مذ حَشَرَت التقنية أنفها في كل صغيرةٍ وكبيرةٍ من شؤون حياتنا ونحن لم نعد بخير؛ فقد عطَّلَت ما كان فينا من حِراك، بل وأكثر؛ إذ اجتازت إلى عقولنا، ودقَّت آخر مسمار في نعش رحيلها وانتقالها إلى عالم اللاوجود؛ فلا يُرى الواحد منا إلا كالمخمور، يسير بلا هدىً، ويلفُّ ويدور؛ يبحث عن ضالَّة عقله التي فقدها خلال ثوان، وقد كانت مستقرَّةً فيه قبل لحظةٍ من الآن.
كل لذَّةٍ ومتعةٍ كنا نجدها أصبحت كالسراب، نطاردها، ونلهثُ وراءها، فيحول بيننا وبينها من التقنية حجاب.
خَلَت من وَقْعِ أقدامنا الشوارع والحارات، وافتقدنا تبادل الزيارات؛ وأصبح مجرَّد اتصالٍ كافيًا للوِصال والسؤال عن الحال، وصوت القريب والبعيد حاضرٌ بلمس زرٍّ وقتما نريد.
ذهب من صلاتنا الخشوع، في القيام والسجود والركوع؛ فما إن تقام الصلاة حتى تنطلق نداءات الرنين، ويُخرِجَ الأجهزةَ من مخابئها الشوق والحنين، ولو كان في الأمر حيلة لظلت في الأكفِّ ولو لبرهةٍ قليلة.
اختفت الأُلْفَةُ تحت أسقف المنازل، واحتلَّت التقنية البيت، فأقامت الحواجز والعوازل، وما عاد الحديث والحوار ذو شجون؛ لأن كل فردٍ بما بين يديه مفتون، فلا غرابة أن يصبح البعض عن البعض مغيَّب، وأمر الرعيَّة من يد الرَّاعي مسيَّب.
لذة فنجان القهوة وكوب الشاي لم تعد برفقة صديق؛ يكفي جهازٌ يوثِّق اللحظة في مقهى ليكون خير رفيق.
أنوفنا لم تعد تنتشي برائحة الورق؛ لأنه في نار التقنية احترق.
بنان الأصابع زالت منها الطوابع؛ فقد حَفِيَت وهي تطارد أحرف الكتابة المهيأة، وأصبح اتكاؤها على القلم والتفنُّن في الخط عادةً سيئة.
وريشة الرسام لم يعد لها في ساحة الإبداع موضعٌ أو مُقام؛ لأن الذكاء الاصطناعي قد سجَّل الحضور، وأدهش بعروضه الغياب قبل الحضور، وليته يتوقف عند هذا الحد، لكن أغلب الظن أن ماهو قادمٌ من مصائبه لن يُعد.
الحقيقة أنني لو مضيت أرصد في فضاء التقنية الأضرار لغصَّت بها الأوراق، ولجفَّت من منابعها الأحبار. ولستُ عدوًّا للتقنية، ولا ملقيًا باللوم على كاهلها بقدر ما أنا مبدٍ الأسف على جاهلها، ذاك الذي رمى بكل محاسنها عرض الحائط، وراح يقتات منها على الحمائط.

0