قبل هذا العهد الزاهر بعقود ليست كثيرة، عانى الناس جميعهم من سطوة المرض وسلطان الموت الناتج عنه، ومن وطأة الإعاقات بمختلف أشكالها. كان الوالدان يرزقان بأطفال يزيد عددهم عن العشرة، لكن لا يعيش منهم إلا اثنان أو ثلاثة. ووالدا كاتب هذه الكلمات (على قبريهما شآبيب المغفرة والرحمة) عانيا، كغيرهما، من ذلك. فقد ولدت والدتي رحمها الله أربعة عشر طفلًا، عانت في حملهم ما لا يحتمل من شقاء وتعب وسوء تغذية.
كانت والدتي إذا جاءها المخاض تقضي ساعات أقسى من الموت نفسه، وقد يستمر يومين أو ثلاثة تحت رحمة قابلة لا تملك من أدوات المساعدة شيئًا يُذكر. وبعد هذه الآلام، يُولد الطفل إلى دنيا مليئة بالمعاناة، فتتبخر آلام الأم لحظة فرحها بقدوم وليدها. لكن هذا الفرح لا يدوم، إذ تحيط بالطفل الأمراض والجراثيم والأوبئة، لتبدأ رحلة جديدة من المعاناة.
مع قلة الحيلة والوعي، كان الاستطباب أمرًا بدائيًا. فإذا ارتفعت حرارة الطفل وبدأ ينتفض قالوا: “دثروه”، مما يزيد من حرارته سوءًا. وإذا أصيب بنزلة معوية أو إسهال قالوا: “اسقوه سمن بقر”، فتتفاقم الكارثة. وربما غيّروا اسمه بناءً على نصيحة منجّم فاشل يدّعي أن الاسم ثقيل على حظ الطفل.
وأما إذا أصيب الطفل بليونة في العظام أو بعض التشوهات نتيجة الحمل أو السعال الشديد، فكانوا يلجؤون إلى الكي بالنار. فيُستدعى رجل ضخم الجثة قد نزعت من قلبه الرحمة وفقد معظم بصره، ويوقدون سيخًا من الحديد حتى يصبح جمرة ملتهبة. ثم يباشر الكي بلا رحمة.
كاتب هذه السطور يحمل على صدره أربع عشرة كية، منها خمس ضرورية وتسع للتصحيح فقط! (سامح الله أبي وأمي وعمي الذي برك على صدري، وسامح الله الشيخ “عارف أبو أحمد” الطبيب المعالج بالنار).
نجوت من الموت بأعجوبة، بعد أن أشرفت على الهلاك مرتين. تأخرت في المشي حتى السنة الرابعة من عمري، وفي الالتحاق بالمدرسة حتى أوائل الثامنة. كما أعدت السنة الثالثة بسبب مرض أقعدني ستة أشهر.
نجوت، وبقي من أشقائي اثنان وشقيقة واحدة توفيت في الرابعة والعشرين من عمرها. أما والداي، فقد فقدا عشرة من أصل أربعة عشر طفلًا. وكل من حولنا كان في معاناة مشابهة أو أشد.
الحصبة، الجدري، التيفوئيد، الشلل، والدوسنتاريا، كانت تفتك بالمجتمع. من نجا من الموت، لم ينجُ من الإعاقة أو التشوه. أما الداء الكلوي، والزائدة الدودية، والبلهارسيا، فقد كانت أمراضًا قاتلة بسبب رداءة المياه، وسوء النظافة، وانعدام الوعي الطبي.
اليوم، ولله الحمد، ننعم بخدمات صحية راقية. وزارة الصحة، بالتعاون مع وزارة الداخلية، أصبحتا أحرص على صحة أطفال المملكة من بعض الوالدين. لم تعد الأوراق الثبوتية تُستكمل إلا بعد إثبات استكمال تطعيمات الأطفال، مما جعل وفاة الأطفال أمرًا نادرًا.
مع انتشار الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي، ظهر أطباء وهميون يستغلون حاجة المرضى وتعلقهم بأمل الشفاء. تجدهم يسوقون خلطات رديئة بأسعار باهظة، مدعين أنها تشفي جميع الأمراض.
البعض يزعم أن “خلطة أم فلان” تعالج السرطان بنسبة 100%. بينما الأطباء والعلماء قضوا أعمارهم في المختبرات لتطوير أدوية لا تصل فعاليتها أبدًا إلى هذه النسب المزعومة.
ظهرت مواقع رقية تجارية، يستغل أصحابها المرضى ببيع الزيوت والمياه بأسعار باهظة. حتى الأدوات العادية مثل “الفأس” يبيعونها بأسعار مبالغ فيها بحجة أنها خاصة للرقية.
لا يمكن مواجهة هذا الوضع إلا بنشر الوعي وتشجيع الناس على استشارة الأطباء والمختصين. طالب الطب يقضي سبع سنوات قبل أن يُمنح حق وصف الأدوية، فلا يمكن أن يؤخذ علاج من أشخاص مجهولين.
يجب أن تُكثّف حملات التوعية عبر الإعلام، المساجد، والمدارس لتوعية المجتمع بخطورة هذه الظواهر.
والله يحفظ الجميع ويرعاهم.
والله من وراء القصد، والسلام.