إن اختيار المملكة العربية السعودية كي تكون مقرًا لمنظمة الشرطة الجنائية الدولية (الإنتربول) خطوة استراتيجية تعكس مكانتها البارزة على المستويين الإقليمي والدولي،فهذا القرار لم يأتِ من فراغ، بل جاء نتيجة لمجموعة من العوامل التي تجعل من المملكة شريكًا موثوقًا في تعزيز الأمن الدولي، ومركزًا عالميًا لمكافحة الجريمة المنظمة، والإرهاب، والتحديات الأمنية العابرة للحدود.
لطالما كانت السعودية في طليعة الدول التي تساهم في حفظ الأمن والسلم الدوليين، من خلال تعاونها الوثيق مع مختلف الأجهزة الأمنية والمنظمات الدولية، إضافة إلى دورها الفاعل في محاربة الجريمة المنظمة، التطرف، والإرهاب. كما تُعتبر المملكة داعمًا رئيسيًا للجهود الرامية إلى تعزيز تبادل المعلومات الاستخباراتية، ومكافحة الجرائم السيبرانية والاتجار بالبشر وتهريب المخدرات، ما جعلها خيارًا مثاليًا لاستضافة مقر الإنتربول.
الإنتربول هو منظمة دولية للشرطة الجنائية، ويقع المقر الرئيسي له في مدينة ليون الفرنسية، حيث يتم تنسيق جميع الأنشطة الأمنية الدولية من هناك. بالإضافة إلى ذلك، تمتلك المنظمة عدة مقرات إقليمية حول العالم لدعم التعاون الأمني وتعزيز التنسيق بين الدول الأعضاء. وتشمل هذه المقرات: مكتب الإنتربول الإقليمي في هونغ كونغ، الذي يدعم التعاون الأمني في منطقة آسيا، ومكتب الإنتربول في سنغافورة، الذي يقدم الدعم الأمني في منطقة جنوب شرق آسيا، ومكتب الإنتربول في واشنطن العاصمة، الذي يعمل على تعزيز التعاون الأمني بين الولايات المتحدة والدول الأخرى. أما المملكة العربية السعودية، فستستضيف المقر الإقليمي للإنتربول في منطقة الشرق الأوسط، ليكون مركز دعم أساسي للمنظمة في المنطقة العربية، مما يعزز من قدرة الإنتربول على التنسيق بين الدول العربية لمكافحة الجرائم العابرة للحدود.
إلى جانب مكانتها السياسية والأمنية، تتمتع السعودية بأنظمة تقنية متقدمة تدعم العمليات الأمنية والاستخباراتية، ما يعزز من قدرة الإنتربول على أداء مهامه بكفاءة. وتتماشى هذه العوامل مع رؤية المملكة 2030 التي تضع الأمن كأحد ركائز التنمية المستدامة، وتسعى إلى جعل السعودية مركزًا عالميًا للابتكار الأمني وتبادل الخبرات.
منح الإنتربول ثقته للسعودية لاستضافة مقره يعد مؤشرًا واضحًا على التقدير الدولي لدورها القيادي في مجال مكافحة الجريمة وتعزيز الأمن المشترك. فوجود المقر في المملكة سيعزز من قدرة المنظمة على التنسيق مع الجهات الأمنية الإقليمية والدولية، ويساهم في تطوير استراتيجيات أمنية أكثر تكاملًا وفاعلية.
لم تقتصر السعودية على مجرد استضافة المقر، بل قدمت العديد من المبادرات الحيوية التي ساعدت في تطوير استراتيجيات الإنتربول. فقد ساهمت المملكة في دعم العديد من المشروعات الأمنية الدولية، سواء في مجال تدريب الكوادر الأمنية أو تطوير التقنيات الحديثة لمكافحة الجرائم العابرة للحدود. كما تلتزم السعودية بتقديم التمويل والمساندة اللوجستية لتعزيز مهام الإنتربول في مختلف مناطق العالم.
ضمن جهودها المتواصلة لتعزيز الأمن الدولي، أطلقت المملكة عددًا من المبادرات الرائدة في مكافحة الإرهاب والجرائم السيبرانية، منها: المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرف (اعتدال)، الذي يعمل على تحليل ومواجهة الفكر المتطرف باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، ما يساعد في رصد المحتوى المتطرف على الإنترنت ومواجهته بطرق فعالة. كما قادت المملكة التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب، وهو مبادرة تجمع أكثر من 40 دولة لمكافحة الإرهاب والتطرف من خلال تنسيق الجهود الأمنية والاستخباراتية وتبادل الخبرات. وفي مجال الأمن السيبراني، أنشأت المملكة “الهيئة الوطنية للأمن السيبراني”، التي تلعب دورًا رئيسيًا في تعزيز حماية البنية التحتية الرقمية وتطوير قدرات التصدي للهجمات السيبرانية. كما استضافت المملكة النسخة الرابعة من المنتدى الدولي للأمن السيبراني في مدينة الرياض في يومي 2 و 3 أكتوبر 2024، عقد المنتدى تحت رعاية مولاي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود – حفظه الله -، وبحضور عدد من المسؤولين الدوليين رفيعي المستوى من أكثر من 120 دولة. هدف المنتدى إلى تعزيز التعاون الدولي في مجال الأمن السيبراني ومناقشة القضايا الحيوية والاستراتيجية في الفضاء السيبراني. كذلك، أطلقت المملكة مبادرات مشتركة مع الولايات المتحدة ودول أخرى لمكافحة تمويل الجماعات الإرهابية، مثل “مركز استهداف تمويل الإرهاب”، الذي يهدف إلى تتبع وتجميد الأصول المالية للتنظيمات المتطرفة.
إن المملكة العربية السعودية، باعتبارها قوة أمنية وإستراتيجية في الشرق الأوسط، ستكون قادرة على تعزيز التعاون الأمني بين الدول العربية من خلال استضافة مقر الإنتربول. هذا سيُسهم في توحيد الجهود العربية لمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، مما يعزز من قوة المنطقة في مواجهة التحديات الأمنية المتزايدة. كما سيساعد على تطوير استراتيجيات أمنية عربية مشتركة وتنفيذ سياسات أكثر فاعلية في التصدي للجريمة العابرة للحدود.
وجود مقر الإنتربول في المملكة سيكون له تأثيرات مباشرة على تعزيز العمليات الأمنية والاستخباراتية على مستوى العالم. سيسهم في تحسين التنسيق بين الدول الأعضاء وتوحيد الجهود لمكافحة الجريمة المنظمة والإرهاب، بفضل البنية التحتية المتطورة والتقنيات الحديثة التي تمتلكها المملكة، مما يوفر الفرصة لتطوير أدوات جديدة لمكافحة الجريمة عبر الحدود، مثل تقنيات التعرف على الهوية الرقمية والتحليلات الأمنية المتقدمة.
علاوة على ذلك، سيمكن هذا القرار السعودية من لعب دور محوري في تطوير استراتيجيات مكافحة الجرائم السيبرانية والتهديدات الرقمية التي أصبحت تشكل خطرًا متزايدًا على الأمن العالمي. سيؤدي تواجد المقر في السعودية إلى تسريع تبادل المعلومات الاستخباراتية بين الأجهزة الأمنية المختلفة، مما يعزز قدرة الدول على اتخاذ قرارات سريعة وفعالة لمكافحة الأنشطة الإجرامية.
كما أن استضافة المملكة ستسهم في توفير فرص تدريبية مكثفة للقوى الأمنية في مختلف دول العالم، مما يسهم في رفع مستوى الجاهزية والتأهب في مواجهة التهديدات الأمنية. بالإضافة إلى ذلك، سيكون للمملكة دور محوري في تطوير سياسات أمنية مشتركة بين الدول العربية والدول الأخرى، وبالتالي تعزيز الاستقرار الإقليمي والدولي على حد سواء.
استضافة الدول الكبرى للمقرات الأمنية الدولية، مثل الأمم المتحدة في نيويورك أو منظمة الصحة العالمية في جنيف، أظهرت كيف يمكن لمثل هذه القرارات أن تعزز من مكانة الدول المضيفة على الساحة الدولية. تجربة المملكة في استضافة مقر الإنتربول ستفتح المجال أمام دول أخرى للتعاون في ملفات الأمن الدولي، وتجسد القدرة على قيادة التحالفات العالمية لمواجهة التحديات المشتركة.
إن اختيار المملكة العربية السعودية مقرًا للإنتربول يعد تتويجًا لمكانتها كقوة إقليمية ودولية فاعلة في تحقيق الأمن والاستقرار العالمي. ويؤكد هذا القرار أن السعودية ليست مجرد عضو في المنظومة الأمنية الدولية، بل شريك رئيسي في قيادتها وتطويرها، الأمر الذي يعكس ثقة المجتمع الدولي بقدرتها على التصدي للتحديات الأمنية المتزايدة، وترسيخ مفهوم الأمن المستدام عالميًا. ومع هذا الدور المتنامي، تواصل المملكة بناء تحالفات قوية وتعزيز منظومة الأمن الدولي، لتثبت أن استضافة مقر الإنتربول ليس مجرد إنجاز، بل محطة انطلاق جديدة نحو مستقبل أكثر أمنًا واستقرارًا للعالم بأسره.
حفظ الله المملكة وقادتها وشعبها، وأدام عزها ومجدها ووحدتها، وجعلها ذخراً للإسلام والمسلمين.
أستاذ القانون الدولي – جامعة جدة
# سياسي – دولي – دبلوماسي