عام

القرية والقرى والمعادلة الصائبة (٢)

ليس من شك أن طرح الإشكالات دون المقاربة العملية لحلها يخرجها من قالب الجدية ولبوس الحلول الفاعلة والمؤثرة إلى العبثية والنمطية الفاشلة التي لا طائل تحتها. وفي المقال السابق، انصب الحديث على ضرورة إيجاد حل لإيقاف هجرة القرويين إلى المدن الكبرى رغم الخدمات المعيشية المريحة في قراهم، بيد أن ثمة حلقات مفقودة وراء دافعية هجرة سكان القرى من حيث المبدأ لا يمكن تجاهلها مطلقًا أو غض الطرف عنها، والتي يمكن احتواؤها من خلال توفير العوامل والأسباب المثبطة للهجرة الإجبارية إلى المدن. ولا داعي لتكرارها في هذا المقام والتي سبق بيانها في الحلقة الأولى من هذا المقال. إذ من المهم طرح الرؤية العملية المتوازنة لإيقاف تلك الهجرات من داخل القرى نفسها والمحافظات التابعة لها.

ويأتي في طليعة تلك الأسباب:
1. إيجاد البيئة المناسبة لاستيعاب الشباب القروي وظيفيًا في قراهم أو في المحافظات التابعة لها تلك القرى. وهذا في حد ذاته عامل قوي لجذب الشباب للبقاء في قراهم، مما يملي على الجهات المعنية خلق وظائف وأعمال تتناسب ومخرجات القرى سواء كانت زراعية أو حيوانية أو تجارية أو صناعية أو بحرية. ولا مندوحة من تأسيس الجمعيات التي تنمي روح التنمية في تلك القرى وفق خطط علمية مبرمجة مع الدعم المالي المباشر بالقروض الميسرة.
2. إعطاء المحافظات نصيبها من التعليم الجامعي ذي التخصصات العلمية المناسبة لسوق العمل وعدم إيثار المدن بهذا التعليم الهام. وعلى سبيل المثال، يمكن توزيع بعض التخصصات الطبية والهندسية بالجامعة الأم في المنطقة وتوزيع بعض تخصصاتها العلمية في المحافظات من أجل استيعاب الأعداد الكبيرة من خريجي الثانوية في القرى والمحافظات، وفق الضوابط العلمية والشروط الدقيقة في هذا المجال، وعدم إيثار المدن بهذه التخصصات وحدها.
3. استثمار الموارد الطبيعية المحلية: هناك مناطق خارج المدن الرئيسة وقريبة من المحافظات والقرى أو داخلها تتوافر على عدة معادن وثروات طبيعية أو زراعية أو ثروة بحرية. ومن المنطقي العلمي المحايد أن تؤسس تلك الكليات العلمية في بيئتها العلمية المناسبة ليتسنى للطلاب والباحثين والأساتذة إجراء البحوث والتدريب العملي من قرب.
4. بناء مستشفيات متكاملة في المحافظات: تنهي معاناة القرويين في شد الرحال إلى المدن وانتظار المواعيد الطويلة.
5. توسيع نطاق الوزارات في القرى والمحافظات: من الملاحظ أن كثيرًا من الوزارات المعنية لا وجود لها البتة في القرى والمحافظات، مثل رعاية الشباب، والسياحة، والتجارة، والصناعة. وهذا في حد ذاته عزل للقرى والمحافظات وساكنيها عن مسيرة التنمية المضطردة والمتسارعة، مما يخلق بونًا شاسعًا بين المدينة والمحافظة والقرية. ويمكن تلافي هذا القصور بوجود مجمع حكومي لجميع فروع الوزارات في كل محافظة يمتد نشاطها إلى سائر القرى التابعة لها.

وهذا لا يعني بأي حال تبرئة سكان القرى من مسؤولية تطوير قراهم، وخاصة ممن هاجر منهم ونال حظًا عاليًا من التعليم التخصصي أو انخرط في التجارة وغدا من كبار رجال الأعمال. إذ لا ينبغي أن تكون علاقتهم بقراهم سلبية وشرفية فقط أو مقتصرة على الأعياد والدعوات الاجتماعية أو الوقوف على الأطلال لاستنشاق هواء التراث، أو زيارة مرابع الآباء والأجداد. بل عليهم أن يتحملوا قدرًا كبيرًا من المسؤولية في تطوير قراهم، مثل افتتاح مستوصف أو تأسيس معهد للتدريب بأسعار معقولة.

تجربة رائدة في تطوير القرى
بين يدي تجربة رائدة تبناها وتصدى لها بكفاءة بعض الفضلاء في إحدى القرى، ومن المناسب إيرادها بلسان أحد أبنائها وهو الدكتور أحمد الشهري (حفظه الله وبارك في جهده). يقول مختصرًا: “بعد التقاعد من العمل الحكومي، كان ثمة قرى زراعية هجرت، وبدا من الضرورة تأهيل بعض المزارع القديمة التي كانت تُنتج أجود أنواع البن السعودي الأصيل. واتساقًا مع رؤية المملكة (2030) ترجح لي استغلال أحد جبال محافظة المجاردة (جبل ريمان) الذي يحتضن العديد من المدرجات الزراعية التي كانت تزخر قديمًا بزراعة (البن).

وبفضل الله، تم بدعم من الجهات الحكومية المعنية وجمعية (البن) بالمحافظة اختيار جبل (ريمان) الذي يرتفع عن سطح البحر بقدر (1600 م)، حيث بدأ تدشين العمل بتوزيع شتلات البن الأصيلة من منطقة عسير على المزارعين (مجانًا)، مشفوعًا بتوفير الخدمات اللازمة وإعادة صيانة الطرق الجبلية. وكان لذلك أثر بالغ في إعادة التوطين الأهلي والهجرة المعاكسة إلى القرى في المنطقة، إضافة إلى الجذب السياحي بعد سنين عجاف بلغت قرابة 50 عامًا. وطفق الأهالي في تجديد البيوت القديمة، ودشنت حركة تجارية وحضارية واعدة”.

وهكذا يتجلى لنا دور المواطن الصالح في تطوير مسقط رأسه، متى صحت النيات وصدقت العزائم.

أ.د. غازي غزاي العارضي

استاذ الدعوة والثقافة بجامعة الاسلامية وجامعة طيبة سابقا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى