
ينطوي خطاب سمو الأمير تركي بن فيصل بن عبد العزيز على أهمية خاصة لعدة أسباب من أبرزها أنه يجئ من قبل أكثر سفراء المملكة العربية السعودية لدى واشنطن نشاطًا في مجال تفعيل العلاقات السعودية الأمريكية عندما كانت تلك العلاقات تشهد انحسارًا واضحًا عقب هجمات 11 سبتمبر الإرهابية حيث لعب سموه دورًا هامًا في ترميم تلك العلاقات. كما أن سموه استغل فترة شغله هذا المنصب في التفاعل مع المجتمع الأمريكي من خلال المحاضرات والندوات التي كان يشارك فيها حيث قام بجهد كبير في إلقاء الضوء على الجهود السعودية في مكافحة الإرهاب على الصعد المحلية والإقليمية والدولية وأبان بشكل واضح كيف أن السعودية كانت الضحية الأولى للإرهاب.
كما لعب سموه دورًا كبيرًا في شرح ملابسات القضية الفلسطينية وإلقاء الضوء على عدالتها وضرورة حصول الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة، ولعبت مقالاته في الصحف الأمريكية دورًا كبيرًا في التأثير على الرأي العام الأمريكي لتغيير نظرته لهذه القضية. والواقع أن خطاب سموه اكتسب أهمية خاصة كونه جاء بالتزامن مع بيان الخارجية السعودية القوي الذي أكد على ثبات الموقف السعودي الرافض للتطبيع مع إسرائيل إلا من خلال إقامة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران 1967 بعاصمتها القدس الشرقية. ويمكن اعتبار خطاب سموه بأنه خطاب موجه للشعب الأمريكي كله، وليس إلى ترامب وحده. أما الأهمية الأخرى للخطاب فكونه أتى بلهجة دبلوماسية راقية، وبأسلوب يفهمه الأمريكيون من ترامب إلى رجل الشارع الأمريكي.
وينبغي الإشارة هنا إلى أنه من الصعب الفصل بين خطاب سموه ومقابلته مع قناة سي إن إن الإخبارية في غضون ذات الوقت، بما يعد هجوم دبلوماسي على الادعاءات المكذوبة بأن السعودية لا تشترط قيام دولة فلسطينية للتطبيع مع إسرائيل، فقد أوضح سموه وأكد على ثبات الموقف السعودي الذي عبر عن نفسه بقوة في المحافل الدولية وسط هذه الادعاءات ، سواءً في القمة الإسلامية في الرياض، أو القمة العربية، أو قمة دول الخليج، وكل المحافل الدولية والمؤتمرات التي عقدت في الرياض وأكدت على ضرورة وجود دولة فلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية. وجاء تحذير سموه من أن اقتراح الرئيس ترامب بتهجير الفلسطينيين من غزة لا يعني سوى مزيد من الصراعات وسفك الدماء، وأن التطهير العرقي في القرن الحادي والعشرين يمكن التغاضي عنه هو ضرب من الخيال، وأن الاقتراح يعتبر في حد ذاته – كما وصفه السياسي الفلسطيني مصطفى البرغوثي جريمة حرب.
وإذا ما عدنا إلى الخطاب سيكون أول ما يلفت نظرنا هو مخاطبة سموه ترامب باللهجة التي اعتاد ترامب مخاطبة العالم بها ، وهي المطالبة المباشرة بما يريده، وهو هنا اعتراف واشنطن بالدولة الفلسطينية، وهو يعلم جيدًا ، كما كان يعلم ترامب بأن الرئيس السيسي وملك الأردن عبدالله الثاني سيرفضا استقبال اللاجئين الفلسطينيين من غزة على أراضيهم، وأنه يتعذر تحقيق هذا المطلب- بالرغم من أنه من الواضح أن ما يطلبه الأمير تركي من الرئيس ترامب ليس من المستحيلات، فمن المفترض أن يدرك ترامب من الأساس أن شعبا ضحى بأكثر من 60 ألف انسان وعشرات آلاف الجرحى والمصابين والمعاقين، إلى جانب الألآم والمعاناة التي ظل يقاسيها على مدى خمسة عشر شهرًا من التجويع والحصار والقصف المتواصل الذي استهدف البيوت والمستشفيات والمساجد والمدارس وعموم البنية التحتية، من المستحيل لمثل هذا الشعب أن يرضخ لأي ضغوط تدفع في اتجاه رحيله عن أرضه وتكرار نكبة 48، فقد شطب الشعب الفلسطيني مفردة “اللجوء” من قاموسه الوطني، ولم يعد لها أى ذكر في هذا القاموس.
لقد خاطب سموه الرئيس ترامب بنفس اللهجة التي سبق وأن خاطب بها جده ووالده وأخيه سعود الفيصل- يرحمهم الله- وأعمامه ملوك المملكة العربية السعودية سعود وفيصل وخالد وفهد وعبد الله – يرحمهم الله – وعمه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمين سمو الأمير محمد بن سلمان – حفظهما الله – أمريكا والعالم والأمم المتحدة حول عدالة القضية الفلسطينية والظلم الشديد الذي تعرض له الشعب الفلسطيني من قبل الصهاينة والجانبان الأمريكي والبريطاني اللذين وقفا بجانب أولئك الصهاينة وقدما لهم الدعم السياسي والمعنوي والمالي والعسكري على مدى سنوات عدة، وأوضح ببليغ العبارة أن اللجوء الوحيد الذي ينبغي أن يكون متاحًا لأهالي غزة الذين يعتبرون بغالبيتهم من اللاجئين الذين نزحوا من ديارهم في نكبة 1948 هو اللجوء إلى ديارهم وبساتين البرتقال والزيتون في حيفا ويافا وغيرهما من المدن والقرى التي فروا منها أو طردوا منها بالقوة على يد الإسرائيليين.
لقد شخص سمو الأمير تركي الحالة الفلسطينية والنزاع الفلسطيني – الإسرائيلي، والدور الأمريكي – البريطاني في هذا النزاع في حقيقتين تاريخيتين لا تقبلان أي شك: أولاهما وقوف أميركا والمملكة المتحدة، المنتصرتان في الحرب العالمية الثانية، إلى جانب عمليات الإخلاء القاتلة للفلسطينيين من ديارهم وأراضيهم، والمساعدة في تسهيلها، وثانيهما عدم رغبة أميركا والمملكة المتحدة في استقبال ضحايا محرقة أدولف هتلر، لذا فقد اكتفتا بإرسالهم إلى فلسطين.
لغة الدبلوماسية البارعة التي أنهى بها سموه الخطاب مخاطبًا الرئيس الأميركي بقوله: إن نيتكم المعلنة لإحلال السلام في فلسطين تحظى بإشادة كبيرة في منطقتنا من العالم. وأقترح بكل احترام أن الطريقة لتحقيق ذلك هي إعطاء الفلسطينيين حقهم غير القابل للتصرف في تقرير المصير ودولة عاصمتها القدس الشرقية، كما هو منصوص عليه في قراري الجمعية العامة للأمم المتحدة 181 و194 وقراري مجلس الأمن 242 و338 ومبادرة السلام العربية، هذه اللغة الواضحة والصريحة تؤكد على أن المملكة ماضية قدما في دعمها للقضية الفلسطينية وتوظيف جهودها السياسية والإعلامية والدبلوماسية لخدمة هذه القضية والانتصار لحقوق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته الحرة المستقلة على ترابه الوطني وفق المرجعيات والقرارات الدولية .
بيان الخارجية السعودية وخطاب سمو الأمير تركي الفيصل ومقابلته مع قناة سي إن إن الإخبارية رسالة واضحة للرئيس ترامب يتلقاها قبل زيارته المزمعة للمملكة.