق (الكرافتة)، أيقنت أمي أنني فعلًا “طيار”.

ثم فزت ببعثة دراسية في بريطانيا، وركبت الطائرة، وكانت من طراز كوميت فور سي، أوصلتني مشكورة إلى مطار هيثرو، ولم تبارحه بعدها، أي أنه تم سحب جميع طائرات الكوميت من الخدمة بعد أن سقطت ست منها خلال عام واحد. وهكذا فإن نجاتي من الموت وأنا داخل تابوت طائر عززت اعتقاد أهلي بأنني مبروك.

ولست ميالًا إلى التباهي، فقد توالت الطفرات في مسيرة حياتي، مرورًا باقتنائي سيارة مجهولة الأبوين ومجهولة الأصل والفصل، عندما عملت مترجمًا في شركة أرامكو في الظهران، ثم قفزًا بالزانة إلى سيارة تويوتا كورولا بعد أن التحقت بمؤسسة الاتحاد للصحافة في أبوظبي. وكان من آيات الميسرة عند السودانيين وقتها اقتناء سيارة تويوتا كريسيدا، ومن لم يستطع فكورولا.

ثم عملت في شركة الاتصالات القطرية، وصار عندي تلفون أرضي وآخر جوال، واقتحمت عصر الإنترنت. ولأنني من بلد لا تنال فيه المكانة والوجاهة والمنصب الرفيع ما لم تكن حائزًا على لقب “سيدي”، فقد صرت في نظر أهلي وأحبابي “سي دي أبو الجعافر”، بما يوحي بأن قومًا يسمون الجعافرة يدينون لي بالولاء، وبحيث توحي التسمية بأنني أتفوق على “الأسياد” التقليديين بالانتماء إلى عصر التكنولوجيا.

jafabbas19@gmail.com

جعفر عباس

كاتب صحفي (ساخر)

تعليق واحد

  1. السخرية في مقال ، فن يصعب الخوض فيه وانت يا أبا الجعافر طوعت قنواته لتكون طوع امرك.

    الحمد لله رجعنا لنقرأ أبو الجعافر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى