«زاوية منفرجة»
أهاج شجوني مقال هنا في “مكة” الإلكترونية، للأستاذ عبد الناصر علي الكرت، تناول فيه موضوع الألقاب في المجتمع السعودي (11 يناير المنصرم)، عدّد فيه كيف ترتبط الألقاب بأمور مثل المهن والحرف (النجار، السباك، الحداد، الصايغ، الحكيم)، أو المناطق أو المذاهب (حنفي، شافعي، مالكي، حنبلي)، أو حتى الدول فنجد مثلا عائلة المصري والمغربي والشامي، ومثل هذه الألقاب شائعة حتى في المجتمعات غير العربية، ففي الشعوب الناطقة بالإنجليزية تجد كاربنتر (نجار)، سميث (حداد)، غولدسميث (صائغ)، هنتر (صياد)، كوك (طباخ).
ذكرني ذلك المقال بأمر عجيب في مجتمعاتنا، وهو مجانية الألقاب والسخاء في توزيعها، ومن ذلك ربط الاسم الفعلي للإنسان بمهن الياقات البيضاء، وهي آفة جلبها علينا المحامون، فهم من دون سائر أرباب المهن، لا يكتبون أسماءهم إلا متبوعة بـ”المحامي”: فلان بن فلان المحامي، حتى لتحسب أن “المحامي” اسم عائلة عربية ممتدة، موزعة في جميع دول العرب من المحيط إلى الخليج، وفي السنوات الأخيرة ركب المهندسون موجة التباهي المهني فصاروا يدونون أسماءهم لتبدأ بـ “المهندس”، ولن تجد فلان الفلاني المحاسب أو السبّاك.
وانظر إلى السخاء في توزيع الألقاب في عالمي الفن والأدب: طه حسين “عميد الأدب العربي”، والأدب هذا يشمل الشعر الفصيح والعامي والرواية والقصة القصيرة والمسرح، وهذه مجالات ليس لطه حسين، على طول باعه في النقد الأدبي أي إسهام خلالها، وفاز أحمد شوقي بلقب “أمير الشعراء”، واللقب على إطلاقه هكذا، يعني أنه أمير على المتنبي والبحتري وأبو تمام والفرزدق، والشاعر العراقي محمد الجواهري هو “أبو الفرات”، مما يجعل دجلة مجهول الأب، وخليل مطران “شاعر القطرين” (سوريا ولبنان) وفي هذا ذم بما يشبه المدح، لأن اللقب يشي بأنه ليس مقروءا خارج القطرين، ونازك الملائكة “عاشقة الليل” ولم يتكرم أحد ليشرح لنا سبب تحسسها من النهار، ثم يبلغ السخاء السخيف في توزيع الألقاب شأنا عاليا عند أهل الطرب، فأم كلثوم “كوكب الشرق”، وكوريا وكمبوديا شرق، ولم يُبذل أي جهد لفض الاشتباك بينها وبين فايزة أحمد “كروان الشرق”، وفيروز “سفيرة لبنان إلى النجوم”، ولا شأن لأهل الأرض بأغنياتها الرائعة، ووديع الصافي “صوت الجبل”، وعليه فأغانيه لا تصلح للتداول في وادي زحلة أو أي منطقة سهلية.
كان العرب الأقدمون يستخدمون الكنى والألقاب بما يصف حامليها أو يبين جوانب من سيرتهم أو شخصياتهم أو سلوكهم، فالشاعر ثابت بن جابر قالت أمه أنه “تأبط شرا” عندما دخل عليها يوما حاملا جرة فيها بعض الأفاعي، وأحمد بن الحسين الجعفي، عرف بالمتنبي بعد أن ادعى النبوة وهو في بادية السماوة (العراق)، وقيس بن عبد الله صار النابغة الجعدي، لأنه نبغ في الشعر بعد أن بلغ الأربعين، والشاعر غياث بن غوث، صار الأخطل بعد أن رماه أحدهم بالسفه وفساد اللسان (الخطل) وهو صبي.
وفي صدر الإسلام فاز أبرز فرسان تلك الحقبة بألقاب وكنى لا شطح فيها ولا نطح، بل فقط تضيء جوانب من شخصياتهم أو إنجازاتهم، وانظر ألقاب الخلفاء الراشدين عليهم رضوان الله، فقد صار أبو بكر بن قحافة “الصّدِّيق”، لأنّه أول من صدّق رسالة النبي محمد عليه السلام، وفاز عمر بن الخطاب بلقب “الفاروق”، لأن إسلامه كان تفريقا للحق من الباطل، وعثمان بن عفان بــ “ذي النورين”؛ لأنّه تزوج باثنتين من بنات النبي، وعلي بن أبي طالب لا يأتي اسمه إلا متبوعا بعبارة “كرَّم الله وجهه”، وذلك لأنّه لم يسجد لصنم قط، ويُلقَّب الصحابي حمزة بن عبد المطلب بـ “أسد الله” لشجاعته في مواجهة أعداء الإسلام، أما الصحابي خالد بن الوليد، رضي الله عنه، فيلقب بـ “سيف الله المسلول”، والصحابي أبو عبيدة عامر بن الجراح، رضي الله عنه، يلقب بـ “أمين الأمة”، وسُمّي عبد الله بن العباس “حبر الأمة”.
أما الخلفاء العباسيون، فقد فاز كثيرون منهم بألقاب غير مستحقة لإضفاء شيء من القداسة أو الطهارة على أنفسهم، فصار منهم المنصور، والمهدي، والهادي، والرشيد، والأمين، والمأمون، والمعتصم بالله، والواثق بالله، والمتوكل على الله، مما يستدعي حكاية العربي الذي جلس أمام أحد الولاة ليحقق معه في مخالفته لأمر ديني فسأله عن اسمه، فقال عبد الله. ثم ماذا؟ ابن عبيد الله. ثم ماذا؟ ابن عبد ربه، ثم ماذا؟ ابن العابد، فصاح فيه الوالي: إنك تلوذ بالله ليّاذ لئيم جبان مخادع.
وذاعت بين أهل الحديث والسنة ألقاب مثل “شيخ الإسلام”، الذي أطلق على كثير من الفقهاء، و”حجة الإسلام”؛ و”العلامة الجهبذ”، و”شمس العارفين”، و”بحر العلوم”، و”شيخ الوقت والزمان”، و”أعلم أهل الأرض”، و”برهان الإسلام”، و”عَلَمْ الهدى”، و”الإمام الأعظم”؛ الذي أطلق على الفقيه أبو حنيفة النعمان، وإذا مات سيبويه وفي نفسه شيء من حتى، فسأموت وأنا لا أعرف كيف استحقت رابعة العدوية لقب “شهيدة الحب الإلهي”، ولا كيف يُحرم بلايين المسلمين من شرف الشهادة، وهم أحبوا ويحبون الله كما رابعة.
والشطط السخيف في توزيع الألقاب ليس وقفا على العرب، فالفاتيكان مثلا منح “الأم تيريزا” رتبة قديس، وتيريزا صنعت لنفسها مجدا بعضه مستحق بالعمل وسط الفقراء في الهند، ولكنها لم تفعل ذلك إيمانا واحتسابا، بل كانت غايتها المعلنة تأليف القلوب كي يصبح المستفيدون مما كانت تقدمه من طعام وكساء مسيحيين كاثوليك، وقالت صحيفة شتيرن الألمانية “إن مراكز الإيواء التي كانت تديرها تيريزا، كانت أقرب الى معسكرات الاعتقال في ألمانيا النازية، من حيث بؤس الرعاية والغذاء”، ونعت عليها أيضا أنها شيدت 140 كنيسة تحمل اسمها بأموال التبرعات التي تلقتها لتقديم العون الإنساني لفقراء الهند.
ونبقى في الهند، وأسطورة المهاتما غاندي (مهاتما تعني الروح الأعظم)، والذي يتم تصويره كإنسان بسيط وجم التواضع، ولو كان متواضعا كما يصوره مريدوه، وكما توحي صوره الفوتوغرافية بملابس بسيطة في رفقة معزة عجفاء، لما قبل لقبا يرفعه إلى مصاف آلهة الهندوس، ولكن غاندي تعمد كتابة أسطورته بنفسه، ولا سبيل لنكران أنه لعب دورا كبيرا في معركة استقلال الهند من بريطانيا، وأنه مبدع ما صار يعرف بـ”المقاومة السلبية”، وكان أول من طرح العصيان المدني كسلاح سياسي لشل الحكم البريطاني في الهند، ولكنه نجح إلى حد كبير في تحويل أعداد هائلة من الهنود إلى كائنات سلبية ومستكينة، فبعد أن تقمص دور المفكر والقائد الروحاني، صار يردد أشياء عجيبة، مثل حثه الناس على الحرص على الفقر، بزعم أن الفقر والمعاناة ضروريان لتقوية الروح وتحصينها ضد الشهوات، وبنفس الذريعة هجر زوجته كاستوبرا في الفراش عشرين سنة متتالية، وكان ينام على فراش واحد مع بنت أخته وكلاهما عاريان، ولما تهامس الناس بأن بينهما علاقة محرمة، زعم أنه يفعل ذلك من باب “السيطرة على الشهوات”، ولم يكتف بهجره لزوجته لعقدين من الزمان، بل عندما أصيبت بنزف حاد، جعلها طريحة الفراش، ورفض أن يتم علاجها بالمضادات الحيوية، لأنها “عقاقير أجنبية”، فنزفت المسكينة حتى ماتت، ثم جاء الدور على ابنه هاريلال، الذي حاول إقناع أبيه بضرورة إلحاقه هو وإخوته بالمدارس، ولكن المناضل غاندي خريج كلية القانون، عارض ذلك، وتمرد هاريلال على تعاليم أبيه، ووجد لنفسه مخرجا باعتناق الإسلام، فما كان من غاندي إلا أن تبرأ منه، وألزم جميع أفراد العائلة بمقاطعته.
كان غاندي يروج لتخاريف بزعم أنها روحية، كان جوهرها أن الفقر والجهل (بمعنى الأمية)، يؤديان الى التطهر والتعالي على الصغائر، ولكن كان من حسن حظ الهند أن “جواهر لال نهور” قادها إلى الاستقلال وتكريس الوحدة الوطنية، ورفض جعل الهندوسية ديانة رسمية للبلاد، ورفض دعاوى أن الفقر والمعاناة ضروريان لبناء المواطن الصالح، بل ورفض إدعاءات غاندي بأن المدارس والمشافي والمحامون والأطباء رجس من عمل “البريطان” ينبغي التخلص منهم.
وبما أن الشيء بالشيء يذكر، فهناك الزعيم الروحي لبعض البوذيين في التبت (دلاي لاما)، والذي يحرص الغرب على تمجيده وصولا إلى منحه جائزة نوبل للسلام، دون أن يفتح الله على أي وسيلة إعلامية بكلمة حول “كيف خدم السلام”، رجل ظل يتلقى راتبا شهريا ضخما من جهاز المخابرات المركزية الأمريكي، وكان المدافع الأول في تسعينات القرن الماضي عن حق الهند في امتلاك السلاح النووي (طالما يشكل هذا رادعا للصين التي تعاديها الولايات المتحدة التي ترعى نشاطه).
كلما رصدت السخاء في توزيع الألقاب على غير مستحقيها، تذكرت الشاعر الأندلسي ابن شرف، الذي عاش في فترة من أسوأ فترات الضعف والهوان في تاريخ الأندلس، حيث قال:
مما يزهدني في أرض أندلس
قول معتصم فيها ومعتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها
كالهر يحكى انتفاخاً صولة الأسد