المقالات

نحن أمة لا تتخلى عن ثوابتها

ظلت الثوابت السعودية في هذا البلد العتيد خطوطًا حمراء لا يمكن تخطيها بأي حال من الأحوال منذ عصر التكوين حتى الوقت الراهن، وهو ما يشكل أحد أسرار نجاح التجربة السعودية، ووصول المملكة إلى المكانة التي وصلت إليها الآن كدولة محورية في منطقة الشرق الأوسط، تتمتع باحترام وتقدير العالم كله، وبما يقدم الدليل على الدور الريادي والقيادي الذي تضطلع به الرياض في قيادة عالمها العربي والإسلامي، وفيما تقدمه لمجتمعها الدولي من دعم للقضايا والمشكلات التي تهدد أمن وسلام المنطقة والعالم، والعمل من أجل حل تلك القضايا بشتى الوسائل.
وقد حرصت المملكة منذ عهد القائد المؤسس الملك عبد العزيز – يرحمه الله – على إقامة علاقات صداقة وتعاون مع مختلف دول العالم وفي مقدمتها الدول الكبرى، وما اجتماع الملك عبد العزيز بالرئيس الأمريكي تيودور روزفلت في نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 في البحيرات المرة على ظهر البارجة كوينسي، واجتماعه برئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل في غضون ذلك الوقت في فندق البوريفاج بالفيوم في مصر إلا أحد مظاهر هذا التوجه.
ولم تكن علاقات الصداقة السعودية – الأمريكية في يوم من الأيام تضع الوطن السعودي في موضع الطرف التابع، بل ظلت تلك العلاقات تتسم بالندية والاحترام المتبادل. فلم تحل تلك الصداقة دون احتجاج الملك عبد العزيز على موقف الولايات المتحدة من هجرة اليهود إلى فلسطين عام 1938، ولم تحل تلك الصداقة أيضًا دون انتقاد المملكة لموقف الولايات المتحدة من تبني قرار التقسيم الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947. وتعتبر القضية الفلسطينية من أهم أسباب توتر العلاقات السعودية مع الولايات المتحدة، فقد سعت الرياض منذ بداية تدشين تلك العلاقات عام 1933 إلى استغلال علاقتها الجيدة مع أمريكا للضغط على واشنطن للعب دور إيجابي في العمل على حل القضية الفلسطينية بشكل عادل ومنصف. وقد أشار السفير الأمريكي الخامس لدى المملكة باركر هارت إلى أن العلاقات الأمنية بين المملكة وأمريكا التي تأثرت سلبًا بسبب الانحياز الأمريكي لإسرائيل، وتجاهل الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني شهدت انحسارًا واضحًا في الفترة 1953- 1954، وهو ما تمثل في إلغاء المملكة برنامج مساعدة أمريكية اقتصادي وتقني من جانب واحد. وتشير الوثائق الأمريكية إلى أن الأمير فيصل بن عبد العزيز – حينذاك- قال لتيري دوس نائب رئيس العمليات في شركة الزيت العربية الأمريكية إنه إذا لم تغير الولايات المتحدة سياستها الخارجية تجاه القضية الفلسطينية فإنه من المحتمل أن يجبر الملك عبد العزيز على تغيير موقفه من المصالح الاقتصادية في بلاده، وخاصة المصالح النفطية منها، حيث أن الملك توصل إلى قناعة بأنه لا يوجد فرق بين الحكومة الأمريكية وسياستها، “فكلاهما سيان”. ولا ننسى موقف شهيد القدس الفيصل – يرحمه الله – الذي قطع البترول عن أمريكا في حرب العبور عام 1973. لقد كان هذا التحدي الأكبر من السعودية للولايات المتحدة.
وتجدر الإشارة إلى أن خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز – يرحمه الله – سبق وأن طلب من السفير الأمريكي في السعودية عام 1988 مغادرة البلاد في ظرف ثلاثة أيام عندما احتج السفير الأمريكي على صفقة الصواريخ الصينية التي أبرمتها السعودية مع الصين.
وقد ظلت المملكة تعتبر تأييدها ودعمها للقضية الفلسطينية وتضامنها مع الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني أحد ثوابتها التي تشكل إطارًا عامًا لسياستها الخارجية منذ عهد القائد المؤسس الملك عبد العزيز – يرحمه الله- حتى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمين سمو الأمير محمد بن سلمان. وقد جاء البيان الصادر عن الخارجية السعودية مؤخرًا تتويجًا لسلسلة من الخطوات السعودية الداعمة لنضال الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة. فقد أكد ذلك البيان على ثبات الموقف السعودي تجاه قضية فلسطين، وحمل رسالة واضحة أن هذا الملف ليس محل تفاوض أو تنازلات أو مزايدات. كما أن تشديد البيان على أن مواقف المملكة إزاء الحق الفلسطيني لا تقبل المساومة، لهو خير دليل لا يقبل الشك في تمسك المملكة بالمبادرة العربية للسلام التي أقرتها قمة بيروت العربية في مارس 2003. وقد نص البيان بكل وضوح بأنه بدون سلام عادل وشامل يضمن قيام دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران 1967، وعاصمتها القدس الشريف، فلن تكون هناك أي علاقات دبلوماسية (محتملة) مع إسرائيل. وقد توج هذا البيان التاريخي الذي كتب بمداد من الذهب ليكون شهادة للتاريخ على الموقف السعودي إزاء قضية العرب والمسلمين الأولى، بالقول إنه يحمل رسالة صارمة تؤكد على سيادة واستقلالية القرار السعودي وأن تحقيق السلام الدائم والعادل لن يكون دون حصول الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة وفقًا لقرارات الشرعية الدولية. البيان بهذا المعنى وذلك المفهوم الواضح يحمل الرد القاطع على كل من يشكك بحقيقة وصحة الموقف السعودي إزاء القضية الفلسطينية.
هذا البيان الرصين يقدم الرد الأقوى على كل التقولات التي تناقضه، وهو يعكس أحد أهم الثوابت والأولويات السعودية .

د. إبراهيم فؤاد عباس

مؤرخ ومترجم وكاتب - فلسطين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى