تجارب الأولين مرايا للآخرين، هكذا قال أبو حيان التوحيدي، لم تصل اليابان ولا غيرها من الدول إلى ما وصلت إليه فقط لمجرد توافر المصانع، والموارد الطبيعية، ورؤوس الأموال، مع أهميتها، لكن لن تكتمل هذه الأضلاع دون النهوض بالتعليم، ولن ينهض التعليم دون الاهتمام بالمعلم.
ففي التجربة اليابانية يحظى المعلم بالاحترام الواسع من جميع طبقات المجتمع الياباني، حتى أنه كان يصل إلى حد التقديس خلال فترة إمبراطور اليابان “ميجي”، وهو الذي أخرج اليابان من التخلف وحولها إلى إحدى أقوى اقتصاد في العالم.
في الوقت الحالي عندما يدخل المعلم الياباني إلى الفصل يقف جميع الطلاب وينحنون احتراماً وتقديراً له، ثم يرددون: “يا معلمنا نرجو أن تتفضل علينا وتعلمنا”، وهو رجاء يفوق الاحترام والتقدير، كما يقومون خلال حفل التخرج بغسل قدميه؛ ويقال إن اليابان تعطي لقب “سعادة” للمعلمين، من باب التقدير المعنوي للمعلم.
ليست اليابان وحدها من تهتم بالمعلم، في ألمانيا يتقاضى المعلم رواتب كبيرة مقارنة ببقية شرائح المجتمع، لدرجة أن راتبه تجاوز رواتب القضاة، على الرغم من حساسية هذه المهنة وضرورة جعلها في مراتب متميزة، هذا ما دفع القضاة ومعهم الأطباء والمهندسين في ألمانيا ذات مرة لمطالبة المستشارة الألمانية السابقة “أنغيلا ميركل” بمساواة رواتبهم برواتب المعلمين، فما كان منها إلا أن تعقد مؤتمراً صحافياً للرد عليهم، فأوجزت -المستشارة الألمانية- الرد في كلمات قليلة، لكنها غزيرة المعنى، قالت لهم:”كيف أساويكم بمن علموكم”.
وكما قال عالم الفيزياء ومكتشف النظرية النسبية العبقري ألبرت أينشتاين :”ليس التلميذ وعاء تملؤه، إنما هو شعله عليك أن توقدها”؛ لذلك فالتعليم هو المعلم.
في كتابه (الطريق الوعر) ذكر الرئيس الكوري “لي ميونج باك”، كيف عطف عليه معلموه وساعدوه في الالتحاق بالمدرسة، وشجعوه على التحصيل العلمي، وصنعوا منه رجلاً استطاع فيما بعد من قيادة بلده كوريا والنهوض بها.
وفي كتاب:(التحول من العالم الثالث إلى العالم الأول: قصة سنغافورة من عام 1965م-2000م)، لمؤلفه “لي كوان” أول رئيس وزراء لسنغافورة بعد الاستقلال، عرض فيه كيف تحولت سنغافورة من دولة فقيرة إلى نموذج دولي؛ قال للمعلمين: “سأبني الوطن وعليكم بناء المواطن”.
ومن أقوال “لي كوان” التي وردت في كتابه: ” أنا لم أقم بمعجزة في سنغافورة، أنا قمت بواجبي، خصصت موارد الدولة للتعليم، وغيرت مكانة المعلم من طبقة بائسة إلى أرقى طبقة في سنغافورة؛ فالمعلم هو من صنع المعجزة السنغافورية.
وأختم بكتاب (توفير التعليم ل 1،3 مليار إنسان)، لمؤلفه “لي لانكينغ” النائب السابق لرئيس الحكومة الصينية، الذي تحدث فيه عن أجور المعلمين، وكيفية إعادة بناء الأمة عبر التعليم؛ وعن السنوات العشر التي قضاها في إصلاح قطاع التعليم وتطويره ليحظى الجميع بالعلم والمعرفة.
كل هذه التجارب وغيرها تبين أن المعلم هو الأساس في نهضة الأمم، هو صانع الأجيال، وباني العقول، ومربي النشء ، فبوجوده تسمو الأخلاق وتزدهر الأوطان.