عام

مرافعة دفاع عن اللسان العربي

زاوية منفرجة

انعقد وانفض، في الأسبوع الأول من شهر يناير المنصرم، مؤتمر مكة الدولي السادس للغة العربية، ومخرجات مثل هذا المؤتمر، يسري عليها حكم صلاة الجنازة، وكأنما أمر هذه اللغة يخص فقط “أولياء أمورها”، وهم أقلية تتوزع بين مجمعات اللغة، والمؤسسات الأكاديمية، الى جانب بعض الأفراد الذين اضطلعوا تطوعا بأمر سدانة اللغة، والحفاظ على معمارها من البلى والجفاف والتصحر.

ولا أزعم أنني فطحل في اللغة العربية (وضع الكمبيوتر خطا أحمر تحت “فطحل”)، ولكنني حريص على الاستزادة منها، لأني أحبها بوصفها عنصرا أساسيا في تكويني الثقافي، وبالتالي هويتي، وأخاف عليها من التلوث والتحنط والتيبس والتكلس، وأعتز بقوة بأنني عاشق للغة العربية، رغم أنها ليست لغتي الأم (التي هي النوبية، والتي ليس فيها تذكير وتأنيث، ولا حروف/ أصوات: ث، ح، خ، ذ، ز، ص، ض، ط، ظ، ع، غ، وتأسيسا على هذا فاسمي عند أهلي هو جافر أباس)، واعتز بالنهل مما تيسر من الثقافة العربية، واعتز بحبي الشديد للشعر العربي من جرير والفرزدق وليس انتهاء بقاسم حداد، ومن ثم فإنني عاتب على أهل الخليج: كيف يكفلون العمالة الآسيوية، ثم يتركون اللغة العربية – لغة القرآن – تحت كفالة الآسيويين؟ دخلت قبل حين من الزمان بقالة يديرها هندي واشتريت علكة وسألته عن سعرها، فقال: ييك روبيه، فأعطيته ريالا، وواصلت الوقوف أمامه، فقال لي: كلاس بابا، ييك روبية بس، ما في سيادة (زيادة)، فقلت له إنه طالما أن سعرها روبية واحدة، فإنني أريد “باقي المبلغ”، فلم يفهم مرادي، فشرحت له أن ذلك الريال يساوي نحو 16 روبية هندية، وعليه أن يرد لي ما يعادل 15 روبية، فنظر لي باستنكار وقال: انت مُك (مخ) ما في بابا؟ قلت له: تشيل مني 13 روبية، ثم تشكك في قواي العقلية؟ وكيف أنا بابا مال أنت؟ (بالمصري: كنت خلفتك ونسيتك؟).

وبينما أنت تضيع وقتك في قراءة هذه السطور، يكون هناك مليار شخص يدرسون اللغة الإنجليزية في مختلف أنحاء العالم، بينما يبلغ عدد من يستخدمون الإنجليزية لتسيير أعمالهم في هذه اللحظة زهاء 950 مليون شخص، وتسهم الكتب وأشرطة الفيديو والأفلام الإنجليزية بخمسة مليارات من الجنيهات الاسترلينية في الاقتصاد البريطاني، وتبلغ حصة المواد التعليمية وحدها، نحو مليار ومئتي مليون جنيه، من النوع الذي تزينه صورة الملكة إليزابيث، كل ذلك حدا بالحكومة البريطانية إلى زيادة مخصصات المجلس الثقافي البريطاني، ليكثف من حملاته لتدريس الإنجليزية، بحيث تصبح لغة قطاع الأعمال عالمياً بلا منازع، خاصة وأن ظهور الإنترنت جعل تلك اللغة الأداة الرئيسية، لنقل وتبادل المعلومات والمراسلات.

أما الولايات المتحدة، فإن عائداتها من المواد الترفيهية باللغة الإنجليزية، تبلغ تريليونات الدولارات سنويا، وكم من فيلم أمريكي كانت عائداته مليار دولار في اليوم الأول لعرضه، وتكسب مطربة مثل بيونسي ناولز من “شريط” واحد، أكثر مما تجنيه سبع دول عربية من المستحقة للزكاة، من صادراتها في سنة كاملة، ويعتقد البعض خطأ أن الشباب العربي يبذل المال الكثير للاستماع للعجرمية، واختها في ال”*****” هيفاء، في حين أن حقيقة الأمر، هي أن شبابنا معجبون بتضاريس كل مطربة تستخدم معظم أعضاء جسمها، لشد الانتباه، وليس بأصواتهن، ومن ثم يتابعون “إنتاجهن” على يوتيوب في الإنترنت، بعقلية “سمع وشوف”، وبلا مقابل.

والشاهد هو أن سدنة اللغة الإنجليزية، يستخدمونها لإنتاج مواد تشد الشعوب الناطقة بلغات أخرى، وتشجعها على تعلمها، وبالمقابل تقوم وزارات التربية العربية، بجهد ضخم لتنفير الطلاب من اللغة العربية، بحشو مناهج العربية بمواد ونصوص سخيفة ثقيلة على القلب، أكثر من نصفها ينضح بالنفاق ومسح الأجواخ ولعق الأحذية، ليستقي منها الطلاب أصول التعبير والبلاغة، وقواعد النحو.

ويحلو لكثير من الحكومات العربية التبجح بتعريب المناهج الدراسية، مع أن كل ما في الأمر، هو أن المقررات الأكاديمية مكتوبة بلغة عربية فصيحة، ولكن التدريس يتم باللغة العامية الدارجة: نحط الخلطة ع نار هادية، وايش راح يصير؟ وأبو ضبي عاصمة الإمارات، والقاهرة عاصمة مصر. والسلفر لونه أصفر، ما يدوبش في المَيّه وما ينجذبش بالمغناطيس.

ويوكل تدريس مناهج اللغة العربية على وجه الخصوص، لأناس بلا حافز ولا دافع، فمدرس اللغة العربية، أقل مرتبة في نظر مسؤولي التعليم من مدرسي بقية المواد، ولا يحلم بالترقية إلا بعد أن يشيب الغراب، ويكون هو وقتها شاب وأصيب بالقرف والخرف، والخرف علة تصيب المدرسيين في سن مبكرة، والدليل القاطع على ذلك، هو أنني بدأت حياتي المهنية مدرساً!!!!!.

وما من أب أو أم في العالم العربي، إلا وأصابه هوس تعليم أبنائه وبناته الإنجليزية، وذلك عين العقل لأنها لغة أساسية للمعارف والعلوم، ولكن أن يسعى إنسان لإجادة لغة أجنبية بينما إلمامه بلسانه الأصلي، مثل إلمام فيفي عبده بموقع سيناء في الخريطة، فهذا عيب ونقيصة.

ولا آتي بجديد عندما أدعو الى تبسيط مناهج اللغة العربية المدرسية، فقد كان هناك على مر الزمان من يدعون لذلك؛ بعضهم من منطلق كره قواعد النحو، ومنهم عمار الكلبي الذي قال بعد أن عابوا عليه خطأً نحويا:

ماذا لقينا من المستعربيـــن ومن
قياس نحـــــــــوهم الذي ابتدعوا

إن قلت قافية بكرا يكـــــــون بها
بيت خلاف الذي قاسوه أو ذرعوا

قالوا لحنت وهذا ليس منتصـــــبا
وذاك خفض وهـــذا ليس يرتفع

كم بين قوم قد احتالوا بمنطـــقهم
وبين قوم على إعرابهـــم طبعـوا

ما كل قولي مشروحا لكم فخـذوا
ما تعرفون وما لم تعرفوا فدعـوا

جعفر عباس

كاتب صحفي (ساخر)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى